فورين بوليسي | الولايات المتحدة تخالف التوقعات وتخرج منتصرة من جائحة كوفيد19

شهاب ممدوح

ترجمة – شهاب ممدوح

إن جميع الأزمات الممتدة يكون لديها مراحل متعددة؛ ما يعني أن التقييمات الآنية للرابحين والخاسرين يمكن أن تتغير بشكل مثير بناء على موعد هذا التقييم. إن أي تحليل لأداء الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، كُتب في فبراير عام 1942، كان من المستحيل أن يكون إيجابيًّا للغاية. كما أن مسار الحرب الباردة كان يبدو مختلفًا تمامًا في عامي 1949 و1969 مقارنةً مع ما آل إليه الوضع عام 1989.

الأمر ذاته ينطبق على جائحة فيروس كورونا. في أواخر يناير 2020، كان الرأي السائد يقول إن كوفيد19 كان في معظمه مشكلة الصين: شيء يشبه “لحظة تشيرنوبيل” للحزب الشيوعي الصيني. وبحلول منتصف مارس 2020، كانت الرواية السائدة تقول إن الجائحة كانت بمثابة كارثة على الولايات المتحدة: شيء شبيه بـ “لحظة أزمة السويس” لقوة عظمى متراجعة. في منتصف عام 2020، بدت أوروبا كأنها منتصرة نسبيًّا في الأزمة، لكنها اليوم تبدو كطرف خاسر.

لقد ألحق كوفيد19 بالتأكيد خسائر مميتة وفظيعة بالولايات المتحدة – ما يقارب 564 ألف وفاة والعدد في زيادة. لكن بعد ما يزيد قليلًا على عام من انتشار الوباء في معظم أرجاء العالم، حان وقت تحديث – وبالطبع مراجعة – فهمنا التقليدي للطرف “المنتصر” والطرف “الخاسر” في مواجهة الجائحة. نحن الآن نمرّ بجزء الأزمة الذي يُظهر بصورة مؤلمة نقاط ضعف الولايات المتحدة ونقاط القوة “المزعومة” للصين. إن فهم العالم لتأثيرات الجائحة ربما يتحول أكثر لصالح الولايات المتحدة بمرور الزمن، كما أن تداعياتها ربما تكون كارثية في نهاية المطاف على طموحات الصين العالمية.

من الصعب أن نتذكر هذا الآن، لكن في يناير عام 2020، كان المسئولون الأمريكيون يتباهون بشأن عدم تأثر بلادهم بكوفيد19. ثم بعدها تنبأ وزير التجارة “ويلبر روس” بأن الجائحة ستدمر الاقتصاد الصيني، وتسهّل من إبعاد الصين عن سلاسل الإنتاج العالمية. لكن بداية من مارس 2020، جاء دور الصين للشماتة.

بدت الصين وكأنها تغلبت بسرعة نسبيًّا على الجائحة التي انطلقت من أراضيها، عبر حشد مواردها بشكل حاسم بمساعدة من نظامها المستبد، وتطبيق قيود صحة عامة صارمة، ما مكّنها من وضع نفسها على طريق إعادة إطلاق اقتصادها الذي تضرر في بداية عام 2020. وبحلول منتصف العام، بدا أن أجزاء كبيرة من الصين تعود مجددًا للوضع الذي كان قائمًا قبل تفشي الجائحة.

من جانبها، كانت الولايات المتحدة تترنح! فقد بدت مشلولة في فترات طويلة من عام 2020 بسبب قيادة رئاسية مترددة ومدمّرة أحيانًا، وبسبب إخفاقات صادمة داخل مؤسسات تكنوقراطية، وتسييس إجراءات صحة عامة أساسية، ومشاكل متواصلة في التنسيق بين السلطات المحلية والفيدرالية.

والآن وبعد 13 شهرًا من انتشار الجائحة، لا تزال المدارس العامة مغلقة في أجزاء كثيرة من البلاد، وتجاوزت حصيلة الوفيات 550 ألف حالة وفاة، بينما تمكنت الصين من تحقيق إنجاز مبكر فيما يتعلق بدبلوماسية اللقاح – مُستغلة معدلات الإصابة المتدنية في الدخل لتصدير لقاحات كوفيد19 للخارج – لم يكن أمام الولايات المتحدة الضعيفة في البداية خيار سوى تبنّي نزعة قومية شرسة فيما يتعلق بتوزيع اللقاح، ولم تكن واشنطن وحدها التي كافحت للسيطرة على الجائحة: باستثناء دول صغيرة نسبيًّا، العديد منها إما جزر أو شبه جزر (مثل كوريا الجنوبية)، حققت مجموعة قليلة من الدول الديمقراطية نجاحًا في مواجهة الفيروس. لكن التناقض الواضح بين أداء القيادة الرئيسية للنظام الليبرالي (أمريكا) ومنافستها الرئيسية (الصين) خلق شعورًا عامًا بأنّ تحولًا تاريخيًّا يحدث.

وقد أشار محللون مخضرمون إلى الجائحة بوصفها ضربة قاضية للنظام لليبرالي، وانتكاسة كبرى للقوة الأمريكية، و”نقطة مفصلية تاريخية” تسبق صعود نجم الشرق المستبد على حساب الغرب المتقهقر. وكشفت دراسة أجراها معهد “بيو” للأبحاث في سبتمبر 2020، أن التأييد الدولي للولايات المتحدة انخفض بشكل حاد (حتى بمعايير سنوات ترامب) إذْ شكلت استجابة البلاد لجائحة كوفيد19 نقطة ضعف رئيسية. وذكر “فينتان أوتول” كاتب عمود في صحفية “أيرش تايمز” أن “العالم كره وأحب وحسد الولايات المتحدة”، ثم أضاف “لكنه اليوم، للمرة الأولى، يشعر بالشفقة عليها”. في مطلع عام 2021، استشهد الرئيس الصيني “تشي جي بينغ” بكوفيد19 كدليل على ذلك قائلًا: “الشرق يصعد والغرب يتراجع” وهي مقولة يردّدها مساعدوه باستمرار في تصريحاتهم.

تبدو هذه الحجة بصورة أو بأخرى أمر مُسلّم به. إن الإدراك هو قوة في الشئون الدولية: يزعم وزير الخارجية الأمريكي السابق “هنري كسينجر” أن التوازن النفسي قد يكون بنفس درجة أهمية التوازن المادي، وها هو التوازن المادي قد تحوّل. في بكين، عزز كوفيد19 من وجهة نظر الرئيس “تشي” والمحيطين به، بأن العالم يشهد “تغييرات عظيمة لم يشهدها منذ قرن”، وأن الصين يمكنها السعي للحصول على نفوذ وميزات على عدة جبهات مرة واحدة.

وهذا ما فعله نظام “تشي” بالضبط – بأسلوب فظ للغاية – في عدة مناطق بداية من مضيف تايوان وبحر الصين الجنوبي، مرورًا بجبهة الهيملايا مع الهند، وصولًا إلى الدبلوماسية مع أوروبا. لقد أصبحت الصين الواثقة ظاهريًّا (والمفرطة في ثقتها بالطبع) مستعدة شيئًا فشيئًا لقبول المخاطر والاحتكاك بواشنطن وعواصم أخرى، كما زادت جرأتها في رغبتها لإجراء إعادة تنظيم أساسي لأوضاع آسيا وربما العالم.

خلق كوفيد19 أيضًا تغييرًا سلبيًّا في السياسة الخارجية الأمريكية. أظهرت الجائحة، إلى جانب أمور أخرى، أن الولايات المتحدة تكافح للتصرف بشكل ملائم في مواجهة تحدٍّ جيلي، وأنها أضحت منقسمة لدرجة أنها غير قادرة حتى على الاتفاق في داخلها على مدى خطورة هذا التهديد، كما كشفت الجائحة أن رئيس البلاد تخلى ببساطة عن أهم مسئولياته. لم تكن هذه الانطباعات مفيدة لصورة هذه القوة العظمى التي لا تعتمد علاقاتها فقط على حقيقة القدرات الأمريكية، ولكنها تعتمد أيضًا على إدراك العالم لكفاءتها ومصداقيتها.

في غضون هذا، فشلت الولايات المتحدة مبكرًا في لعب دورها التقليدي كمحرّك للعمل الجماعي في الأزمات الدولية؛ ما ساهم في عجز مؤسسات مهمة في النظام الليبرالي، مثل مجموعة الدول السبع. وبالإضافة إلى صدمات أخرى شهدها عام الجائحة – موسم اضطرابات عنيفة أحيانًا، وانتخابات رئاسية متنازع عليها بناء على أسس مزيفة تمامًا، واقتحام مبنى الكونغرس من مواطنين أمريكيين – أظهر كوفيد19 أيضًا أن الولايات المتحدة بلد مريض ماديًّا وسياسيًّا، في الداخل والخارج، باستثناء بعض الإدانات الغاضبة ضد الصين في الخارج. بالتالي كانت الجائحة بمثابة هدايا تتدفق على أبواق الدعاية الصينية – ولا تزال هذه الجائحة ذكرى مقلقة لأصدقاء الولايات المتحدة.

لكن هذه ليست الصورة الكاملة؛ حتى في ظل ذروة الجائحة، كانت الأمور أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه. فقد كانت هناك مبالغة في تصوير أداء الصين، وفي ربيع عام 2020 حققت “دبلوماسية القناع” مكاسب قليلة في مجال القوة الناعمة لأنها غالبًا ما كانت تشمل بيع بضائع طبية رديئة بهوامش ربح مرتفعة للغاية – وذلك بعد أن اشترت بكين بقدر استطاعتها في وقت مبكر معدات حماية شخصية عالية الجودة موجودة في السوق العالمي، بينما كانت تصرّ، كذبًا، أن المشكلة جرى احتواؤها. وبصورة أكثر عمومًا، كان من الصعب دائمًا مقارنة أداء الولايات المتحدة مع أداء الصين، ببساطة لأن الحزب الشيوعي الصيني أثبت عدم رغبته بشكل مطلق في تقديم معلومات موثوق فيها بشأن الضرر البشري أو الاقتصادي للفيروس.

إن إخفاقات الولايات المتحدة أصبحت مكشوفة أمام العالم، بينما خدعت الصين بشكل منظم العالم الخارجي – وهي تستمر في فعل هذا، وكان آخرها القضية المتعلقة بمصدر كوفيد19.

إن الانطباع المأخوذ عن شلل الولايات المتحدة قد يكون مخادعًا أيضًا. وفّرت الولايات المتحدة بهدوء قدرًا من الإدارة الاقتصادية العالمية المهمة: خطوة الحكومة الأمريكية بفتح خطوط مبادلة أثناء أكثر أيام الجائحة فزعًا في مارس 2020، ربما أنقذت العالم من انهيار مالي أكثر سوءًا. في العام التالي، ضخّ الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي محفزات مالية بتريليونات الدولارات في الاقتصاد الأمريكي – وهي خطوة تظل آثارها طويلة الأمد غير واضحة، لكنها قللت كثيرًا من الضرر قصير الأمد للجائحة. وبالرغم من أن “عملية السرعة الفائقة” ما كان ينبغي لها أن تهيمن على استجابة إدارة ترامب للفيروس، إلا أنها كانت مقامرة ناجحة من ناحية تسهيلها تطوير لقاحات ثورية جديدة في وقت قياسي.

أخيرًا، ومثلما كان من الحماقة وقف تحديث التقييم الخاص بالفائزين والخاسرين في فبراير 2020، كان من الحماقة أيضًا فعل الشيء ذاته في نوفمبر 2020 أو حتى في فبراير من هذا العام. إن كان هناك الآن سبب وجيه لمراجعة رواية “الصين فازت وأمريكا خسرت”، فإنه ينبغي أن يكون أيضًا هناك سبب أكثر وجاهة لمراجعة هذه الرواية في المستقبل.

دعونا نسلط الضوء على العوامل الثلاثة التالية: أولًا، لقد تجاوز العالم مرحلة الجائحة التي تفشل فيها الولايات المتحدة ويصعد فيها نجم الصين. فالولايات المتحدة الآن تطرح عددًا كبيرًا من اللقاحات الجديدة المتطورة بسرعة مذهلة. بالرغم من أن توزيع هذه اللقاحات كان بطيئًا في البداية، إلا أن الولايات المتحدة أصبحت توزع نحو 3 ملايين لقاح يوميًّا في مطلع أبريل. وقد باتت في طريقها لتحقيق مناعة القطيع أسرع من أي دولة كبيرة أخرى باستثناء المملكة المتحدة، التي يبلغ عدد سكانها أقل من ربع سكان الولايات المتحدة، وأسرع بعدة أشهر (أو أكثر) من الصين، بينما تنتشل الولايات المتحدة نفسها من مستنقع الجائحة والركود، ستجد نفسها ليس في موقف ضعف ولكن موقف قوة متزايدة.

وبالرغم من أن هذه مجرد توقعات، إلا أن صندوق النقد الدولي يتوقع الآن أن الولايات المتحدة ستحقق ناتجًا محليًّا إجماليًّا بحلول عام 2024 أكبر من توقعات ما قبل انتشار الجائحة. ومن غير المتوقع أن يحقق أي اقتصاد رئيسي هذه الدرجة من الأداء الجيد. إن قدرة الولايات المتحدة على الاستفادة من نقطة قوتها طويلة الأمد-الابتكار التكنولوجي- لتخليص نفسها من هلاك الجائحة، تظهر أن الصلابة الأمريكية لم تقع ضحية لكوفيد19. وعوضًا عن هذا، يقع كوفيد19 ضمن نمط تاريخي لاستجابات الولايات المتحدة في مواجهة تحديات رئيسية: بدايات بطيئة للغاية، كما كان الحال في الحربين العالميتين الأولى والثانية، تتلوها انتصارات حربية مثيرة.

ثانيًا، تمتلك الولايات المتحدة الآن الفرصة لتحقيق نجاحات في دبلوماسية الجائحة. بالنسبة لأمريكا، كان العام الأول للجائحة كفاحًا يائسًا للسيطرة على الوضع الداخلي. أما العام الثاني للجائحة، بمجرد أن تنتهي الولايات المتحدة من تطعيم شعبها، فسيشهد تدريجيًّا بذل جهد للتعامل مع كوفيد19 بوصفه تحديًا صحيًّا عالميًّا. هذه مهمة مصممة خصيصًا لكي تلائم التقليد المتمثل في القيادة الأمريكية المتنوّرة – وهي قيادة دعمت مصالح الولايات المتحدة عبر الترويج لمفهوم شامل نسبيًّا للخير، وهي مهمة يمكن لأمريكا القيام بها بشكل أقوى مع تعافيها داخليا من آثار الجائحة.

إن عناصر هذا النهج بدأت تتشكل بالفعل. أصبحت الولايات المتحدة، بقدر قليل من الضجيج، أكبر متبرع مالي لبرنامج “كوفاكس” العالمي لتوزيع لقاحات كوفيد19، كما تعمل الآن مع حلفائها وشركائها، مثل مبادرة الحوار الأمني الرباعي (المعروف باسم كواد)، لوضع نُهج خلاقة لتصنيع اللقاحات وتوزيعها عالميًّا. وكما تظهر مبادرة “كواد” للقاحات، باتت الولايات المتحدة تتعامل الآن مع دبلوماسية اللقاح بطريقة تعزز التعاون بين الدول المهددة من صعود الصين، دون الدخول في مواجهة علنية مع بكين، وربما ستزداد وتيرة هذا النهج في المستقبل القريب، وما كان بعض المحللين يعتقدون أنه قد يكون ممكنًا بحلول نهاية 2021 – برنامج طموح لإنتاج وتوزيع لقاحات أمريكية الصنع – قد يكون ممكنًا بنهاية الصيف أو أوائل الخريف.

أما الصين، على النقيض من هذا، فستجد نفسها قريبًا في وضع ضعيف. إن استخدام شركات صينية لنهج غير متطور نسبيًّا وإجراءها، في بعض الحالات، تجارب إكلينيكية في الخارج، يعني أن بكين قد توزع لقاحات لدول أخرى. لكن عدد اللقاحات المقدمة كان أقل بكثير من العدد الذي وعدت به، بينما قد تقلل الشكوك المستمرة بشأن فاعلية اللقاحات الصينية من جاذبيتها. في دولة الإمارات العربية المتحدة، أُعطي بعض الأشخاص الذين تلقوا لقاح “سيانوفارم” جرعات ثالثة لأن أول جرعتين لم تنجحا في مواجهة الفيروس، وقررت حكومة سنغافورة ترك اللقاحات صينية الصنع في مخازنها في الوقت الحالي، وبدأت في الاعتماد على بدائل غربية، كما يُظهر سكان هونغ كونغ حماسة قليلة تجاه اللقاحات الصينية.

إن التقارير التي تفيد أن بكين سعت إلى إجبار دول متلقية للقاح على تقديم تنازلات دبلوماسية – مثل ابتعاد بارغواي عن تايوان – تشير أيضًا إلى أن الصين ربما تكافح لكسب قدر كبير من النوايا الحسنة، حتى مع استخدامها لبعض الضغوط القسرية. وبالرغم من أن هذا لم يكن احتمالًا مرجحًا قبل بضعة أشهر مضت، لا تزال لدى الولايات المتحدة فرصة لتكون البلد الذي يُخرج العالم من مستنقع الجائحة – وهي فرصة لو استغلتها واشنطن جيدًا، ستدفع العالم بالتأكيد لإعادة التفكير فيما يخص مَن “الطرف الفائز” في هذه الأزمة.

ثالثًا، بمرور الوقت، من المحتمل أن يتحول هجوم الصين الجيوسياسي، الذي تنفذه تحت ستار كوفيد19، إلى خطأ استراتيجي. على المدى القريب، خلقت الجائحة فرصة استغلتها بكين. لكن بقيامها بذلك، ربما خلقت الصين مشاكل طويلة الأمد لنفسها. فبينما سرّعت جائحة كوفيد19 من سعي الصين لتولي دور القيادة، إلا أنها سرّعت أيضًا من الاتجاه العالمي نحو مواجهة نفوذ الصين.

في العديد من الدول الديمقراطية، وصلت الآراء السلبية تجاه الصين أعلى مستوياتها منذ عقود، ويُعزى هذا جزئيًّا إلى النهج الاستخفافي والمخادع واللامسؤول للغاية الذي اتبعته بكين في التعامل مع الجائحة في البداية. لقد أعطت جائحة كوفيد19 العالم أيضًا لمحة عن الطريقة التي قد تتصرف بها الصين في حال ازدياد قوتها ونفوذها – فهي تضغط على تايوان، وتفتعل شجارات في جبهات متعددة، بل إنها تحاول قمع حرية التعبير والمجتمع المدني في ديمقراطيات تبعد عنها آلاف الأميال.

ومما لا يمكن إنكاره أن الردّ الدولي لم يكن دائمًا بالقوة التي ربما كانت ترغب بها الولايات المتحدة، ويُعزى هذا جزئيًّا إلى أن هناك ثمنًا اقتصاديًّا عاليًا مقابل استعداء بكين، فضلًا عن الشكوك العالقة بشأن موثوقية الولايات المتحدة. لكن الإشارات تبدو مشؤومة عند النظر إليها من حديقة “تشونغنانهاي” الإمبريالية السابقة في الصين، حتى لو كان معاونو الرئيس “تشي” يخشون إخباره بذلك.

وربما يضع الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” مسافة بينه وبين الرئيس الأمريكي “جو بايدن” في العلن، لكن سلاح البحرية الفرنسي يقود تدريبات عسكرية مع مبادرة “الحوار الأمني الرباعي” (كواد) والتي باتت تظهر بوصفها مركزًا للتعاون الاستراتيجي لإبعاد النفوذ الصين عن منطقة المحيطين الهندي – الهادئ. تسعى اليابان وألمانيا لإجراء حوار استراتيجي عالي المستوى، كما اقتربت الهند أكثر نحو الولايات المتحدة، فيما وضعت المملكة المتحدة الآن المنافسة مع الصين بالقرب من قلب سياسة بريطانيا العالمية، وغيّرت دول أوروبية مهمة بشكل ملحوظ، إن لم يكن بشكل علني دائمًا، موقفها تجاه شركة “هواوي” وشبكات الجيل الخامس منذ مطلع 2020.

كما أن هناك جهودًا وليدة لنقل بعض سلاسل الإمداد إلى خارج الصين، وبدأت دول مثل المملكة المتحدة وفرنسا وأستراليا واليابان في الحديث علانية، وإن كان بهدوء حتى الآن، بشأن طريقة الردّ على الهجوم الصيني على تايوان. وبالطبع، هناك توافق بين الحزبين الآن في الولايات المتحدة على أن الصين هي عدو خطير.

كمّ من هذه التطورات كانت نتيجة مباشرة لكوفيد19؟ ربما عدد كبير منها. يحاول صقور الأمن القومي منذ سنوات الزعم أن الصين هي منافس خطير، لكن أثناء جائحة كورونا تضاعفت نسبة الأمريكيين الذين يعتبرون الصين أكبر عدو لبلادهم، من 25 بالمائة إلى 45 بالمائة. في تسعة من أصل اثنتي عشرة دولة جرى استطلاعها، زادت نسبة الآراء السلبية تجاه الرئيس الصيني “تشي” بمعدلات عشرية في الفترة بين 2019 و2020. المؤكد أن الجمهور الدولي يظن أيضًا أن الولايات المتحدة كان أداؤها سيئًا للغاية في التعامل مع الجائحة. لكن الولايات المتحدة لديها فرصة الآن تحت قيادة بايدن الجديدة لإعادة بناء مصداقيتها. لن يذهب “تشي” إلى أي مكان، كما أن أسوأ الصفات التي ميّزت استجابة الصين لكوفيد19- لا سيما السريّة وعدم الأمانة البشعة المتبعتين منذ البداية – هي جزء أصيل من نظام الحزب الواحد اللينيني الذي يديره “تشي”.

لو نظرنا إلى الماضي، ربما يلوح كوفيد19 في الأفق بوصفه اللحظة التي كشفت فيها بكين بشكل علني عن طموحاتها وتكتيكاتها، لكنها من دون قصد حرّفت بأيديها هذه الطموحات عن مسارها. ربما يبدو هذا القول سخيفًا بعد مضي عام خسرت فيه الولايات المتحدة العديد من مواطنيها، كما أنها تعتمد على قدرتها على استغلال الفرص المتاحة أمامها، وذلك بعد أن تعرّضت سمعة الولايات المتحدة الخاصة باتباعها سياسات جريئة وإيجابية لضرر كبير.

لكن جائحة كوفيد19 ليست المثال الوحيد على أزمة دولية أسفرت في النهاية عن نتائج جيوسياسية تتعارض مع الانطباعات الأولى أو حتى الثانية. فآثار الجائحة الفتاكة على الولايات المتحدة لم تنتهِ بعد. إذْ تنتقل هذه الجائحة إلى مرحلة جديدة من غير المرجح أن تكشف عن قوى عظمى تصارع للبقاء، لكنها ستكشف عن قوى عظمى تتميز بمرونة مذهلة.    

للإطلاع على المقال الأصلي إضغط هنا

ربما يعجبك أيضا