الأكثر جرأة في تاريخ الـ”سي آي إيه”.. فضيحة تجسس عمرها نصف قرن

ولاء عدلان

كتبت – ولاء عدلان

لأكثر من نصف قرن، تعاونت المخابرات الأمريكية مع نظيرتها الألمانية الغربية للتجسس على نحو 120 دولة، من خلال شركة لخدمات التشفير، في واحدة من أكثر عمليات الحرب الباردة حساسية، والتي كشفت تفاصيلها أخيرا صحيفة “واشنطن بوست” في تحقيق استقصائي مشترك مع شبكة “زد دي أف” الألمانية.

 خلال الفترة ما بين 1970 وحتى 1993، أمتلكت الـ “سي آي إيه” والمخابرات الألمانية “الغربية” شركة سويسرية للتشفير تدعى “Crypto AG” بشكل سري للغاية، وأخفت هوية المساهمين فيها، واستخدمتها للتجسس عبر زرع أجهزة حساسة للغاية في معداتها التي كانت تباع لأغلب حكومات العالم في هذه الفترة.. لنعرف معا وظيفة هذه الأجهزة.

كيف تورطت “Crypto”؟

الشركة السويسرية تأسست عام 1952، لبيع معدات خاصة بتشفير الاتصالات لحكومات العالم، وحققت ملايين الدولارات من بيع هذه المعدات إلى أكثر من 120 دولة، وكان من بين عملائها إيران، ودول أمريكا اللاتينية والهند وباكستان والفاتيكان، لكن المفاجأة التي حملها تقرير “واشنطن بوست” أن هذه المعدات كانت مزودة بأجهزة تجسس دقيقة، تسمح للشركة وعملاء الاستخبارات في واشنطن وبرلين باختراق المواقع التي تتواجد بها وكسر تشفيرها الخاص والوصول إلى معلومات عالية السرية بكل سهولة، وذلك منذ زمن الحرب البادرة وحتى بدايات القرن الحالي.

سعت المخابرات الأمريكية من العام 1970 للسيطرة على عمليات ” كريبتو” وتدخلت لاحقا في هيكلها الإداري والفني حتى أنها تدخلت في توجيه خطط المبيعات، وفي أوائل التسعينيات، عندما شعرت ألمانيا بأنها قد تكون أحد ضحايا هذه العملية دون أن تدري، انسحبت لتشتري واشنطن حصتها واستمرت تحتفظ بملكيتها للشركة حتى تاريخ تصفيتها بشكل نهائي في العام 2018.

في عام 1979 جلس جواسيس الولايات المتحدة وألمانيا الغربية ليستمعوا لاتصالات ملالي إيران خلال أزمة الرهائن عام 1979، وآبان حرب “الفوكلاند” أمدت الـ”سي آي إيه” لندن بمعلومات استخباراتية عن الجيش الأرجنتيني، وفي حادثة تفجير “ملهى برلين” عام 1986 الشهيرة، تمكنت واشنطن من التجسس على مسؤولين ليبييين وهم يهنئون أنفسهم بالتفجير، ومن هنا جاء الاتهام الأمريكي لنظام معمر القذافي والذي أعقبه ضربات جوية على طرابلس انتقامًا للضحايا الذين كانت غالبيتهم من الجنود الأمريكان.

“كنز” لا ينفد

عملية التجسس الأمريكية الألمانية السرية للغاية – التي كشفت عنها “واشنطن بوست” و”زد دي أف” و”Swiss SRC” بالاطلاع على وثائق  تعود للعام 2004 خاصة بمركز للدراسات يتبع الـ”سي آي إيه” وأخرى تتعلق بالمخابرات الألمانية، وتعود إلى العام 2008 فضلا عن شهادات لمهندسين سابقين بالشركة – أطلق عليها “عملية الكنز”، وهي كانت كذلك، ففي القرن الماضي لم يكن من السهل أن تقوم بعملية اختراق لاسلكية أي عبر الأثير ودون جواسيس ميدانيين.

كان من الطبيعي أن تجني “كريبتو” ملايين الدولارات من بيع أسرار حكومات العالم للمنافسين السياسيين من عملائها الحكوميين بالطبع، وبحسب الوثائق التي أطلعت عليها “واشنطن بوست” كان هناك 2 إلى 5 دولة أجنبية دفعت أمولا للولايات المتحدة وألمانيا الغربية للاستماع إلى اتصالات حكومات أخرى أو رؤساء بعينهم.

وفي ثمانينيات القرن الماضي، بلغت نسبة الاتصالات التي اخترقتها واشنطن عبر معدات الشركة، نحو 40% من حجم اتصالات الحكومات المتعاقدة مع “كريبتو”.

الخطير في الأمر أن معدات Crypto لا تزال قيد الاستخدام في أكثر من 12 دولة حول العالم، على الرغم من تقارير مبكرة تحدثت في السبعينيات والتسعينيات عن تورطها في عمليات تجسس كبرى، ولعل أحرص خصوم أمريكا على عدم التعامل مطلقًا مع الشركة هما بكين وموسكو، ربما لأنهما كان أقل ثقة بأي شركة خارج سيطرتهما أي كانت جنسيتها.

هذه المعدات المتطورة التي شكلت طفرة في الاتصالات المشفرة عالميًا، لمع نجمها مع وصول رجل الأعمال والمخترع بوريس هاغلين المولود في روسيا إلى واشنطن هربًا من الاحتلال النازي للنرويج عام 1940، حاملًا معه ماكينة تشفير صغيرة الحجم، كان الجيش الأمريكي في أمس الحاجة إليها لتعزيز موقفه في الحرب العالمية، لذا كان من السهل أن يبرم هاغلين عقدًا ذهبيًا مع إدارة الجيش لتصنيع نحو 140 ماكينة وتوزيعها على الجنود في ساحات القتال.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عاد هانغلين إلى السويد ومنها إلى سويسرا مع ثروة ضخمة تتجاوز الـ 8.6 مليون دولار، وأسس “Crypto”، وطور ماكيناته لتصبح عصية على الاختراق، لدرجة أثارت مخاوف واشنطن من وقوعها فريسة للتجسس على يد دول أخرى، إلا أن خبير التشفير الأمريكي وليام فريدمان أقنع هانغلين ببيع الأجهزة الأكثر تطورًا هذه للدول التي توافق عليها واشنطن فقط ضمن صفقة أبرمت عام 1951 بمعية الـ”سي آي إيه”، وبمقدم وصل إلى 700 ألف دولار، ومن ثم تطور التعاون الثنائي وباتت المدفوعات الأمريكية تتدفق على الرجل بشكل سنوي.

في اجتماع عقد في أوائل عام 1969، أقنعت المخابرات الألمانية بمباركة من نظيرتها الأمريكية هانغلين 80 عامًا ببيع الشركة لهمها، وفي عام 1970 تمت الصفقة مقابل حوالي 5.75 مليون دولار.

تحقيقات لكشف الحقيقة

اشترت شركتان عام 2018 معظم أصول ” كريبتو” الأولى هي CyOne Security، وتبيع الآن الأنظمة الأمنية حصريًا للحكومة السويسرية، ويرأسها الشخص نفسه الذي كان مديرا للشركة الأم لمدة عقدين من حقبة ملكيتها لـ”سي أي إيه”، والثانية هي Crypto International ، والتي استحوذت على العلامة التجارية للشركة وأعمالها الدولية، وتنفي الشركتان أي صلة بينهما وبين المخابرات الأمريكة أو الألمانية أو حتى معرفتهما بتاريخ الشركة الأم.

وفي حين رفضت المخابرات الأمريكية أو الألمانية التعليق على تقرير الـ”واشنطن بوست”، أعلنت الحكومة السويسرية الثلاثاء الماضي، أنها ستجري تحقيقًا قضائيًا في علاقات ” Crypto AG” مع المخابرات الأمريكية ونظيرتها الألمانية، لافتة إلى أنها علمت بالقضية في نوفمبر الماضي وعينت بالفعل قاضيا متقاعدا لرئاسة التحقيق.

ربما يعجبك أيضا