نيويورك تايمز: لماذا تنهار جنوب إفريقيا؟

بسام عباس

ترجمة – بسام عباس

شهدت جنوب إفريقيا، في الأسابيع القليلة الماضية، أكبر اضطرابات منذ عقود. حيث نُهبت مراكز التسوق والمخازن، وهوجمت شاحنات الإمداد، ودُمرت المحال التجارية. وقتل ما لا يقل عن 337 شخصًا.

في البداية، عندما حملت العائلات كميات كبيرة من السلع الاستهلاكية التي لم تكن لتتمكن من شرائها، بدت الاضطرابات وكأنها تعبير عن السخط الشعبي. فبعد أن تعدت نسبة البطالة 30%، وانتشار الجوع وتفاقم عدم المساواة، كان هناك سبب وجيه للغضب. ولكن بعيدًا عن كونها ثورة اجتماعية عفوية، يبدو أن أعمال الشغب هذه كانت في الواقع مكيدة سياسيَّة.

وبعد اعتقال “جاكوب زوما”، الرئيس السابق للبلاد، في 7 يوليو– لقضاء عقوبة بالسجن لمدة 15 شهرًا بتهمة ازدراء المحكمة– تعهد أنصاره وحلفاؤه بعدم استقرار البلاد. وقد نجحوا في تنسيق حملة تخريب اقتصادي عبر واتس آب وتيلجرام وتويتر وشبكات اجتماعية أخرى.

ومن جانبه، سعى الرئيس الحالي “سيريل رامافوزا” منذ ذلك الحين إلى تهدئة البلاد، مشيرًا إلى أن الأسوأ قد انتهى. ولكن الأمور لا تعالج بهذه الطريقة، ففي الواقع، أظهرت أحداث الأسابيع الماضية حقيقة قاتمة عن البلاد، فقد طفا على السطح التعفن العميق للنظام الاجتماعي والسياسي في جنوب إفريقيا، المليئة بالتوتر العنصري وانعدام الثقة الطائفية والظلم والفساد. وباتت أمة “قوس قزح”، التي يفترض أنها منارة للمصالحة، قاب قوسين أو أدنى من الانهيار.

ويأتي المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم في بؤرة الخلاف، فعلى مدى 27 عامًا منذ أن وجه جنوب إفريقيا إلى الديمقراطية، حمل آمال الملايين من مواطني جنوب إفريقيا. واعتمادًا على سمعته كحزب تحرير، حَظِيَ بدعم قوي وظل منيعًا في جميع الانتخابات. ولكنه أصبح الآن مصدر انقسام واضح. حيث تدور الآن معركة مدمرة للسيطرة عليه، ما جعل البلاد ساحة قتال.

ويقود الصراع القوى الموالية للسيد زوما، والتي تتألف في الغالب من السياسيين الفاسدين الذين يسعون للعودة إلى مناصبهم المتميزة السابقة. وعلى الرغم من أن المؤتمر الوطني الأفريقي شجع دائمًا على صعود النخبة السوداء، إلا أنه بدءًا من عام 2009، غيرت رئاسة زوما هذا التوجه، فأصبحت الدولة الموقع الرئيسي لانتهاز الفرص والإثراء السريع. وقدمت أيديولوجية زائفة لـ “التحول الاقتصادي الراديكالي”، والتي نسجت كتحدٍّ جذريٍّ للقطاع الخاص الذي يهيمن عليه البيض في جنوب إفريقيا، غطاءً خطابيًّا للفساد والمحسوبية. والآن وبعد إبعاده عن السلطة، ما زال المستفيدون من حكم زوما مصممين على نشر الفوضى.

فمن وجهة نظرهم، فإن رامافوزا، الذي صعد إلى السلطة في عام 2018 على خلفية مكافحة الفساد. لم تكن جهوده لاستئصال عمليات الكسب غير المشروع المستوطن في حزبه– وبالتالي جنوب إفريقيا ككل – جيدة في أحسن الأحوال. فقبل دراما اعتقال زوما، صدمت البلاد من الأخبار التي تفيد بأن “زويلي مخيزي”، وزير الصحة المحبوب، لعب دورًا في منح عقد بقيمة 10 ملايين دولار لشركة اتصالات يديرها اثنان من زملائه. ورغم أن رامافوزا صَعَّد مؤخرًا من مساعيه لمكافحة الفساد– ليس أقله إيقاف الأمين العام للمؤتمر الوطني الأفريقي هذا العام– فإن قضية مخيزي تؤكد مدى استشراء الفساد ونهب موارد الدولة. من الواضح أنها ليست مجرد حالة تفاح فاسدة، بل إن المجموعة كلها فاسدة.

ومع ذلك، لا يبدو أن أي قوة سياسية قادرة على محاسبة المؤتمر الوطني الأفريقي، فقد تراجع حزبا المعارضة الرئيسيان، “التحالف الديمقراطي” و “مقاتلون من أجل الحرية الاقتصادية”، عن أي طموحات بأن يصبحا أحزابًا جماهيرية قادرة على تحدي المؤتمر الوطني الأفريقي. وبعد بضع سنوات من العمل كمعارضة مناهضة لزوما، ضاعف “التحالف الديمقراطي” هويته كحزب من الليبراليين البيض. أما حزب “مقاتلون من أجل الحرية الاقتصادية” فقد اختزل نفسه إلى امتداد لفصيل زوما في المؤتمر الوطني الأفريقي، وقد كان زوما في أيامه الأخيرة كرجل حر محاطًا برجال “دالي مبوفو”، الرئيس الوطني السابق لحزب “مقاتلون من أجل الحرية الاقتصادية”.

ولكن في غياب معارضة فعالة، أخذ المؤتمر الوطني الأفريقي يتفكك وينهار، فهو لم يكن حزبًا أيديولوجيًا أبدًا، بل كان دائمًا تحالفًا واسعًا موحدًا في معارضة حكم الأقلية. ومنذ نهاية الفصل العنصري، كافح المؤتمر من أجل تطوير هوية سياسية مستقرة. ونظرًا لشعبيته المستمرة، فإن التحدي يكمن في استعادة المصداقية العامة بشكل أقل من تحقيق التماسك الداخلي. ولكن إلى أن يظهر حزب آخر لينافسه، يمكننا أن نتوقع أن يكتفي بما حققه من أمجاد، وهو ما ينذر بمستقبل يتسم بمزيد من الصراع بين الفصائل ومزيد من سوء الإدارة، الأمر الذي يعود على البلاد بتكاليف باهظة.

من جانبه، يستغل الرئيس تداعيات الاضطرابات كفرصة لإعادة البناء. وبصفته أحد المفاوضين الرئيسيين في الدستور الليبرالي لجنوب إفريقيا، يأمل رامافوزا في الاستفادة من روح ذلك العصر، وهي لحظة تميزت أيضًا بالعنف، ولكن في ذلك العصر، في نهاية زمن الفصل العنصري، أعطى الوعد بالديمقراطية الكثير من الأمل للشعب. والآن، بعد ما يقرب من ثلاثة عقود من بقاء الأمور على حالها، يشعر الكثير من المواطنين باليأس.

ورغم أن الهدوء القلق قد استقر، لا أحد يعرف إلى متى سيدوم. ومع ذلك، فقد بددت الأسابيع القليلة الماضية بشكل قاطع العديد من الأوهام حول الدولة، ليس أكثر من أسطورة استثنائية جنوب إفريقيا، إذ ساد اعتقاد بأن جنوب إفريقيا أكثر سلامًا وأمنًا من جيرانها الأفارقة، وأكثر تطورًا ولديها مستقبل يتجه حتمًا نحو الخير والانتصار. ولكن، ونحن نترقب اندلاع أعمال عنف أخرى، فإن الواقع هو أقبح بكثير.

للإطلاع على المقال الأصلي إضغط هنا

ربما يعجبك أيضا