ليالي رمضان.. من دكة القضاة إلى قصر عابدين

هدى اسماعيل

هدى إسماعيل

يبقى الحنين لأجواء رمضان في ليالي زمان مسيطرًا على ذكريات من عاصروها من الرجال والنساء، مهما مر الزمان فهناك ظواهر وطقوس قديمة لا تزال مطبوعة بداخل الذاكرة رغم بساطة الحياة وعدم وجود تكنولوجيا آنئذاك إلا أن الحنين يأخذنا دقائق معدودة ونعود إلى أرض الواقع لكي تستمر الحياة.

دكة القضاة

اختلفت مظاهر رمضان على مر العصور، فكان لكل عصر سمات وعادات ومظاهر خاصة به، منها ما استمر وبقي ومنها ما اندثر وأصبح في طي النسيان. 

 يقول المؤرخ “إبراهيم عناني” – عضو اتحاد المؤرخين العرب :”إن العادة التي كانت جارية في آخر جمادى الآخرة من كل سنة أن تغلق جميع قاعات الخمّارين بالقاهرة، ويحظر بيع الخمر، ثم رأى الوزير “المأمون” لما ولي الوزارة بعد “الأفضل” ابن أمير الجيوش أن يكون ذلك في سائر الدولة، فكتب به أمرًا إلى جميع ولاة الأعمال بأن ينادي على الناس أن من تعرض لبيع شيء من المسكرات أو شرائها سرًّا أو جهرًا فقد عرض نفسه لتلفها وبرئت الذمة من هلاكها .

ويضيف “عناني” أنه في عام 155هـ خرج أول قاضي لرؤية هلال رمضان وهو القاضي “أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة” الذي ولي قضاء مصر ، وخرج لنظر الهلال، وتبعه بعد ذلك القضاة لرؤيته، حيث كانت تُعَدُّ لهم دكّة على سفح جبل المقطم عرفت بـ”دكة القضاة”، يخرج إليها لنظر الأهلة، فلما كان العصر الفاطمي بنى قائدهم “بدر الجمالي” مسجداً له على سفح المقطم اتخذت مئذنته مرصدًا لرؤية هلال رمضان .

وفي القرن الثالث الهجري اهتم “أحمد بن طولون” بأمر العمال خاصة في شهر رمضان، فقد خرج مرة لزيارة مسجده وقت بنائه، فرأى الصناع يشتغلون إلى وقت الغروب، فقال :”متى يشتري هؤلاء الضعفاء إفطارًا لعيالهم، اصرفوهم العصر فأصبحت سنة من ذلك الوقت، فلما فرغ رمضان قيل له : لقد انقضى رمضان فيعودون إلى عاداتهم فقال: “قد بلغني دعاؤهم وقد بركت به وليس هذا مما يوفر العمل”.

موائد الملك فاروق

الملك فاروق يحمل تاريخه مفارقات يصعب حصرها، كان معروفًا بحبه للنساء والطعام والشراب، وفي الوقت نفسه عرف بورعه وتقواه في شهر رمضان وفي فترة حكمه كان لشهر رمضان طابع خاص واحتفال فائق، لا يزال عالقا بذاكرة التاريخ، فمن الموائد العامة، وتزيُّن قصر عابدين إلى توزيع الأموال على الفقراء طول الشهر وغيرها من مظاهر الاحتفال التي ربما لا يعرفها الكثير، حيث اعتاد الملك فاروق في كل عام أن يرسل مندوبًا إلى المحكمة الشرعية ليتأكد من ثبوت رؤية هلال شهر رمضان، وكانت إذا ثبتت الرؤية يقوم الملك فاروق بإلقاء خطبة في الردايو يهنئ بها الشعب المصري بقدوم شهر رمضان، وكانت الشوارع تزدحم والمقاهي والمتاجر حتى يسمع الناس خطبة الملك في هذا اليوم.

كما كان يأمر الملك فاروق بتزيين قصر عابدين بالفوانيس والزينة الرمضانية طول الشهر، كما كان يحب أن يقضي شهر رمضان أو بعض أيام منه بقصر رأس التين بالإسكندرية حتى يتفادى ارتفاع درجة حرارة الجو أثناء الصيام.

كانت الموائد تمتد في حديقة قصر عابدين طوال شهر رمضان، لتستقبل الشيوخ ورجال الدين وبعض الشخصيات العامة، وسفراء الدول ورؤساء الأحزاب، وقد انفرد الملك فاروق بعمل هذه المائدة التي كانت مكانًا لتجمع العديد من نجوم المجتمع في شهر رمضان من كل عام، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل كان يأمر بإعداد موائد الإفطار لعامة الشعب، وتقوم بعض المطاعم بتقديم وجبات إفطار وسحور مجانية على أن تتولى الحكومة بدفع تكاليف الوجبات بأوامر الملك.

بأوامر ملكية ممنوع بيع المشروبات الكحولية خلال الشهر مع إذاعة القرآن الكريم في جميع المحلات التي تمتلك جهاز راديو، كما كانت القصور الملكية تستخدم مكبرات صوت لإذاعة القرآن الكريم.

أما عن مائدة الملك فاروق وأسرته فقط خلت تقريبا من معظم أشكال الترف الزائد وكانت دائمًا ما تتكون من بعض الماكؤلات البسيطة التي كان يحبها الملك فاروق كثيرًا، وكانت تلك المائدة تضم صنفًا واحدًا من اللحوم، وفطائر، وبيض بالبسطرمة، وأرزًا، وبطاطس، وطبق المسقعة الذي كان مفضلا لدى الملك ، ثم الكنافة، والفواكه.

الملك والفقراء

عندما قامت الحرب العالمية الثانية أمر الملك بإلغاء مأدبة الإفطار، التي كانت تقام في القصر الملكي، على أن تحل محلها مآدب في القاهرة وسائر مدن المملكة وأرجائها للفقراء والمعوزين على حساب الخاص الملكي طوال مدة شهر الصوم المبارك.

وقبل حلول شهر رمضان بأيام يذهب المحافظون والمديرون والمسؤولون إلى قصر عابدين ويتسلمون من رئيس الديوان العالي الاعتمادات المالية اللازمة لهذه المآدب مع رجاء من جلالة الملك بأن يعدوا الفقراء الذين يدعونهم إليها “ضيوف جلالته” ، وأن يبالغوا في إكرامهم والاهتمام بهم.

مأدبة للمتفوقين

اعتاد الملك فاروق في الأربعينيات أن يكرم الطلبة المتفوقين، ويدعوهم إلى مائدة إفطار رمضان في أحد القصور الملكية، سواء في قصر “رأس التين” أو “قصر عابدين”.

وكانت من عادة الملك فاروق إقامة مأدبة الإفطار للعمال وطلبة الأزهر والمتفوقين والموظفين وغيرهم طوال شهر رمضان.

الجمعة اليتيمة

كان فاروق يحرص على صلاة الجمعة الأخيرة من شهر رمضان في مسجد عمرو بن العاص، وكانت هذه الجمعة تحظى باهتمام الملك والشعب، وكان الموكب الملكي يتقدمه خيالة الحرس الملكي، وتسير حوله وتتعقبه في نهايته الفرسان، وتجر العربة الملكية 8 خيول، وكانت العربة مغلقة ولها نوافذ من الكريستال، ويستقلها الملك وخلفه كبير الياوران، وتتبعها عربات رئيس الوزراء والوزراء والحاشية الملكية.

المراغي والملك

أشهر المواقف الطريفة التي حدثت على المائدة الملكية في رمضان عندما كان الوزراء يفطرون على مائدة الملك فاروق وفضيلة شيخ الأزهر آنذاك الشيخ ” محمد مصطفى المراغي” ، حيث التفت إليه الملك وسأله عن الخلاف في وجهات النظر بين الأئمة الأربعة في تفسير الآية الكريمة التي تنص على ما معناه نقض الوضوء بملامسة النساء، فأخذ الإمام الأكبر يشرح بإسهاب اختلاف نظر الأئمة في تفسير معنى الملامسة.

تدخل أحد الوزراء السابقين في الموضوع وقال : إنه غير مذهبه من الشافعي إلى مذهب أبي حنيفة حتى لا يضطر للوضوء كلما لمس يد زوجته، فنظر إليه الملك نظرة ضمنها عدم رضاه على هذا التعليق والتحدث في المسائل الشخصية على المائدة الملكية، ولما انتهى الطعام قام الملك ومن معه للصلاة فنظر إلى المصلين ولم يجد بينهم ذلك الوزير ورآه في ناحية ولم يهيئ نفسه للصلاة فخاطبه : إنت يا باشا رجعت للمذهب الشافعي ولا إيه؟.


ربما يعجبك أيضا