«انهض واقتل أولًا».. التاريخ السري للاغتيالات الإسرائيلية

عرض كتاب «انهض واقتل أولًا» للكاتب الإسرائيلي رونين بيرجمان

بسام عباس
انهض واقتل أولا

أصبحت عمليات الاغتيال جزء من استراتيجية إسرائيل الأمنية، وقد اكتسبت زخمًا منذ قيام إسرائيل عام 1948، حيث حفل تاريخها بالمجازر وعمليات التصفية التي استهدفت العديد من القيادات الفلسطينية ومعارضي المشروع الصهيوني في الداخل والخارج.

وتفتح عودة إسرائيل إلى سياسة الاغتيالات، في إطار الحرب على غزة، الباب على محاولة التعرف على استراتيجية الاغتيالات ومدى اعتماد الاحتلال عليها في تحقيق مزاعم الأمن، وهو ما يجعلنا نسلط الضوء على كتاب “انهض واقتل أولًا” للكاتب الإسرائيلي “رونين بيرجمان”، الذي يكشف التاريخ السري للاغتيالات المستهدفة في إسرائيل.

 بيانات الكتاب:

مؤلف الكتاب: رونين بيرجمان

دار النشر: راندوم هاوس

سنة النشر: 2018

عدد الصفحات: 750

 ملخص الكتاب:

– عنوان الكتاب مقتبس من التلمود (إذا جاء شخص ليقتلك، انهض واقتله أولًا)

– يرى الكاتب أن فلسفة الاغتيالات التي نفذتها اسرائيل تقوم على هدفين:

الأول: معرفة الخطر المتوقع على الدولة ومحاولة إيقافه.

الثاني: الوصول للأشخاص الذين نفذوا عمليات ضد إسرائيل سواء داخل الدولة أو خارجها وتصفيتهم

– استخدام إسرائيل لعمليات الاغتيال يرجع إلى عدة أسباب، منها أن الأمر ينبع من جذور الحركة الصهيونية ومن “صدمة الهولوكوست”، التي جعلت الإسرائيليين يشعرون دائمًا أنهم مهددون بخطر الإبادة، كما ترجع أيضًا إلى إيمان إسرائيل بأن وقت الخطر لن يساعدها أحد، لأنها دولة صغيرة، ولأن الدول العربية المجاورة تعمل على تدميرها.

تعتبر إسرائيل هذه العمليات مشروعة وتهدف لحماية أمنها القومي، حتى لو كانت هذه العمليات ستعرض أرواح المدنيين الأبرياء للخطر، فمن وجهة نظر النظام الإسرائيلي فإن تعريض المدنيين الأبرياء للقتل شر لا بد منه.

يوجد في إسرائيل قانونان يحكمان عمل قياداتها، أحدهما للمواطنين العاديين. والآخر غير مكتوب غير أنه فعال داخل أجهزة الاستخبارات والمؤسسة الأمنية التي تسمح باستخدام تدابير عدوانية كالتعذيب والاغتيال وانتهاك الخصوصية، وكل هذا بعلم رئيس الوزراء أعلى سلطة تنفيذية في إسرائيل.

رونين بيرجمان، مؤلف الكتاب

رونين بيرجمان، مؤلف الكتاب

– يبدأ الكتاب بتأسيس منظمة “بار جيورا” عام 1907 على يد “يتسحاق بن تسفي”، الذي أخذ اسمها من “سيمون بار جيورا”، زعيم تمرد فاشل ضد روما في القرن الأول الميلادي، وأصبحت تدعى فيما بعد “هيشومير”، ثم الهاجانا، وأخيرًا أصبح اسمها مركز جيش الدفاع الإسرائيلي.

– كان من بين أول الضحايا “بار جيورا” آراف بن أرسين، ضابط شرطة عربي، الذي اعتبره بن تسفي معاديًّا للمستوطنين في 1909.

– لم تتوقف عمليات القتل بعد إعلان وعد بلفور، حيث أمر بن تسفي باغتيال زعيم يهودي ديني، “يعقوب دي هان”، الذي اشتهر بمعارضته للصهيونية في 1924، وكان القناص الذي قتله هو “تومي أبراهام” الذي انفصل عن ديفيد بن جوريون، لتأسيس أرجون تسفي لئومي (المنظمة العسكرية القومية) في 1931، وكان بن جوريون في ذلك الوقت يعارض عمليات الاغتيال، ثم غيّر رأيه عندما تولى السلطة في الدولة الجديدة.

– لم ينج من فصائل الاغتيال السرية الصهيونية أحد من المستهدفين سواء كانوا عرب أو بريطانيين أو عسكريين أو مدنيين.

– إسرائيل استخدمت الاغتيال كأداة عسكرية لعدة أسباب، منها أن الأمر ينبع من جذور الحركة الصهيونية ومن “صدمة الهولوكوست”، التي جعلت الإسرائيليين يشعرون دائمًا أنهم مهددون بخطر الإبادة، كما ينبثق من إيمان إسرائيل أن وقت الخطر لن يساعدها أحد، لأنها دولة صغيرة، ولأن الدول العربية تؤمن منذ أمد بعيد بضرورة تدميرها.

– نفذت إسرائيل ما لا يقل عن 2700 عملية اغتيال في 70 عامًا من وجودها، بينما فشل كثير من تلك العمليات، إلا أنها لا تزال أكثر بكثير من أي دولة غربية أخرى.

– اغتالت إسرائيل نحو ألف شخص قبل “الانتفاضة الثانية”، كما نفذت 168 عملية “تصفية” ناجحة خلال هذه الانتفاضة، و800 عملية قتل مستهدف.

– من أبرز عمليات الاغتيال تلك التي استهدفت حسن سلامة، قائد القوات الفلسطينية في الجزء الجنوبي من البلاد، الذي كبد هو وقواته اليهود خسائر فادحة في الأرواح، وبعد عدة عمليات استهداف فاشلة، قبل أن يستشهد في إحدى معارك 1948.

– تمكنت وحدتين من نخبة الهاجاناة من التخلص من الشخصيات العربية التي تزود الفلسطينيين بالسلام في ميناء حيفا، كما تخلصت من الشيخ نمر الخطيب لما له من تأثير كبير في الشارع الفلسطيني

– قام عملاء إسرائيل بتصفية بعض العلماء الألمان الذين عملوا في مصر بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية لتطوير القدرات الصاروخية للجيش المصري ، فقد تمكن الموساد من تجنيد أوتو سكورزني وهو ضابط نمساوي خدم في الجيش الالماني وكان مقرباً من هتلر ، فقد قدم معلومات غاية في الأهمية عن العلماء الالمان الذين كانوا يعملون في مصر في عهد نجيب وناصر، نظراً لأهمية الموقع الذي كان يشغله فقد عمل مستشارًا أمنيًا لأول رئيسين مصريين (جمال عبدالناصر ومحمد نجيب) ودرب القوات الخاصة المصرية، كما درب عددًا من اللاجئين الفلسطينيين من بينهم ياسر عرفات للقيام بعمليات فدائية ضد اسرائيل، وقدم معلومات في غاية الاهمية لإسرائيل والولايات المتحدة عن مصر في عهد عبدالناصر.

– كان مخاوف إسرائيل تنبعث من تهديدات عبدالناصر بتدمير إسرائيل وإلقائها في البحر، وكان الإعلان عن امتلاك مصر لصواريخ “أرض- أرض” من أبرز المخاوف التي واجهت إسرائيل، وجعلت قادتها يأمرون باغتيال العلماء الألمان الذين ساعدوا عبدالناصر،

– في 1962، نفذ الجيش المصري عرضًا للصواريخ في القاهرة، بحضور العديد من الدبلوماسيين الأجانب، وأعلن جمال عبدالناصر بفخر أن الجيش قادر الآن على ضرب أي نقطة “جنوبي بيروت”. في اليوم التالي، بثت الخدمة العبرية للإذاعة المصرية صوت الصواريخ مع تعليق للمذيع يعتبر فيه أن “هذه الصواريخ تهدف إلى فتح أبواب الحرية للعرب”، وأنها تسعى “لاستعادة الوطن الذي سُرق كجزء من المؤامرات الإمبريالية والصهيونية”.

– بعد أسابيع قليلة، علم الإسرائيليون أن فريقًا من العلماء الألمان لعبوا دورًا أساسيًا في تطوير هذه الصواريخ، ورغم أن الحرب العالمية الثانية كانت قد انتهت منذ حوالي 17 عامًا وقتها إلا أن الإسرائيليين تذكروا الهولوكوست، فبدعم من العلماء الألمان أصبح عبدالناصر يمتلك أسلحة دمار شامل تهدد وجودهم، مما جعلهم ينظرون لعبدالناصر على أنه “هتلر الشرق الأوسط”. وقد صدرت الصحافة اليهودية بعناوين مثل “النازيون الألمان السابقون يساعدون الآن عبدالناصر في مشاريع الإبادة الجماعية المعادية لإسرائيل”، أما الموساد، فبدأ يفكر في طريقة مختلفة للتعامل مع هذه “الكارثة”.

– سخًّر رئيس الموساد “إيسر هاريل” الجهاز بأكمله لتتبع هذه القضية. واستطاع الموساد اختراق سفارات وقنصليات مصرية في عدة عواصم أوروبية بهدف تصوير كل الوثائق التي تحمل معلومات عن هذا المشروع، وهو الأمر الذي جعل الموساد يمتلك فهم أولي لما تخطط القاهرة له.

– تخلصت إسرائيل أيضًا من نخبة من العلماء الايرانيين ممن عملوا في المفاعل النووي الإيراني في قلب طهران، ولا زال هؤلاء العلماء هدفًا للموساد من أجل منع إيران من الوصول إلى القنبلة النووية ، كما أن خيار القيام بقصف المفاعل النووي الإيراني لا يزال قائمًا لدى القيادات الإسرائيلية العسكرية والسياسية.

–  تعد عمليات الاغتيال التي نفذتها إسرائيل داخل فلسطين بالمئات، حيث استهدفت قادة ميدانيين وسياسيين في الانتفاضة الاولى والثانية مثل يحيى عياش سنة 1996، وإبراهيم المقادمة و3 مساعديه 2003، وإسماعيل أبو شنب، أحد قادة حماس البارزين في 2003، وجميع هذه الاغتيالات تم تنفيذها في غزة.

– أبرز الاغتيالات في الداخل الفلسطيني، كان اغتيال مؤسس وقائد حركة حماس الشيخ أحمد ياسين في 22 مارس 2004، وخليفته فيما بعد الدكتور عبدالعزيز الرنتيسي في 17 أبريل 2004، وهذه الاغتيالات الأخيرة جاءت بعد اطلاق رئيس الشين بيت آفي دختر مصطلح القتل المستهدف في الانتفاضة الثانية.

– اعتمدت الولايات المتحدة  العديد من التقنيات الإسرائيلية بعد الهجمات الإرهابية التي وقعت في 11 سبتمبر 2001، ففي عهد الرئيس جورج دبليو بوش تم تنفيذ نحو 48 عملية اغتيال، فيما صرح الرئيس باراك أوباما بتنفيذ نحو 353 عملية.

– إن أنظمة القيادة والتحكم، وغرف الحروب، وأساليب جمع المعلومات، وتكنولوجيا الطائرات والطائرات بدون طيار، التي يستخدمها الأمريكيون وحلفاؤهم تم تطويرها في إسرائيل.

– يبرر عملاء الاغتيال في الموساد عملهم بأن التدابير المتطرفة تبدو أقل حدة عندما يكون الأمر مسألة حياة أو موت.

– يقول مؤلف الكتاب إن استخدام إسرائيل للاغتيالات السرية بشكل كبير دفع البلاد للاعتماد عليها كان أمرًا خاطئا، لأن اعتماد القتل لحل بعض المخاوف الاستراتيجية والسياسية المعقدة كان أكبر خطأ.

–  اغتيال بعض المقاتلين، ومن بينهم خليل الوزير المعروف باسم أبو جهاد في عام 1988، شجع على المزيد من المطالب الراديكالية، ودفع إلى حل مستدام مع الفلسطينيين كان بعيدا عن متناول الإسرائيليين.

– من الصعوبة بمكان التنبؤ بأن العملية سوف تنكشف. ويستشهد الكاتب بعدد العمليات التي تم إحباطها وجرت بصورة خاطئة جدًا، بما في ذلك حادث هروب كلب مفخخ (اكتشفه حزب الله لاحقًا)، إضافة لمخطط تنويم السجين الفلسطيني ليصبح قاتلا تابعا للموساد بأسلوب “المرشح المنشوري” الطائش . (وبعد أن كان مسلحا بمسدس وأرسل في مهمته، قام الرجل بتسليم نفسه فورا إلى الشرطة الفلسطينية وقال إن الإسرائيليين حاولوا غسل دماغه).

– يمر تحديد هدف الاغتيال داخل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية عبر خطوات مؤسساتية وتنظيمية، في عملية مشتركة بين المجتمع الاستخباراتي الإسرائيلي الأوسع والقيادة السياسية.

– بعض الأهداف تحددها الأجهزة الأمنية المحلية في إسرائيل من خلال جمع معلومات استخبارية عامة عبر وحدات داخل المؤسسات العسكرية والاستخبارية التي تلاحق الأشخاص المطلوب اغتيالهم .

– بعد تحديد الهدف يقيّم الموساد لاحقا المعلومات الاستخبارية للبت في قتله من عدمه، وفي الفوائد من قتله والطريقة المثلى لتنفيذ ذلك.

– بعد أن تنتهي وحدة خاصة من الموساد من الملف، تنقل النتائج إلى رؤساء لجنة الخدمات الاستخبارية التي تشمل قادة منظمات الاستخبارات الإسرائيلية المعروفة باسم “فاراش”، التي تبحث عملية الاغتيال، وتقدم معلوماتها واقتراحاتها، لكنها لا تملك السلطة القانونية للموافقة على العملية، فرئيس الوزراء هو المخول بذلك.

– يخلص الكتاب إلى أن إسرائيل لم يعد عليها خطر بعد تدمير الجيشين العراقي والسوري ، كما أن سياسة الاغتيالات آتت أُكلها، فقد أخرجت منظمة التحرير الفلسطينية من أوروبا بعد عملية ميونخ ، كما أوقفت العمليات الانتحارية بعد الانتفاضة الثانية، أضف إلى ذلك أنها أبطأت البرنامج النووي الايراني، مما يجعل خيار الاغتيالات خياراً مقبولاً وفعالاً لدى القادة الإسرائيليين.

– بصرف النظر عن الاعتبارات الأخلاقية في مثل هذه الطريقة في التخلص من الأعداء الذين يشكلون خطرًا على اسرائيل ، فالاعتبارات الأخلاقية تختص بالآخر، وليس بالعقيدة والعقلية اليهودية التي تنظر نظرة دونية لغير اليهودي، بل إن هذه السياسة تأتي من صلب هذه العقيدة “انهض واقتل أولًا”.

****

في 18 مايو 2001، جاء ناشط من حركة حماس، يرتدي معطفاً أزرق داكناً طويلاً، إلى نقطة تفتيش خارج مركز هشارون للتسوق، بالقرب من مدينة نتانيا في شمال إسرائيل. وأثار مظهره شكوك الحراس الذين منعوه من الدخول، وعندئذٍ قام بتفجير نفسه، وأسفر التفجير عن مقتل خمسة من المارة. وفي الأول من يونيو، قتل مفجر انتحاري آخر 21 شخصاً، معظمهم من المهاجرين اليهود الشباب القادمين من روسيا، والذين كانوا يقفون في صف خارج مرقص على شاطئ في تل أبيب. وكان صاحب صالة الرقص، شلومو كوهين، قد خدم في قوات كوماندوس البحرية، “لكن هذا كان أسوأ شيء رأيته في حياتي”، قال، والألم في عينيه.

وبحلول أوائل نوفمبر، كان المفجرون الانتحاريون يضربون في شوارع إسرائيل كل أسبوع تقريباً، وأحياناً كل بضعة أيام. وفي أول ديسمبر، قتل ثلاثة مفجرين بالتعاقب 11 شخصاً في مركز بن يهودا في القدس. وفي اليوم التالي، فجر رجل من نابلس نفسه على متن حافلة في حيفا، وقتل 15 شخصاً وجرح 40.

لكن أكثر الهجومات فظاعة كان الذي وقع في عيد الفصح اليهودي، في الطابق الأرضي من “فندق بارك” في ناتانيا، حيث كانت تقام مأدبة الفصح لحوالي 250 شخصاً من فقراء المدينة. في ذلك اليوم، دخل مفجر انتحاري متنكرا بزي امرأة يهودية متدينة إلى القاعة وفجر نفسه، فقتل 30 شخصاً -أصغرهم بعمر 20 عاماً وأكبرهم بعمر 90- وجرح 143 آخرين. وكان جاكوبوفيتز، مجري المولد والناجي من معسكرات الموت النازية، من بين القتلى. وفي شهر مارس 2002 وحده، قُتل 138 رجلاً وطفلاً على أيدي المفجرين الانتحاريين، وجُرح 683 آخرون.

كان العام 2002، وفقاً لآفي ديتشر، رئيس جهاز المخابرات المحلية، الشين بيت، آنذاك، “أسوأ عام للهجمات الإرهابية ضدنا منذ إقامة الدولة”.

كان مجتمع المخابرات الإسرائيلي قد واجه المفجرين الانتحاريين من قبل، لكنه لم يتمكن من اجتراح أي حل لمواجهة ذلك. وقال يتسحاق بن يسرائيل، رئيس إدارة تطوير الأسلحة والبنية التحتية: “ما الذي يمكنك أن تفعله ضد مفجر انتحاري عندما يكون سائراً مسبقاً في شوارعك، باحثاً عن مكان لينسف فيه نفسه؟”.

الإرهاب بشكل عام، والهجمات الانتحارية بشكل خاص، خلقا وضعاً غريباً ومثيراً للحنق داخل جهاز الشين بيت وقوات الدفاع الإسرائيلية. كانوا يعرفون بشكل عام من الذي يقف وراء هجوم ما، لكنهم لم يكونوا يستطيعون جلبه من مكانه البعيد عميقاً داخل المناطق الخاضعة للسيطرة الفلسطينية. وقال جيورا آيلاند، رئيس مديرية التخطيط في قوات الدفاع الإسرائيلية في ذلك الوقت: “كان هناك حسٌّ من العجز”.

كان ديشتر، مدير الشين بيت، قد قدم مسبقاً استراتيجية جديدة للتعامل مع المشكلة لرئيس الوزراء آرئيل شارون خلال سلسلة من الاجتماعات قرب نهاية العام 2001. في البداية، كان الوزراء مترددين. لكن شارون همس لديشتر في اجتماع عقد بعد هجوم حيفا الانتحاري: “افعلها. اقتلهم جميعاً”.

بما أن التقاط المفجرين الأفراد لم يكن فعالاً، قرر ديشتر نقل التركيز. بدءاً من نهاية العام 2001، سوف تستهدف إسرائيل “البنية التحتية الموقوتة” الكامنة وراء الهجمات. فبعد كل شيء، كان الشخص الذي فجر نفسه أو زرع قنبلة أو ضغط زناداً في العادة مجرد الحلقة الأخيرة من سلسلة طويلة. وهناك المجنِّدون، والسعاة، وباعة الأسلحة، وكذلك أولئك الذين يحتفظون بمنازل آمنة ويتولون تهريب النقود. سوف يكون هؤلاء كلهم أهدافاً.

لم تتوان قوات الأمن الإسرائيلية عن العمل. وقتلت عمليات القتل المستهدفة التي نفذتها 84 شخصاً في العام 2001، و101 شخص في العام 2002، و135 شخصاً في 2003. وعلى النقيض من عمليات القتل المتفرقة التي نفذها في الخارج عملاء الموساد، جهاز الاستخبارات الإسرائيلي الرئيسي، لم يكن من الممكن -أو المعقول- أن ينكر البلد أنه يقف وراء هذه الاغتيالات في الداخل.

جعلت الانتقادات الموجهة لعمليات القتل المستهدفة، داخل وخارج إسرائيل، من المستحيل تبرير كل واحدة منها، والكشف عن تفاصيل أفعال الضحايا لإثبات أن لدى الدولة سببًا كافيًا للرد بهذه الطريقة. وبالتدريج، تحول ما كان يعد في السابق شأناً مدمراً للغاية -الاعتراف بالمسؤولية عن حادثة اغتيال- ليصبح سياسة رسمية للدولة.

بدأت قوات الدفاع الإسرائيلية بإصدار البيانات بعد كل ضربة. وبالتزامن، قام الشين بيت، الذي كان متردداً في السابق في التحدث إلى وسائل الإعلام، بتوزيع مقتطفات من “الصفحة الحمراء” ذات الصلة -ملخصات للمادة المتوفرة حول أعمال الإرهابي الميت- على مختلف المنافد الإعلامية. كانت إسرائيل تعيد ترتيب سياساتها الإعلامية بالكامل -لتخوض، بالتالي، حرباً دعائية.

– في 31 يوليو 2001، أطلقت طائرة عمودية تابعة لجيش لقوات الدفاع الإسرائيلية صواريخ عدة إلى داخل مكتب جمال منصور، عضو الذراع السياسي لحركة حماس والقائد الطلابي في جامعة النجاح في نابلس في الضفة الغربية. وقُتل منصور في الهجوم، إلى جانب أحد مساعديه وستة مدنيين فلسطينيين آخرين، بمن فيهم طفلان.

– وعلى الإثر، اتصل أيالون بقيادة الشين بيت وسأل مسؤولاً رفيعاً هناك عما إذا كانوا قد فقدوا عقولهم. قال أيالون: “لماذا، لقد خرج هذا الرجل قبل أسبوعين فقط بتصريح قال فيه إنه يؤيد وقفاً للهجمات الإرهابية، وإن عملية السلام يجب أن تُمنح فرصة!” ورد المسؤول بأنهم لم يكونوا يعرفون عن هذا التصريح. وعندئذٍ قال أيالون مُزبداً: “ما الذين يعنيه ذلك، أنكم لا تعرفون؟ كل الصحف الفلسطينية غطت ذلك! العالم كله يعرف!”.

– وفي وقت لاحق، قال لي أيالون، مستشهداً بحنة أردنت: “أنا أسمي هذا لاشرعية الشر، إنك تصبح معتادًا على القتل. الحياة البشرية تصبح بالنسبة لك شيئاً مسطحاً، من السهل التخلص منها، إنك تقضي ربع ساعة، 20 دقيقة، وأنت تفكر فيمَن ستقتل. وفي كيف تقتله: يومين، 3 أيام. إنك تتعامل مع تكتيكات، وليس مع تداعيات”.

– لم تفكر إسرائيل بشكل كامل وكما يجب في التداعيات الأخلاقية للبرنامج الجديد، لكنها كانت على وعي كامل بكونها في حاجة إلى توفير غطاء قانوني للضباط والمسؤولين والمرؤوسين الذين ربما يواجهون الملاحقة القانونية في وقت لاحق، إما في داخل إسرائيل أو في الخارج.

– في 18 يناير 2001، تم تسليم رأي قانوني مصنف “سري للغاية” وموقع من فنكلستين إلى رئيس الوزراء، والمدعي العام، ورئيس هيئة أركان الجيش ونائبه، ومدير جهاز الشين بيت. وبدأت الوثيقة بالعبارة الآتية: “يجب علينا أن نعكف للمرة الأولى على تحليل مسألة قانونية عمليات المبادرة بالاعتراض” -وهو تعبير ملطف آخر- “وقد أخبرنا جيش الدفاع الإسرائيلي والشين بيت بأن هذه الأعمال يتم تنفيذها من أجل إنقاذ أرواح المدنيين الإسرائيليين وأفراد قوات الأمن.

– وبذلك، فإن هذا، من حيث المبدأ، نشاط يعتمد على الأسس الأخلاقية للقواعد الخاصة بالدفاع عن النفس، وهي قضية خاضعة للوصية التلمودية: ‘هو الذي يأتي ليقتلك، انهض مبكراً واقتله أولًا’”.

– وهكذا، تم لأول مرة تقديم سند قانوني للاعتراف بعمليات الإعدام خارج نطاق القضاء.

****

– أفضت هجمات 11/9 في نيويورك إلى إسكات الانتقادات العامة لممارسات إسرائيل المضادة للإرهاب. وأصبح النظام نفسه الذي لاقى الإدانة الدولية قبل بضعة أسابيع فقط يعامل الآن على أنه نموذج ينبغي تقليده والاقتداء به. وقال يوفال ديسكن، الرئيس الأسبق لجهاز الشين بيت: “هجمات 11/9 أعطت لحربنا الخاصة شرعية دولية مطلقة. استطعنا أن نتخلص تماماً من تلك الحبال التي كانت تقيدنا”.

– قبل اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، كانت عمليات القتل المستهدفة بشكل أساسي هي العمل السري الذي تمارسه فرق صغيرة مجزأة تعمل لصالح جهاز الموساد بعيدًا عن حدود البلد. وكانت أي حسابات أو مسؤوليات أخلاقية تقتصر على حفنة من الناشطين ووزراء الحكومة. ومع ذلك، وبمجرد أن تم تطوير تلك العمليات إلى آلة قتل واسعة النطاق، أصبح الآلاف من الناس متواطئين.

– أصبح جنود جيش الدفاع الإسرائيلي، ورجال سلاح الجو، وأفراد الشين بيت، والناس الذين يجمعون ويصنفون ويحللون ويوزعون المعلومات الاستخبارية -أصبح كل هؤلاء متورطين، وعادة بطرق أكثر أهمية حتى من أولئك الذين ينفذون القتل الفعلي. وبحلول صيف العام 2002، لم يعد بوسع أي إسرائيلي ادعاء الجهل بما يتم فعله باسمه. وكانت مسألة وقت فقط قبل أن تقطع أجهزة الأمن شوطاً بعيداً جداً إلى حد انتهاك القيود القانونية نفسها التي كان قد وضعها فنكلستين عليها.

– وبحلول صيف العام 2002، تمكن جهاز الشين بيت وشركاؤه من وقف أكثر من 80 في المائة من الهجمات قبل أن تصبح قاتلة. كانت عمليات القتل المستهدفة تنقذ الأرواح بوضوح. لكن اتجاهاً مُقلقاً ظهر في البيانات: كان عدد محاولات شن الهجمات يرتفع.

– وهكذا، بدلاً من إضعاف وتدمير حماس والجماعات الإرهابية الأخرى، كانت الاغتيالات المستهدفة تولد المزيد والمزيد من المهاجمين.

– يوم 14 يناير 2004، حاولت امرأة بعمر 21 عاماً من غزة دخول إسرائيل من معبر إيريز. وترتب عليها أن تمر من خلال جهاز لاكتشاف المعادن، مثل كل الفلسطينيين. وصدر صوت صافرة عالٍ بينما تعبر المرأة الكاشف. “بلاتين، بلاتين”، قالت لحرس الحدود وهي تشير إلى ساقها -مزروعة بالبلاتين. وأعاد الحراس إرسالها عبر الجهاز مرة ثانية ثم ثالثة. واستمر جهاز الكشف بالصفير. وتم استدعاء حارسة أنثى لتفتيشها. وعندئذٍ قامت بتفجير قنبلة فقتلت أربعة من الفاحصين وجرحت 10 آخرين.

– اسم المرأة هو “ريم صالح الرياشي”، وكان لها ولدان، واحد بعمر 3 سنوات، والآخر بعمر 18 شهراً فقط. وبعد الهجوم، عقد زعيم حماس، الشيخ أحمد ياسين، مؤتمراً صحفياً في منزل أحد أتباعه. جلس في كرسيه المتحرك، ملفوفاً في بطانية بنية اللون. وكان يبتسم. قال: “للمرة الأولى، استخدمنا مقاتلة أنثى بدلاً من رجل. وهذا تطور في الصراع ضد العدو”. والشيخ، الذي كان قد أصدر العديد من الفتاوى ضد استخدام المفجرات الانتحاريات الإناث، قال إنه غير رأيه. “الجهاد ملزم لكل المسلمين، الرجال والنساء. وهذا دليل على أن المقاومة سوف تتواصل حتى نطرد العدو من وطننا”. وكان ذلك كافياً لتضع الحكومة الإسرائيلية أحمد ياسين على قائمة الأهداف.

– في مناسبات الظهور العلني، ألقى آرئيل شارون أيضًا بتلميحات إلى أنه أصبح يرى أحمد ياسين الآن كهدف، وأفضى ذلك إلى تشديد إجراءات الأمن حول زعيم حماس فحسب. بقي داخل المنزل، وخرج فقط ليزور مسجداً محلياً ومنزل شقيقته، وكلاهما قريب من البيت. وكان يتحرك بين هذه النقاط الثلاث في شاحنتين مغلقتَين صغيرتين، إحداهما مزودة برافعة لكرسيه المتحرك والأخرى يستخدمها حراسه المسلحون. وكانت حياته مقتصرة على هذا المثلث، وافترض هو وأتباعه أن إسرائيل لن تجرؤ على توجيه ضربة لأي من رؤوس هذا المثلث -التي يظل كل منها ممتلئاً دائماً بالنساء والأطفال والمدنيين الأبرياء.

– ولكن، ثمة فراغات كانت بين هذه النقاط الثلاث، وفي مساء 21 مارس، كان ياسين ذاهبًا لأداء الصلاة في الجامع، بينما تبعه حراسه في الأخرى، وأمر شاؤول موفاز، الذي كان في ذلك الحين وزير الدفاع، تُدمر كلتا العربتين في طريق عودتهما. وكانت هناك مروحيات تدور في الهواء وطائرات من دون طيار، وتواجد ابن أحمد ياسين، عبد الحميد، لوقت كافٍ ليستشعر الخطر، وانطلق مسرعًا إلى المسجد، ومرت الساعات. وبعد صلاة الفجر، أراد ياسين العودة إلى البيت. وقال ابنه بعد ذلك: “لم يكُن صوت المروحيات يُسمع في الأعلى. كان الجميع متأكداً أن الخطر قد زال”.

– ولكن المتعقبين كانوا ما يزالون هناك، بطبيعة الحال، وكانت الطائرات بدون طيار ما تزال تراقب من خلال كاميرات التصوير الحراري، خرج أناس من الباب الأمامي، مارين بسرعة بجوار الشاحنات المتوقفة، وهم يدفعون بكرسي متحرك.

– قضى الهجوم على أحمد ياسين، أبرز قائد في حماس؛ كما أنه قتل حراسه الشخصيين وجرح ابنه، وبعد وقت قصير من اغتيال ياسين، قتلت إسرائيل خليفته، عبد العزيز الرنتيسي، ومساعدين له بإطلاق صاروخ واحد على سيارته السوبارو في شارع مزدحم. وفي غضون أسابيع، توسطت مصر في وقف لإطلاق النار مع حماس. وبفضل مؤسستها الانسيابية للقتل المستهدف والقيادة الحازمة لآرئيل شارون، أثبتت إسرائيل أن بالوصع إخضاع شبكة إرهابية قاتلة وعنيدة بالقضاء على آمريها التنفيذيين وقيادتها.

– مع ذلك، جاءت عمليات القتل المستهدف بتكاليف باهظة، وكان الذي دفع الثمن، أولًا وقبل كل شيء، هم الفلسطينيون الأبرياء الذين أصبحوا “الضرَر الجانبي” لعمليات الاغتيال، وقد قتل في هذه العمليات آلاف المدنيين، كما أصيب الآلاف، بمن فيهم الكثير من الأطفال، وتُركوا عاجزين مدى الحياة.

– عندما أصبحت القدرة على القتل في متناول أيديهم، اختار القادة الإسرائيليون في كثير من الأحيان القوة قبل الدبلوماسية، وربما تكون حملة القتل المستهدف قد شكلت انتصارًا تكتيكيًا، لكنها كانت هزيمة استراتيجية، والتي عملت على المزيد من تهميش إسرائيل ونزع الشرعية عنها في أعين العالم.

ربما يعجبك أيضا