فورين أفيرز| تسييس الفيروس: لماذا أخفق العالم في التصدي للجائحة؟

آية سيد

ترجمة – آية سيد

في اليوم الذي سبق تنصيب الرئيس جو بايدن، عَبَرَتْ الولايات المتحدة علامة فارقة مأساوية، حيث وصلت الوفيات الناتجة عن كوفيد-19 إلى 400 ألف. حذر بايدن حينها من احتمالية خسارة نصف مليون روح أمريكية بحلول فبراير، وكان من الممكن ألا يصبح الأمر بهذا السوء.

 إن تناقض إدارة الرئيس دونالد ترامب وعدم كفاءتها ضاعفا حصيلة خسائر الجائحة، لكن كذلك فعلت أيضًا عوامل أكبر تتجاوز سيطرة أي حكومة، من السياسة إلى الحمائية إلى الذعر.

في الأيام الأولى للوباء وعندما بدأ فيروس كورونا المستجد عبور الحدود، سارعت الدول إلى وضع قيود على السفر وتطبيق إجراءات حمائية، على عكس نصيحة منظمة الصحة العالمية. وبدلًا من العمل معًا لاحتواء التفشي، تشاجرت القوى الكبرى حول من ينبغي أن يتحمل المسئولية، كما أصبح البحث العلمي يندرج ضمن المصالح القومية، وتطوير وتوزيع اللقاحات – وهي عملية تمنى الخبراء تقديمها حلًا عالميًّا لأزمة عالمية – فاقم الفوارق الصحية. لقد بات هذا التمييز العنصري المرتبط باللقاح واضحًا الآن: حتى 25 يناير، لم يتم توفير أي من الـ68,1 مليون جرعة لقاح التي تُدار عالميًّا في أي دولة منخفضة الدخل أو منخفضة إلى متوسطة الدخل. قال المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، في إشارة لفجوة الحصول على اللقاح: “إن العالم على شفا فشل أخلاقي كارثي!”.

غير أن الاستجابة الدولية غير المنسقة، والفوضوية والمتمركزة حول الدولة لكوفيد-19 تتناقض بشدة مع الاستجابة الدولية لجائحة إتش1 إن1 في عام 2009 وتفشي إيبولا عام 2014. في 2009، تبادلت السلطات الصحية من القوى الكبرى، مثل الصين والولايات المتحدة، التكنولوجيا والمعلومات حول انتشار فيروس أنفلونزا الخنازير وسارعت تطوير اللقاح – وهو تعاون ساعد في مكافحة ذلك الفيروس وفيروس أنفلونزا الطيور إتش7 إن9 اللاحق، والذي كان من الممكن أن يصبح جائحة بسهولة في 2013 لكنه لم يفعل. ثم في 2014، استجابت القوى الكبرى لدعوات من الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية لإرسال مساعدات صحية إلى غرب أفريقيا للمساعدة في محاربة فيروس إيبولا، كما أقامت الصين والولايات المتحدة بالتحديد شراكة وثيقة، حيث عملا سويًّا لإنشاء مراكز علاج وإمدادات طبية مباشرة، والتي لعبت دورًا مهمًا في تحويل دفة الأمور للتغلب على إيبولا.

يلوم بعض المحللين منظمة الصحة العالمية على انهيار التعاون الصحي الدولي خلال جائحة كوفيد-19. ولكي نكون منصفين، ارتكبت الهيئة الصحية العالمية مجموعة من الخطوات الخاطئة، فقد أخّر إعلان التفشي حالة طوارئ صحية عامة أثار قلقًا دوليًا، كما أظهرت الهيئة عجزًا عن تطبيق اللوائح الصحية الدولية بطريقة مترابطة وفعالة، ورضخت كثيرًا للصين في جهد للحصول على مساعدتها في مراقبة المرض والتصدي له. بيد أن تلك المشكلات ليست جديدة؛ فخلال جائحة إتش1 إن1 عام 2009، أوصت منظمة الصحة العالمية بمجموعة من المبادئ التوجيهية للتخفيف المعتدل للدول حول العالم لكنها دعمت قرار الصين باتباع استراتيجية احتواء صارمة، وهو ما أرسل إشارات مختلطة فيما بدت وأنها محاولة لاسترضاء بكين. وأثناء تفشي إيبولا في 2014، كانت منظمة الصحة العالمية بطيئة بالمثل في إعلان الوباء حالة طوارئ صحية عامة تثير قلقًا دوليًّا، وفي كلتا الحالتين، وجدت الدول طرقًا للعمل معًا من أجل منع حالات الطوارئ الصحية العامة من أن تصبح أحداثًا كارثية.

ما الذي يجعل هذه المرة مختلفة؟

تكشف النظرة عن قرب على الاستجابة الدولية لكوفيد-19 تطورين جديدين، واللذين فاقما تأثير الجائحة والاستجابة لها وهما: التسييس وإضفاء الطابع الأمني. 

فيروس سياسي

خلال الأوبئة وحالات التفشي السابقة، كان منشأ المرض يُعدّ قضية علمية وليست سياسية. على سبيل المثال، لم تتحدَ الصين فرضية أن وباء سارس 2002 إلى 2003 بدأ في فوشان بمقاطعة جوانجدونج، ولم تتحدث أي دولة أخرى علنًا عن الحاجة لمساءلة الصين عن التسبب في التفشي. لكن في غضون أشهر من الاكتشاف المبدئي لكوفيد-19 في ووهان، الصين، في ديسمبر 2019، أصبح السؤال عن المكان الذي أتى منه الفيروس مشحونًا سياسيًّا.

حمّل ترامب، الذي اعتاد أن يسمي كوفيد-19 “فيروس الصين”، بكين مسئولية “إثارة جائحة عالمية”، فيما ردت وسائل الإعلام الحكومية الصينية على ذلك بقوة، مصممة على أنه “رغم أن كوفيد-19 اكتُشف لأول مرة في الصين، إلا أن ذلك لا يعني أنه نشأ في الصين”. وصرّحت بكين أن دولًا أخرى ربما تكون مسئولة عن إطلاق الفيروس، وقال وزير الشئون الخارجية الصيني، وانج يي، الشهر الماضي: “تشير المزيد من الأبحاث إلى أن الجائحة تسببت بها على الأرجح حالات تفشي منفصلة في عدة أماكن مختلفة في العالم”.

ولم يكن منشأ الفيروس هو ما جرى تسييسه فقط؛ بل كذلك أيضًا استجابة منظمة الصحة العالمية. فقبيل كوفيد-19، لم تُشكك الولايات المتحدة في نفوذ الصين المتزايد على منظمة الصحة العالمية. لقد انضمت واشنطن إلى بكين في دعم انتخاب دكتور مارجريت تشان، وهي صينية من هونج كونج، كمدير عام لمنظمة الصحة العالمية في 2006. (ودعمت الولايات المتحدة أيضًا إعادة انتخابها في 2012، عندما كانت المرشحة الوحيدة). لكن عندما أصبحت الاستجابة الدولية لكوفيد-19 متداخلة مع السياسة الداخلية، اتهم ترامب – المتلهف لإيجاد كبش فداء لسوء تعامله مع الجائحة – منظمة الصحة العالمية بالتعرض للتلاعب من طرف الصين، بالرغم من افتقاره لأدلة قوية. وردًا على هذا الاتهام، اتهمت الحكومة الصينية الولايات المتحدة بـ”السعي لتشويه مصداقية بكين أثناء تهربها من مسئولياتها”.

إن التوترات بين الصين والولايات المتحدة لم تقوض فحسب قدرة منظمة الصحة العالمية على إجراء تحقيق مستقل وشفاف وشامل في كيف بدأت الجائحة – لا تزال المنظمة لم تجري تحقيقًا كافيًا – بل أعاقت قدرتها على دفع الدول للتصرف سريعًا وبتناغم لوقف انتشار الفيروس، هذا فضلا عن أن التوترات الأمريكية – الصينية أعاقت أيضًا مجلس الأمن، الذي فشل في إصدار قرار قوي يحشد الوكالات الأممية لمكافحة كوفيد-19 أو إقامة هيئة فرعية لتنسيق الجهود الدولية الرامية لاحتواء الجائحة. 

ومع اشتداد الحرب الكلامية بين بكين وواشنطن؛ ترسخت القومية، وتصلبت المشاعر العامة ضد الصين في الولايات المتحدة، وانتشرت معاداة أمريكا في الصين. وضعت الدولتان الاستجابة للجائحة في إطار معركة بين نماذج سياسية متنافسة، وبالنسبة إلى بكين، فقدرتها على احتواء المرض سريعًا بينما خرج عن السيطرة في الولايات المتحدة أظهر فشل الديمقراطية الليبرالية وتفوق النظام الاستبدادي، حيث يحتكر الحزب الشيوعي الصيني السلطة السياسية. وبالنسبة إلى واشنطن، فحقيقة وجود الجائحة تثبت فشل الحزب الشيوعي الصيني في تقديم الحوكمة الجيدة لشعبه وللعالم.

إن تعهد بايدن بعقد قمة للديمقراطيات من أجل معالجة كوفيد-19 يخاطر بتعزيز هذه الرواية المثيرة للانقسام، وهو ما يقسّم العالم إلى معسكرين سياسيين في وجه تحدٍّ عالمي مشترك.

وهم الأمن

إن ميل الدول حول العالم لوضع الأزمة في إطار الأمن القومي ضار بنفس القدر مثل تسييس الجائحة. وعلى عكس معظم الأوبئة السابقة، اعتبرت كل الدول تقريبًا كوفيد-19 تهديدًا وجوديًّا – وهو ما برر بدوره الاستجابات التي لا تتقيد بالإجراءات السياسية الطبيعية. نفذت الحكومات حول العالم إجراءات صارمة، مثل غلق مدن وأحياء بأكملها، وفرض حظر تجول ومنع السفر، وإعلان حالة الطوارئ، ونشر القوات العسكرية. في الولايات المتحدة، لجأ ترامب إلى قانون الإنتاج الدفاعي لدعم استجابته لكوفيد-19 وعيّن جنرالًا كضابط مسئول عن عملية السرعة القصوى لإنتاج لقاح، وهذا الأساس الحربي لم يعفِ الدول من الالتزام الأخلاقي بمساعدة الآخرين فحسب؛ بل جعل الإمدادات الطبية الضرورية – مثل معدات الوقاية الشخصية والمكونات الدوائية النشطة – أكثر قيمة وبات الحصول عليها أصعب من ذي قبل.

تسارعت الدول، مدفوعة بمبدأ الاعتماد على الذات، لفرض قيود السفر وإجراءات حمائية أثناء المزايدة أمام بعضها البعض للحصول على أجهزة التنفس والأقنعة الجراحية، وأصبح التعاون الصحي الدولي مسألة مصلحة قومية ضيقة. لقد رفضت الصين عرض مراكز السيطرة على الأمراض الأمريكية لإرسال علماء أوبئة إلى البلاد في بداية التفشي، وقلّصت واشنطن لاحقًا التعاون في مجال الصحة العامة مع بكين على أساس أن الصين كانت تخالف اتفاقيات الصحة الدولية لكي تعزز نفوذها بالخارج. نفس هذه الديناميكيات أدت سريعًا إلى قومية اللقاح، التي شجعت الدول الغنية على عقد صفقات منفصلة مع صُناع اللقاح الرئيسيين لضمان أولوية الحصول عليه، فيما طلبت بعض هذه الدول جرعات لقاح أكثر بكثير مما تحتاجه؛ حيث يُزعم أن كندا، على سبيل المثال، حجزت بين خمس إلى عشر جرعات لكل مواطن.

لقد عزز التحول المدفوع بالجائحة في توازن القوة بين الصين والولايات المتحدة المشاعر القومية، وبعد أن كانت أول من عانى من التفشي، أصبحت الصين أول من يتعافى، حيث سجل اقتصادها نموًا بنسبة 2,3% في عام 2020، مقارنةً بنمو سلبي بنسبة 3,5% في الولايات المتحدة، وسوف تستمر فجوة الناتج المحلي الإجمالي بين الدولتين في التضاؤل، وهو ما يُفاقم على الأرجح خوف واشنطن من أن تحل الصين محلها كأكبر قوة عالمية. وما دامت الدولتان تنظران للاستجابة للجائحة من خلال عدسة الأمن والمنافسة، فسوف تعطى الأولوية لمكاسب القوة النسبية على المكاسب المطلقة من التعاون في مجال الصحة العامة.

للاطلاع على الرابط الأصلي اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا