انتفاضة تموز الأحوازية.. الأسباب والمآلات

مي فارس

رؤية

يشهد إقليم الأحواز (محافظة خوزستان) اندلاع انتفاضة واحتجاجات عارمة منذ منتصف شهر تموز العام 2021، وهي مستمرة حتى هذه اللحظة، على الرغم من استشهاد عدد من الشباب واعتقال مئات الأحوازيين وتنفيذ المداهمات واستقدام قوات التدخل السريع من الأقاليم الفارسية والعناصر الميليشياوية الولائية من العراق.

 فما هي الأسباب والأهداف الحقيقية لهذه الانتفاضة الأحوازية؟ هل هي احتجاجات مطلبية جاءت اعتراضاً على الجفاف وشح مياه الشرب وتراجع هطول الأمطار وانقطاع الكهرباء كما يروج لها الإعلام الفارسي التابع للنظام الإيراني والمعارضة الفارسية بكافة أطيافها أم أنها انتفاضة لها أسباب وأهداف سياسية وقومية واجتماعية وثقافية وبيئية وجذور تاريخية؟

إنّ الأحواز هي موطن الشعوب السامية كما هي الحال بالنسبة بلاد ما بين النهرين، وأن العيلاميين الذين شيّدوا أحد أهم وأعرق الحضارات البشرية القديمة، وكانت عاصمتهم “سوسة”، مدينة السوس الأحوازية. وقد قطنتها القبائل العربية قبل مجيء الإسلام، كان أبرزها بكر بن وائل وبنوحنظلة وبنو العم. وتحررت على يد الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري في العام 637م، وأصبحت جزءاً من الوحدة العربية الإسلامية حتى العام 1258م.

ولقد تأسست الدولة العربية المشعشعية في الأحواز العام 1436م، واستطاعت أن تبسط سيطرتها على الأحواز والبصرة وواسط. وظلّت تحافظ هذه الإمارة على استقلالها ولم تخضع للعثمانيين والصفويين أبداً، وأجبرت الدولتين المذكورتين على الاعتراف بسيادتها واستقلالها في معاهدة “مراد الرابع” في العام 1639م. وكذلك، قد تأسست في هذا الإقليم الدولة الكعبية في العام 1724م، بعد سقوط حكم المشعشعيين. هذه الدولة العتيدة حافظت على استقلالها وسيادتها رغم الحروب والصراعات والنزاعات التي كانت تدور بين العثمانيين والفرس. وكان الشيخ خزعل الذي أصبح أميراً على الأحواز في العام 1897م، أبرز أمراء الدولة الكعبية، وفي الوقت ذاته، أخر حاكم للأحواز.

يُعتَبر الشيخ خزعل حاكم الأحواز القومي ورمز سيادتها الوطنيّة. فحينما عملت الدولة الفارسية بقيادة رضا خان، -مؤسس الأسرة الملكية البهلوية-، على إقصاء الشيخ خزعل واحتلال الأحواز بالتواطؤ مع بريطانيا، قد أعلنَ الشيخ خزعل مقاومتَه لسياساتِ بلادِ فارسِ التوسعيّة، وقام بعرضِ قضيّتِه على عُصبةِ الأمم، لكنّهُ لم يفلح في مسعاه، لتُحتل الأحوازُ عسكريّاً من قبل رضا خان، شاهِ ما تُسمّى إيران في 20 نيسان العام 1925م.

وبذلك، تُعدُّ الأحوازُ أوّلَ دولةٍ عربيّةٍ مستقلَّةٍ ذاتِ سيادة، تحتلُّها دولةُ فارسِ الصفويّة، وتذهبُ ضحيّةَ السيّاساتِ الإيرانيّةِ التوسّعيّةِ الاستعماريّة، التي ما فَتِئت تسعى إلى تحقيقِ حُلمِها المأبون، باستعادةِ سيطرتِها على الأمّةِ العربيّة، عبرَ نشرِ الأفكارِ الطائفيّةِ، وتضعيف الهويّةِ القوميّة، والعملِ على إبرازِ الانتماءاتِ الثانويّة، وتفكيكِ السيّادةِ الوطنيّة في الدول العربيّة، وخلقِ أزمةِ تغلغلٍ خطيرة، وتأسيسِ ودعمِ أحزابٍ وحركاتٍ وميليشياتٍ طائفيّة، باعتبارها أدواتٍ شعوبيّةً طيّعة، تنفّذُ الأجندةَ الإيرانيّة، من خلالِ لعبِ أدوارٍ سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ واجتماعيّةٍ وثقافيّةٍ وعسكريّةٍ مختلفة، بُغيةَ تحقيقِ الغايةِ الإيرانيّة المنشودة.

هذه السياسات الاستعمارية الإيرانية التي بدأت باحتلال الأحواز، واستمرت باحتلال الجزر الإماراتية “أبي موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى”، أخذت منحىً إقليميّاً تصاعدياً خطيراً عبرَ سيطرتها على العراق ولبنان وسوريا واليمن، وتنفيذ العمليات الاستخباراتيّة القذرة في دول الخليج العربي، أبرزها افتعال الاضطرابات السياسية في البحرين التي كادت أن تقضي على سيادتها.

إنَ الأحوازيين لم يحنوا رقابهم للسلطات الإيرانية، ولم يرضخوا للسياسات الشعوبية والصفوية والملاليّة. فقد بدأت المقاومة الأحوازية في التصدي للمشاريع التوسعية الفارسية في عهد الدولة المشعشعيّة، واستُكملت في عهد الدولة الكعبية، واستمرت بعد احتلال الأحواز واغتصاب سيادتها الوطنيّة، من خلال القيام بالثورات والانتفاضات الشعبية المسلحة المتكررة، وتقديم آلاف الشهداء والضحايا والمعتقلين.

فقد بدأ النظام البهلوي الملكي بتطبيق سياسة تفريس الأحواز وطمس عروبتها منذ اللحظات الأولى للاحتلال من خلال استبدال تسمية الأحواز بخوزستان وتغيير أسماء المدن والبلدات الأحوازية، ومنع تسمية المواليد بأسماء عربية غير مذهبيّة، وفرض التعليم والتحدث باللغة الفارسية في المدارس والجامعات والمؤسسات و الدوائر الحكومية، ومنع تعلم اللغة العربية وارتداء الزّي العربي والاحتفال في الأعياد والاهتمام بالفلكلور الشعبي العربي، وتهجير الآلاف من شيوخ القبائل العربية والوجهاء والنّخب والشخصيّات البارزة إلى شمال إيران، واستقدام عشرات الآلاف من المستوطنين الفرس، وبناء المستوطنات والمدن الفارسية في الإقليم، ومصادرة الأملاك والأراضي الزراعيّة وتوزيعها على رموز النظام والمستوطنين، وبناء السدود.

يُلاحظُ أنّ هذه السياسات العنصريّة الممنهجة قد تمّ اتّباعها وتطبيقها واستكمالها بشكل أوسع وبوتيرةٍ أشدّ بعد سقوط النظام البهلوي، ووصول نظام وليّ الفقيه إلى سدّة الحكم في إيران. فالمشاريع الاستيطانيّة قد توسّعت، وسياسة تشييد السدود ونقل مياه الأنهار وحرف مجراها وتجفيف الأحوار والمستنقعات قد تضاعفت، والاستيلاء على الأملاك والأراضي الزراعية الخصبة ونهب الخيرات والموارد الطبيعيّة الأحوازيّة بحجة إقامة معسكرات للحرس الثوري وتوسيع عمل الشركات النفطية وتنفيذ مشاريع قصب السكّر، باتت سياسةً حكومية قوميّة مقدّسة يتسابق أزلام النظام الإيراني على تطبيقها، رغم التحذيرات المتكررة التي أطلقها الخبراء الإيرانيون بضرورة وقف هذا المشاريع التي تضرّ بالبيئة والاقتصاد.

فالأحواز بعدد سكانها الذي يُقدر بحوالي ثمانية مليون نسمة وقد يكون أكثر نظراً لمنع السلطات أي إحصاء مستقل، ومساحتها البالغة 210،000 كلم2، والتي تحتوي على 65% من الأراضي الزراعية في إيران، و95% من النفط والغاز، والغنية بالمعادن والموارد الطبيعيّة النادرة، والمتميّزة بوفرة أنهارها ومياهها الجوفيّة كنهر الكارون ونهر الكرخة ونهر الدز ونهر الجراحي، وحدودها الساحليّة الشاسعة المطلّة على الخليج العربي التي تناهز الألف كيلومتر، بات أهلها يعانون من الجفاف وارتفاع درجات الحرارة والتصّحر وتزايد منسوب ملوحة الأرض وبروز الأمراض المعدية، وهطول الأمطار الحمضيّة وحدوث العواصف الرمليّة التي تسبب حالات الاختناق، وتفشي المخدرات والبطالة والفقر المدقع حيث تشير الإحصائيات إلى أنّ أكثر من 70% من الأحوازيين باتوا يعيشون تحت خط الفقر بسبب السياسات الإيرانية العنصرية-البيئيّة الممنهجة التي تهدف إلى تغيير ديمغرافية الإقليم و تهجير سكانه العرب الأصليين.

وسنسعى في الجزء الثاني أن نسلط الضوء على آلية العمل السياسي الأحوازي المتجدد للتكيف مع السياسات الإيرانية والنظرة الأمنية تجاه عرب الأحواز.

انتفاضة تموز.. استمرارية نضالات الشعب العربي الأحوازي

استكمالاً للجزء الأول (انتفاضة تموز الأحوازية.. الأسباب والمآلات) الذي تناولنا فيه نبذة عن الأحواز ونضالات شعبه، نناقش في هذا الجزء آلية العمل السياسي الأحوازي الحديث والنظرة الأمنية التي تستهدف الإنسان الأحوازي وتحول دون تقدمه كغيره من بني قومه في الأقطار العربية.

وأمام هذه الجرائم الإيرانيّة اللاإنسانية، قام الأحوازيون بتغيير أسلوب مقاومتهم التقليدية التي كانت تعتمد على تأسيس حركات التحرر السريّة والمواجهة العسكرية منذ تسعينيات القرن المنصرم. فقد دأب المناضلون على توسيع النشاط الثقافي والفكري التوعويّ في إقليم الأحواز من خلال إقامة المدارس غير الاعتيادية لتدريس اللغة العربية وآدابها، وإلقاء المحاضرات السياسية في المساجد والبيوت. وكذلك، تأسيس المؤسسات الثقافية والاجتماعية التي يسمح بها النظام، ما وسّع دائرة الاهتمام السياسي للجماهير الأحوازية في المدن الرئيسية، وساهم برفع الوعي القومي للأحوازيين وخلق بيئة نضالية أحوازيّة عابرة للمذاهب والقبائل والمناطق والمدن. وعلى الرغم من سيادة التيار القومي في الأحواز الذي يطالب بالتحرير وتطبيق حق تقرير المصير، فقد ظهرت حركة التصحيح الديني وظاهرة التسنن بقوة في المجتمع الأحوازي حتى بات عدد السنة الأحوازيين يقدر بـ 40% إلى 50% حسب الإحصائيات الميدانية. الشيعة الأحوازيون بدورهم ناوأ بأنفسهم عن النظام وأكدوا على اختلاف معتقداتهم وطقوسهم وشعائرهم عمّا أسموه “التّشيّع الصفوي”، مشدّدين على تمسّكهم بعروبتهم وهويتهم القومية العربية.

كذلك، ظهرت حركات سياسية تطالب بفدرلة إيران وحصول الأحواز على إقليم قومي يتمتع بالسيادة الداخلية، وبرزت حركات أخرى شعارها تطبيق مواد الدستور الإيراني التي تسمح بتعلم لغة الأم وارتداء الزيّ المحلي، والحفاظ على الهوية القومية للشعوب غير الفارسية، وانتفاع أهل الإقليم من خيراته وموارده الطبيعية، وإيلاء أولوية التوظيف لأبناء الأقاليم الأصليين وتحسين الأوضاع المعيشيّة.

نتيجةً لهذه التحوّلات المجتمعيّة في الأحواز، شدّدت سلطات النظام الإيراني قبضتها الأمنية في الإقليم، وأغلقت المؤسسات الاجتماعية والثقافية والتعليمية العربية، واعتبرت أنّ التيار القومي والتيار الديني يشكلان خطراً وجودياً لوحدة التراب الإيراني. فسعت للقضاء عليهما عبر إعدام واعتقال مئات الأحوازيين منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، وإدانتهم بتهم جاهزة أبرزها “مفسد في الأرض” و”محارب الله”و”الانفصالي” و “تهديد الأمن القومي الإيراني ووحدة تراب الدولة”. والأهم من ذلك، سعت إلى منع اقتناء الأقمار الاصطناعية وأجهزة السي دي في إقليم الأحواز، معلنةً أنّ هذه الأجهزة والوسائل تهدد الهوية الإيرانية القومية الموّحدة، وتساهم في انتشار الفكر الانفصالي (الفكر القومي والفدرالي) والفكر الديني المتطرّف (التسنن) في أوساط الشباب. فاندلعت انتفاضةٌ كبيرة وحدثت اشتباكات مسلحة بين الأجهزة الأمنية الإيرانية وأهالي حي الثورة في العام 2001، سرعان ما امتدت إلى كافة أحياء وبلدات الأحواز العاصمة.

أمّا في العام 2005م قد اندلعت انتفاضة أحوازية في 15 نيسان، شملت كافة مدن وقصبات إقليم الأحواز، واشتركت فيها جميع التيارات والحركات السياسية والدينية من مختلف المشارب الفكرية، وكانت عابرة للطائفية والمذهبية والقبلية. وقد اعتبرها المراقبون بمثابة ولادة جديدة للوطنية الأحوازية والهوية القومية التي ترتكز على عروبة الأحواز وهويته القومية وضرورة تحقيق الحقوق المشروعة للشعب العربي الأحوازي.

 هذه الانتفاضة انطلقت بالتزامن مع الاحتفاء بذكرى احتلال الأحواز، واحتجاجاً على سياسة التهميش والتطهير العرقي والتغيير الديمغرافي والتهجير القسري والمشاريع المائية والبيئية العنصرية التي دمرت البيئة الأحوازية بشكل متعمد. ولقد رفع المنتفضون علم دولة الأحواز وعلم الأمم المتحدة في أكثر من مناسبة وطالبوا بضرورة تطبيق مبدأ تقرير المصير في الأحواز وفي أقاليم الشعوب غير الفارسية. وبدأت مساعٍ حثيثة للتواصل مع الشعوب غير الفارسية التي تقطن جغرافية إيران كالكرد والأذربيجانيين الأتراك والبلوش والتركمن والألوار بغرض تنسيق الجهود وتوحيد الرؤى والمطالب السياسية. والجدير بالذكر أنّ عدد المعتقلين السياسيين في هذه الانتفاضة قد بلغ الـ30 ألف، إلا أن 735 منهم من حكم عليه بالسجن لفترة تتراوح بين الـ3 سنوات والمؤبد، وهذا ما شكّل تحدياً سياسيّاً وأمنياً واقتصادياً واجتماعيّاً وثقافيّاً خطيراً للنظام الإيراني الذي سعى إلى مغازلة المنتفضين ومحاباة الأحوازيين وتقديم الاعتذارات والتنازلات الرسمية. وقد جاءت انتفاضتا 2017 و2018 متماشيتَين مع انتفاضة نيسان 2005 وحملتا ذات الشعارات وتضمّنتا ذات الأهداف والرؤى السياسيّة.

بناء على ما تقدّم، يمكن القول أنّ انتفاضة تموز2021 جاءت استكمالاً للنضالات الوطنيّة الأحوازيّة، واحتجاجاً على تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعيّة والخدميّة والبيئيّة، ورفضاً للسياسات الإيرانية العنصرية القمعية التي تستهدف القضاء على الحجر والبشر الأحوازيين. وقد كانت الأزمات الناتجة عن الجفاف وتجفيف الأنهار والأحوار ونقل المياه والتصّحر وارتفاع درجة ملوحة الأرض ومصادرة الأراضي وانقطاع الكهرباء المتكرر الوقود الذي أجّج وميض النار المخبوء تحت الرماد. لكنّ هذه الانتفاضة قد تميّزت عن سابقاتها باتساع رقعتها لتشمل الشعوب غير الفارسية والفرس أنفسهم الذين ضاقوا ذرعاً بالسياسات التوسعية الإيرانية ودعم الميليشيات الطائفية في دول الجوار التي جاءت على حساب الأوضاع المعيشية والاقتصادية والاجتماعية في جغرافية إيران.

لقد كشفت هذه الانتفاضة الأحوازية والاحتجاجات الآخذة بالاتساع في المدن الإيرانية الرئيسية كطهران وتبريز أنّ نظام ولاية الفقيه يعاني من أزمات اقتصاديّة وثقافية وهويّة تضعضع مكانته السياسية الهشّة، وتسرّع عمليّة تآكل شرعيّته. وبيّنت بشكل جليّ فشلَ ثقافة الإيرنة ومحاولة صهر الهويات القوميّة للشعوب غير الفارسيّة في بوتقة الهويّة الفارسيّة الوطنيّة الجامعة التي روّج لها النظام الملكي البهلوي وحاول تطبيقها منذ تغيير تسمية بلاد فارس إلى إيران (دولة العرق الآريّ؛ الأمة والدولة) في العام 1936 وسعت الجمهورية الإسلامية الإيرانية أن تطبقها في إطار سياسة التأيرن، زاعمةً أنّ العرب والأكراد والأذربيجانيين الأتراك والبلوش والتركمن والألوار يمتازون بهويتهم الإيرانيّة وولائهم لولاية الفقيه.

تأسيساً على ما تقدّم، يتّضح أنّ هذه الانتفاضة الأحوازية والاحتجاجات الإيرانية العامة تضعف مصداقية النظام الإيراني الإقليميّة والدوليّة، وتسلّط الضوء على مدى هشاشة وعدم فاعليّة النموذج السياسي-الديني الذي تحاول إيران تصديره للعالم، في حين أنّها تواجه أزمة وجود وتحدّيات داخليّة جمّة تتمثّل باستشراء الفساد والرشاوى والمحسوبيّة والمحاباة وعدم الرضا وتآكل الشرعيّة وانفلات الأمن وحكم البلاد بالنار والحديد وبنىً تحتيّة مهترئة وبنىً فوقيّة متفككة وهشّة.

جواد الحيدري، كاتب من الأحواز

ربما يعجبك أيضا