تحولات الشعوبية..دلالات الصعود وتداعياتها المستقبلية

محمود رشدي

لا تزال تداعيات الأزمة المالية بالعقد الماضي تقف وراء تحولات سياسية دولية؛ لتعيد تلك التغيرات إذكاء أزمات دولية أخرى أشد خطورة من الأزمة الماضية. دفعت أزمة 2008 دول العالم لانتهاج سياسات اقتصادية تقشفية ولا سيما دول الاتحاد الأوروبي؛ التي لا تزال تعاني أزمات عجز الميزان التجاري والديون السيادية، الأمر الذي دفع التيار اليميني المتطرف للطفو على سطح الساحات السياسية الأوروبية؛ كنتاج بارز يعارض التوجهات الاقتصادية للاتحاد الأوروبي، وبل ومقاومة الاتحاد نفسه كنموذج إقليمي ناجح.

في دراسة نشرتها صحيفة الجارديان عن تحليل الخطاب السياسي لرؤساء الوزراء والرؤساء والمستشارين في 40 دولة، وتوصلت لنتيجة مفادها بأن عدد الزعماء الشعبويين قد تضاعف منذ بداية الألفية الثالثة.

الجذور والتحولات

الواقع أن وجود اليمين المتطرف في الأنظمة السياسية الأوروبية ليس ظاهرة جديدة، ذلك أن الفاشية والنازية والقومية المتطرفة هيمنت على أوروبا في حقبـة مـا بـين الحربين العالميتين، ودفعتهـا نحو الحرب. أما في المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، فقد بدأ اليمين المتطرف في الاختفاء عملياً مـن الساحة.

من عوامل صعود هذا التيار التغيرات الكبيرة التي حدثت في أوروبا مع نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات نتيجة انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك الكتلة الشرقية متمثلة في “حلف وارسو” وتأسيس الاتحاد الأوروبي نتيجة معاهدة ماستريخت 1992، ما أدى إلى عودة بعض الدويلات التي ظهرت من انهيار الاتحاد السوفييتي إلى أصولها العرقية وهو ما ساهم في ظهور النزعة القومية عند الكثير من الأوروبيين وانضمام مثل هذه الدول إلى الاتحاد الأوروبي فيما بعد.

ومع بداية الأزمة المالية العالمية في 2008، والتي اعتبرها البعض الأسوأ منذ الكساد الكبير 1929، انتشرت البطالة والركود الاقتصادي، ومع زيادة الهجرة بدأ بعض الأوروبيين ينظرون للمهاجرين كمزاحمين لهم في وظائفهم وخاصة المسلمين، وهنا ظهرت دعوات للتضييق على المهاجرين ودعوات عدائية ضدهم.

وتعـد الهجـرة أحـد الأسـس المهمـة في خطـاب اليمين المتطرف في أوروبا، فقـد كـان لتوظيـف قضـية الهجرة دور كبير في نهضة أحزاب اليمين المتطرف، وفضـلاً عـن ذلـك فـإن البطالـة، والتـدهور الاقتصـادي.

وفي 2008 أيضاً، قامت الأحزاب اليمينية في أوروبا بخطوة جديدة في معاداة المهاجرين وخاصة المسلمين فقامت بإنشاء منظمة تهدف لمكافحة “الأسلمة” في أوروبا والتي حملت اسم �المدن ضد الأسلمة�. ومن أهم عوامل صعود اليمين المتطرف أيضاً أن زيادة سرعة الاندماج الأوروبي أدت إلى زيادة المخاوف من أن ذلك الاندماج سيأتي على حساب الخصوصية الوطنية والمحلية.

مع بداية ما عرف بالربيع العربي، ظهرت صراعات في الشرق الأوسط من الأزمة السورية إلى الأزمة الليبية واليمنية وظهر تنظيم داعش الإرهابي وتدهورت الأحوال المعيشية للمواطن العربي. كل ذلك أدى إلى زيادة الهجرة واللجوء لأوروبا، إضافة إلى تصاعد الهجمات الإرهابية من حادث تشارلي إيبدو إلى باريس إلى بروكسل وغيرها من الهجمات، ما دفع انتشار الفكر المتطرف إلى دعم الفكر اليميني المتطرف بين قادة الرأي العام الأوروبي، ناهيك عن أن زيادة منافسة المهاجرين على الوظائف الموجودة وفي ظل وجود نسبة بطالة، أدى لزيادة المخاوف عند الكثير من الأوروبيين على هويتهم الثقافية وعاداتهم وتقاليدهم وعلى العرق الأوروبي وأيضاً الخوف من اختفاء ما يسمى دولة الرفاهية.

فشل الاتحاد الأوروبي كنموذج إقليمي ناجح
 
صعود التيارات الشعبوية جاء بعد فشل الاتحاد في توفير ما يحتاجه المجتمع الأوروبي، وبالتالي الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي أقوى بكثير من أن يقف أحد أمامه، ويؤكد هؤلاء أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والسترات الصفراء في باريس والنجاحات المتعددة للتيارات الشعبوية في الدخول إلى البرلمانات الأوروبية المختلفة والتواصل المستمر بين قادة هذه الأحزاب المتطرفة ومن أبرز هؤلاء مارين لوبن، زعيمة الجبهة الوطنية في فرنسا، التي أعلنت مراراً رغبتها في خروج فرنسا من الاتحاد، وعزمها تنظيم استفتاء مشابه لما حدث في بريطانيا إذا فازت في انتخابات الرئاسة، وخيرت فيلدر زعيم حزب الحرية في هولندا الذي دعا إلى الخروج من الاتحاد، وتمكن في الانتخابات الأخيرة من زيادة مقاعد حزبه في البرلمان غير أنه لم يتمكن من الفوز بالانتخابات.

هذه الشعارات تؤكد إحباط هذه الأحزاب واحتقانها ومن يؤيدها من فكرة الوحدة الأوروبية، كما أن هناك من يعتبر أن صمود الاتحاد معناه نجاح ألمانيا في السيطرة على أوروبا بعد أن فشلت محاولاتها عبر عقود طويلة في السيطرة عليه.

دور التواصل الاجتماعي

لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورا مهما وحيويا في تنامي الشعبوية في العالم، إذ أصبح لها فعلها القوي في تحريك الشعوب، كما شهدنا في احتجاجات السترات الصفراء الفرنسية التي ليس لها قيادة تنظمها وتوجهها.

عندما ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي في عالم الإنترنت، كان الهدف الأساسي لها كما يشير اسمها، أي “التواصل الاجتماعي”.
وبالتالي فقد زاد الانفتاح على العالم، وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أداة للشعبويين واليمين المتطرف لكسب تأييد النظراء في الدول الأوروبية الأخرى.

وربما لم يخطر على بال من ساهموا في تأسيسها بأنها ستكون الأداة الأساسية لانتشار ظواهر سياسية واجتماعية وإرهابية متطرفة، مثلما يحدث الآن.

الشعوبية هى النتيجة الحقيقية للأزمة المالية العالمية 2008. بعد عقد من الركود وبرامج التقشف، لا يمكن لأحد أن يُفاجأ بأن أكثر من تضرر من العواقب الاقتصادية للأزمة هم أصحاب الدخول المحدودة التى باتت تدعم الآن أحزاب شعبوية ضد النخب التى حكمت لسنوات طويلة. أصبحت قطاعات كبيرة من السكان ترفض اقتصاد السوق الحر والحدود المفتوحة للعولمة، أضف إلى ذلك أن موجات الهجرة المتتالية تنعش عادة الأحزاب القومية حتى وإن لم تكن هناك أزمات اقتصادية.
 

ربما يعجبك أيضا