أمل دنقل.. “ابن الموت” العاشق أبدا للحياة

شيرين صبحي

رؤية – شيرين صبحي

كان الشاعر الراحل أمل دنقل، يحمل الشيء ونقيضه في لحظة نفسية واحدة، فهو فوضوي يحكمه المنطق، صريح وخفي في آن واحد، شخص لا يعرف طرح الأسباب، ولا يعرف أشكال العتاب والثرثرة العاطفية، فقط يحب ويكره في قلبه الصامت دون إفصاح.

هذا القلب الصخري شديد الصلابة المحاصر دوما بالفقد، استطاع أن يدق فرحا بعدما تسللت إليه بعنادها الكاتبة عبلة الرويني عندما ذهبت إليه في ذلك اليوم البعيد من أكتوبر 1975 وكانت في بداية مشوارها الصحفي لإجراء حوار معه لنشره في دار أخبار اليوم حيث تعمل.

كان أول انطباع كونته “عبلة” عن “أمل”، أنه شخص مختلف عن الآخرين، يتكلم لغة أخرى بل ويشعر بأحاسيس أخرى، فسقطت منذ اللحظة الأولى كل المسافات وبدا لها وجه هذا الشاعر الأسمر؛ كصديق تعرفه من زمن..!

صارت الصحفية الشابة والشاعر الكبير أصدقاء، لكن في لقاءهما الرابع قال لها بدون مقدمات:
– يجب أن تعلمي أنك لن تكوني أكثر من صديقة !
جاء هذا التحذير الاستفزازي ليحرك انفعالات عبلة:

– أولا أنا لست صديقتك، كما أنني لا أسمح لأحد بتحديد مشاعري متى تتزايد أو تتناقص، إنني وحدي صاحبة القرار في علاقاتي بأصدقائي!

سقطت حسابات أمل أمام هذا الرد المفاجئ، فأخذ يفكر بصوت مسموع “إنني رجل بدأت معاناتي من سن العاشرة، وفي السابعة عشرة اغتربت عن كل ما يمنح الطمأنينة حتى الآن، وأعتقد أن السهم الوحيد الذي يمكن أن يصيبني في مقتل سوف يجيء من امرأة، ولذلك اتسمت علاقاتي دائما بالرفض”.

لكن عبلة استطاعت أن تنفذ إلى شاعرنا من منطقة الرفض، تقول: كانت علاقاته تتسم بقدر من الحدة، وكان الآخرون يرون أنه شخصية تتسم بالخشونة، لكن هذا في ظني كان شكلا دفاعيا كنوع من المواجهة أو حائط الصد للواقع الأكثر خشونة الذي يتعرض له، وبمجرد إزالة هذه القشرة الخارجية وهذه الحدة، فإنه يكشف عن ملامح تتسم بالرقة والعذوبة.. المسألة ليست الحدة، ولكنها كانت مجرد قناع، لكن الشخصية الحقيقية كانت شديدة العذوبة والرقة وعلى السهل من يقترب منه أن يكتشف هذه الملامح.. كان يواجه الواقع الزائف أو الأدعياء بحدة، لكنه لا يحتد مع الطيب والشرير، بل يحتد حين لابد أن يحتد.

هذه الخشية من سهم يصيبه في مقتل – كما توضح عبلة – هو نوع من الاحتراس والحماية له، والتي تكشف بقدر كبير عن رقة هذه الشخصية التي تخشى أن السهم الذي قد يناله سوف يأتي في منطقة ضعفه وهي مشاعره وعواطفه.

سأشقى أكثر بدونك

تزوج الحبيبان، فكان الزواج بالنسبة لأمل هو أول الفرحة بل الفرحة الوحيدة في عمره على حد تعبيره، بينما كان أمل هو كل الفرح الذي أعطاه الله لعبلة – كما تقول – وأغدق في عطائه.

بدا “أمل” و”عبلة” صديقين أكثر منهما زوجين، بل خرجا على أشكال الزواج التقليدية حين صار الشارع بيتهما يقضيان فيه أكثر مما يقضيان داخل المنزل. تقول عبلة : كان أمل قليل الكلام داخل المنزل، إنه ينسى وجودي وكأني صرت نفسه فيمارس صمته الطويل وقراءته المستمرة. الصمت ملمح هام في طبيعته ولعل الكتمان الذي يفرضه على مشاعره وعلى قلبه جزء من طبيعة الصمت الذي يمارسه، مكتسبا بذلك معنى التواصل..!

تتذكر: كان مزاجي الحاد يجعلني في ثورة دائمة على أمل داخل المنزل، فهو زوج كسول لا يفكر في كياننا كأسرة، وكأن كل ما في الأمر أنه بدل من أن يحيا بمفرده، أصبح يحيا مع صديق آخر، لا تشغله مشاكل ولا مواعيد ولا أي شيء، يحترف الصمت ويهرب من كل أشكال الحوار، فكل ما يشغله هو كيف يقرأ ويكتب في هدوء.

كانت فترات الفقر الشديد تزيد الحبيبين صلابة واقترابا من بعضهما. تقول الرويني : كان الفقر في منزلنا يحولنا إلى أثرياء، وكان الفقر يضاعف احترامي لهذا الشاعر الذي يمكنه كثيرا النوم جائعا، بينما يستحيل عليه النوم يوما متنازلا أو مساوما أو مصالحا، وما أكثر المتنازلين العارضين أنفسهم في أسواق البيع والشراء، ينامون وبطونهم تمتلئ بالتخمة وعقولهم بالمهانة.

كان الشعر داخل أمل دنقل يدفعه إلى تجاوز كل يقين مؤقت، لهذا وقف مع الحلم ضد الواقع، ومع الآتي ضد الحاضر. والحرية هي الملمح الهام والمميز لشخصيته، وهي جزء أساسي في تكوينه الفكري والسلوكي، إنها مطلب وجودي وحياتي ملح، تتطلب منه نوعا من الصراع الدائم والمستمر لتكسير كل عوائقها وثوابتها أيضا. كان أمل دائما إنسانا حقيقيا في شرف سعيه إلى الحرية، إنه نفسه دائما وليس ما يريده الآخرون..!

لم تكن هناك طقوس معينة تلازم أمل وقت كتابة القصيدة إلا توافر السجائر، وهو أمر لا يتعلق بالقصيدة بل بأمل الذي ظلت السجائر صديقته الوحيدة حتى الموت، بعدما أصيب بالسرطان قال له الطبيب:
– كف عن السجائر.
– إن الكف عن السجائر لن يعوق السرطان الهادر في صدري، دعها فهي متعتي الأخيرة!

لحظات مستمرة من التوتر

كانت القصيدة دائما هي لحظات مستمرة من التوتر، أو كانت كما يحلو له أن يردد “البديل عن الانتحار”، وكانت لحظة كتابتها هي اللحظة التي لا يسمح لأحد بدخولها سواه حتى تكتمل، إن محاولة الدخول إلى ذهنه أو حتى السؤال عن فكرة القصيدة الجديدة كانت دائما محاولة غير مسموح بها، لذا كانت عبلة شديدة الحرص على عدم الدخول نهائيا في منطقة الإبداع، بل كانت أحيانا تشعر بالخوف والارتباك، فما الذي تفعله وفي بيتها قصيدة توشك على المجيء؟!

في سبتمبر 1979 وبعد تسعة أشهر من زواجهما أصيب أمل بورم سرطاني صغير تم استئصاله بجراحة، ثم ظهر ورم أخر بعد خمسة شهور، وهنا أدركا أن السرطان سيعاودهما دائما، وبالفعل يأتي عام 1982 وقد انتشر المرض اللعين ليقول الجراح لأمل في حدة: تذكر أنك مريض بالسرطان وأن الأمر أكثر خطورة من أن تتعامل معه بمنطق الشاعر..!

سألها أمل بعد أن رأى شبح الموت: ما الذي تفعلينه بعد موتي؟
– لا شيء مثلما تفعله أنت بعد موتي.

كان أمل العاشق أبدا للحياة وكأنها الأبد، يحمل في كل لحظة الموت في أعماقه، مرددا دائما “أنا ابن موت”.. تقول عبلة: جاء المرض ليفرض فكرة الموت، السرطان نوع من مواجهة الموت، لكن دائما حتى في أشد اللحظات قسوة ويأس ومع المرض وفكرة الموت هناك دائما فكرة الأمل، وأنا مقتنعة أن اليائسون هم أكثر الناس إدراكا لمعنى الأمل..!

انتشر السرطان وبدأت أجهزة أمل تتوقف عضوا عضوا، وكلما استيقظ من غيبوبته يدرك الحبيبان أن الموت قادم لا محالة.. تسأله عبلة: هل أنت حزين؟ يشير وهو عاجزا عن الكلام تماما أن نعم.. إنها المرة الأولى التي يقول فيها “نعم” إنه القرار الذاتي بالموت.. في الثامنة صباحا من يوم 21 مايو 1983 كان وجه أمل هادئا وهم يغلقون عينيه، وكان هدوء عبلة مستحيلا وهي تفتح عينيها، ووحده السرطان يصرخ والموت يبكي قسوته..!

ظل أمل وعبلة لفترة طويلة يبحثان عن شكل مريح للحب بينهما، لكنهما ما يلتقيان إلا ويتشاجران، وكأن ما بينهما غضب وعناد ساطع.. في لحظة يحشوان العالم في جيوبهما ويلملمان كل الأوراق الخضراء وصوت العصافير والأقلام الملونة، ثم في لحظة أخرى يمزقان كل الأوراق والدفاتر ويذبحان صوت العصافير.. كان اللا قانون هو القانون الوحيد الذي يحكم قلبيهما، فعندما يقرران لا يفعلان شيئا، وعندما تتساوى الأشياء يحطمان كل شيء ويتعاملان بمنطق المفاجأة..!

كان “أمل” قليل الإفصاح عن مشاعره وأحاسيسه، بينما كانت “عبلة” تعلن مشاعرها واضحة كل لحظة، وبرغم ذلك ظل سنوات يبحث عن تأكيد، فقد كان يملك قلبا أشد رهافة من احتمال أي محاولة لإيلامه، ولهذا لم يفتحه إلا لقليلين للغاية.. ذات يوم كتب لها : “لقد ظللت لا أقبل كلمة رقيقة من امرأة لأنني أضطر عندئذ إلى الترقق معها، وهذا يعني بلغة إحساسي التودد لها، وهو يمثل الضعف الذي لا يغتفر.. وقد لا تعرفين أنني ظللت إلى عهد قريب أخجل من كوني شاعرا، لأن الشاعر يقترن في أذهان الناس بالرقة والنعومة وفجأة ها أنت تطلبين مني دفعة واحدة، أن أصير رقيقا وهادئا وناعما يعرف كيف ينمق الكلمات”.

قبل أن تتعرف “عبلة” على “أمل” لم يكن الفقر لديها محدد الملامح، فلم تدرك في ذلك الوقت أن هناك فقرا يصل بشاعر إلى حد الاستدانة، أو أن هناك رجلا لا يستطيع امتلاك ثمن كوب من الشاي أو فنجان من القهوة، حيث كان العالم البرجوازي الذي قدمت منه يحكم عيونها، لكنه أبدا لم يسكن قلبها، فقد كانت من البداية تمتلك قلبا مستعدا لأن يبيع العالم كله من أجل هذا الشاعر الذي يملك بنطلونا واحدا.

كانت المسافة كبيرة بين عالمي “أمل” و”عبلة”، فبينما كانت هي تنتمي إلى أسرة محافظة ثرية ومنزل هادئ ، تمتلك الكثير من الأشياء والكثير من التدليل للابنة الوحيدة بالأسرة، كان “أمل” ينتمي للريح والاضطراب، فرغم عزوة عائلته إلا أنه كان دائما لا ينتمي إلا لنفسه.

ارتباط هذه الفتاة البرجوازية بأمل كان يشكل في أذهان الناس علاقة خطرة، فخاصمت العالم من أجله.. ذات يوم قال لها:

– إنني لن أستطيع الزواج بك فأنا لا أمتلك شيئا.
– سنتزوج.
– ستشقين معي فأنا لا أملك قوت يومي.
– سأشقى أكثر بدونك، وأنا أملك قوت غدي.

الفرحة الوحيدة في عمر أمل

ربما يعجبك أيضا