بوليتيكو | بعد عشرين عامًا من هجمات 11 سبتمبر.. التركيز على الأعمال العسكرية يُفقد “سي آي إيه” فاعليتها

شهاب ممدوح

رؤية

ترجمة – شهاب ممدوح

عندما أصبح الجنرال “ديفيد باتريوس” مديرًا لوكالة الاستخبارات المركزية عام 2011، ملأ مكتبه بأسلحة وميداليات عسكرية ومقتنيات حربية أخرى؛ بعبارة أخرى، جعل “باتريوس” مكتبه يبدو مثل البنتاغون.

كان ديكور المكتب مُعبِّرًا. فغالبًا ما يأتي مديرو وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “سي آي إيه” من عالم الاستخبارات، بعد عملهم كموظفين محترفين في الوكالة، أو مراقبين في الكونغرس أو كقادة استخبارات عسكرية قبل توليهم هذا المنصب الرفيع. لم يكن “باتريوس” أيًّا من هؤلاء. فقد كان عضوًا في قوات المشاة، وليس ضابط استخبارات محترفًا، وكان محاربًا متقاعدًا ذا أربع نجوم، تولى قيادة القوات الحليفة في العراق، وأنهى للتو خدمته في ساحات المعارك في أفغانستان.

بينما كان ينتقل “باتريوس” إلى مقر ال “سي آي إيه” في “لانغلي”، كان سلفه “ليون بانيتا” يتوجّه إلى البنتاغون للعمل كوزير للدفاع. كان من الصعب عدم ملاحظة تلك الكراسي الموسيقية: العمليات الاستخباراتية والعسكرية كانت مندمجة فيما بينها أكثر من أي وقت مضى.

أحدثت هجمات الحادي عشر من سبتمبر العديد من التغييرات التنظيمية في الحكومة الفيدرالية، وشمل ذلك إنشاء وزارة جديدة عملاقة للأمن الوطني، وتأسيس منصب مدير الاستخبارات الوطنية، بالإضافة إلى أكبر عملية إعادة هيكلة للوكالات الاستخباراتية منذ نصف قرن. لكن الاندماج بين العمل الاستخباراتي والحربي، ربما كان التغيير الأكثر وعدًا – وإثارة للجدل – من بين كل التغييرات التي حصلت.

قبل تاريخ الحادي عشر من سبتمبر، كانت الأدوار واضحة: الجيش يقاتل في الحروب، ووكالة السي آي إيه تجمع المعلومات الاستخباراتية وتحللها (فضلًا عن إجرائها عمليات سرية عندما كان من المهم إخفاء أي تورط رسمي أمريكي) لكن بعد الهجمات الإرهابية، اختفت تلك الفروق بسرعة. قفزت السي آي إيه إلى أفغانستان، وأصبحت منخرطة انخراطًا واسعًا في تنفيذ العمليات اليومية المرتبطة بالحرب العالمية على الإرهاب.

أسفرت تلك الجهود عن نجاحات مهمة. لكن خلال تلك الفترة، أصبحت السي آي إيه تعمل فوق طاقتها. إن أحد التَّرِكَات الدائمة لفترة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، كان اتباع أسلوب تجسسي لا يخدم مصالح الأمن القومي الأمريكي، خلافًا لما كان عليه الوضع في الماضي، كما أن شنّ حرب لعِقدين من الزمان سلب وقتًا وقدرات من الهدف الأساسي لوكالة سي آي إيه والمتمثل في منع وقع مفاجأة استراتيجية – أي توقع تهديدات رئيسية تطال الأمة قبل أن تتحقق. بعد عشرين عامًا من هجمات الحادي عشر من سبتمبر، تواجه الولايات المتحدة تهديدات متصاعدة من الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية، وصراعًا في مجال الأمن السيبراني والفضاء المادي، وتحديات عالمية مثل التغير المناخي والجوائح. يتعين على السي آي إيه إعادة التوازن بين محاربة الأعداء الإرهابيين في وقتنا الحالي، وتوفير معلومات استخباراتية لتعقب وفهم ومنع عمليات أعداء الغد.

إن القوات الأولى التي تواجدت على الأرض في أفغانستان عقب الحادي عشر من سبتمبر لم يكونوا جنودًا؛ بل كانوا ضباط سي آي إيه يحملون صناديق من الأموال لتجنيد أمراء حرب أفغان. وسرعان ما جاءت بعدهم قوات عمليات خاصة، ثم تبع ذلك تنفيذ الحلفاء لحملة قصف. بعد الانسحاب المخزي للقوات الحليفة من أفغانستان في الشهر الماضي، سيكون من الصعب على المرء تذكر أنه في العام 2001 حقق الحلفاء نصرًا عسكريًّا سريعًا. بحلول نوفمبر، سقطت حركة طالبان وهرب تنظيم القاعدة، وبعد تراجع أسامة بن لادن ومساعديه إلى جبال “تورا بورا”، كان ضباط السي آي إيه متواجدين هناك أيضًا – يتعقبون زعيم القاعدة ويتعاونون بشكل وثيق مع مليشيات أفغانية محلية، مُستدعين دعمًا جويًّا من خلف خطوط العدو. في نهاية المطاف، تمكن “بن لادن” بصعوبة من الفرار من المصيدة، لكن ملاذه الآمن انتهى. وبزوال الملاذ الآمن، عجزت القاعدة عن تنفيذ هجوم آخر يحقق خسائر بشرية كبيرة على الأراضي الأمريكية في العِقدين التاليين. وصف مدير السي آي إيه “جورج تينت” تلك الأيام بأنها كانت “أفضل وقت لوكالة المخابرات المركزية”، وقد كان صائبًا.

كانت الوكالة مهيأة جيدًا للاضطلاع بمهمتها في تلك اللحظة. كانت أفغانستان أرضًا مألوفة للجواسيس أكثر من الجنود، حيث كانت المسرح الذي نفّذت عليه السي آي إيه أكبر عمليه سرية لها في الحرب الباردة. في عام 1979، بعد أيام فقط من دخول القوات السوفيتية إلى كابل وتنصيب حكومة تابعة، أذن الرئيس جيمي كارتر بأول عملية سرية لوكالة المخابرات المركزية لتسليح ودعم المجاهدين الأفغان. وكتب مستشار الأمن القومي حينها “زبغنيو برجنيسكي” ما يلي: “هدفنا النهائي هو انسحاب القوات السوفيتية… إن لم يتحقق هذا، ينبغي لنا جعل التدخل السوفيتي مُكلفًا بقدر ممكن”. ومن المفارقات التاريخية المأساوية، أن تلك العملية السرية نجحت، وتحولت أفغانستان إلى مستنقع للسوفييت؛ ما أسهم في النهاية في هزيمتهم وانسحابهم، لكن بعض عناصر المجاهدين وداعميهم تحوّلوا ليصبحوا في النهاية تنظيم القاعدة.

في العِقدين التاليين لهجمات الحادي عشر من سبتمبر، تعمّق انخراط وكالة المخابرات المركزية المزعوم وتوسّع بشكل كبير. واليوم، بات من الصعب غالبًا التمييز بين عمل ضباط الاستخبارات والقوات العسكرية. على سبيل المثال، ينفذ مجتمع الاستخبارات أحيانًا بمفرده ضربات بطائرات مسيّرة، وفي أحيان أخرى يُنفذ الجيش تلك الضربات، وفي بعض الأحيان يُنفذ الطرفان هذه الضربات معًا. بحسب “بانيتا”، فإن العملية السرية التي استهدفت “بن لادن” نُفذت تحت سلطات السي آي إيه، بالرغم من أن العملاء الذي اقتحموا مخبأ زعيم تنظيم القاعدة في باكستان، كانوا جنودًا في القوات البحرية. ينفذ الجيش اليوم عمليات سوداء ضد إرهابيين تشبه كثيرًا عمليات سرية، بينما تنخرط وكالة المخابرات المركزية في أنشطة تشبه عملًا عسكريًّا- مثل شنّ ضربة من طائرة مسيّرة أسفرت عن مقتل “أنور العولقي”، ذلك المواطن الأمريكي الذي أصبح واحدًا من أخطر الزعماء الإرهابيين في العالم.

إن إدماج الأنشطة الاستخباراتية بالأنشطة العسكرية التقليدية له فوائد. قبل أسبوعين فقط، ذكرت تقارير أن التكامل السلس بين النشاطين ساهم في منع ما كان يُعتقد أنه تفجير انتحاري وشيك لـ “تنظيم الدولة الإسلامية في ولاية خراسان” في كابل، في خضم جهود محمومة للقوات الأمريكية لإجلاء حلفاء أمريكيين وأفغان.

لكن الاندماج بين الأنشطة الاستخباراتية والأنشطة العسكرية التقليدية يجلب معه مخاطر أيضًا: المفارقة أن التغييرات المؤسساتية التي أبقتنا آمنين على مدار السنوات العشرين الماضية، ربما تجعل الولايات المتحدة أقل أمنًا في العشرين سنة المقبلة. إن الدور الموكل للسي آي إيه مصمم ليكون مختلفًا عن دور البنتاغون، ولو فشلت الولايات المتحدة في تمييز شيء عن الآخر، فهذا يعني أن وكالة المخابرات المركزية لا تؤدي وظيفتها الأساسية جيدًا بشكل كافٍ، وهذا يزيد من احتمال حدوث مفاجآت سيئة.

إن مهمة السي آي إيه الأساسية ليست دعم الجنود المقاتلين في ميادين الحرب، لكن منع وقوع “مفاجأة استراتيجية” في البلاد. أُنشئت وكالة الاستخبارات المركزية عام 1947 لمنع وقوع حادثة “بيرل هاربور” أخرى. أسفر هجوم اليابان المفاجئ والمدمّر عام 1941 عن مقتل 2.400 أمريكي، ودمّر بالكامل أسطول المحيط الهادئ، ما عجّل من انخراط الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية وكشف مخاطر ضعف التنسيق الاستخباراتي. في ذلك الوقت، كانت وزارات البحرية والحربية والخارجية كلها تجمع معلومات عن قدرات اليابان ونواياها، بما في ذلك إشارات عن ذلك الهجوم الفتاك الوشيك، لكن جهودهم كانت مشتتة ومفككة. كانت الأمة بحاجة إلى وكالة تضفي طابعًا مركزيًّا على العمل الاستخباراتي، تكون وظيفتها التلصص لرصد مخاطر قبل فوات الأوان.

منذ الأربعينيات، أصبحت وكالة المخابرات المركزية أبرز وكالة في أمريكا لجمع المعلومات الاستخباراتية وتحليلها، فضلًا عن كونها المنظمة الوحيدة التابعة للحكومة الفيدرالية المصرح لها قانونيًّا بتنفيذ عمليات سرية. مع هذا، وكما ذكر “بانيتا” في جلسات استماع للتصديق على توليه منصبه، فإن “مسؤولية الوكالة الأولى هي منع وقوع مفاجأة”.

كانت تلك جملة بسيطة تخفي وراءها حقائق معقدة؛ فالنشاط الاستخباراتي الهادف لمنع وقوع مفاجأة استراتيجية ليس كمثل النشاط الاستخباراتي الهادف لدعم جنود على خطوط المواجهة. إن العمل الاستخباراتي في ميدان المعركة يتعلق بالتطورات الآنية والتكتيكية وقصيرة الأجل: تحديدًا ما إذا كان جسرًا آمنًا للعبور فوقه، وتحديد المكان الذي دُفنت فيه قنبلة في القرية التالية، أو رصد التحول في التحالفات بين الجماعات المتمردة. إن العمل الاستخباراتي الهادف لمنع مفاجأة استراتيجية يساعد في فهم الصورة الأكبر والأطول مدى. هو يتعلق بالغد أكثر مما يتعلق بيومنا الراهن، مثل كيف يمكن أن تتطور العلاقة بين طالبان وتنظيم القاعدة، وما المطلوب لإقناع إيران بالتخلي عن برنامجها للسلاح النووي، أو احتمالات حدوث غزو صيني لتايوان. ربما تكون المصادر الاستخباراتية متشابهة – قمر صناعي يلتقط صورة من الفضاء، أو عميل بشري سري في الداخل – لكن المعلومات المطلوبة والتحليل الناتج هي أمور مختلفة تمامًا.

وبالرغم من إنفاق الولايات المتحدة المليارات سنويًّا على الاستخبارات، إلا أن الموارد محدودة بطبيعتها. لا يمكن للقمر الصناعي ذاته أن يرصد مناطق مختلفة في الوقت ذاته، كما أن هناك حدودًا للمسافة التي يمكن أن تقطعها الطائرات المسيّرة، وفترة تسكّعها فوق هدفها قبل أن ينفد وقودها. يتعين على الجواسيس أن يكونوا حكماء بشأن نوع المعلومات التي يجمعونها، وتوقيت جمعها وحجم تلك المعلومات، وإلا انكشف أمرهم.

ربما تبدو وزارتا الدفاع والاستخبارات متشابهتين، لكنهما ليستا كذلك، فالنشاط الأساسي لوزارة الدفاع هو القتال، أما النشاط الأساسي لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية هو الفهم. يُفترض للجيش أن يكسب الحروب، بينما من المفترض للسي آي إيه أن تمنع الحروب عبر فهم التهديدات والفرص بشكل أسرع وأفضل من خصومنا، وتسليم المعلومات الاستخباراتية لصنّاع القرار؛ ما يساعدهم في اتخاذ قرارات أفضل. إن الجنود هم صيّادون، بينما ضباط الاستخبارات هم جامعون، وكما قال “صمويل هونتينغون”، فإن الضباط العسكريين مدربون على “إدارة العنف”، أما ضباط السي آي إيه مدرّبون على إدارة المعلومات، والحصول عليها وتحليلها وحمايتها وتسليمها بسرعة.

لا يمكن لمنظمة واحدة القيام بكل شيء، بغض النظر عن حجم أموالها أو ذكاء موظفيها. وكلما طال أمد تركيز وكالة على فعل شيء ذي أولوية بشكل جيد، تآكلت قدراتها الأخرى وتراجعت أو انتهت تمامًا. وكما ذكر ضابط السي آي إيه الذي يحمل الاسم المزيف “أليكس فينلي” في عام 2017 في هذا الموقع، فإن العمليات السرية لجمع المعلومات الاستخباراتية شهدت تغيرًا هائلًا. لقد اعتاد ضباط السي آي إيه على التجول في شوارع بلدان أجنبية لتعلم الثقافة وتجنيد مسؤولين أجانب عبر حضور حفلات شراب ومناسبات رسمية، لكن منذ الحادي عشر من سبتمبر، تطلب العثور على أهداف إرهابية ذات قيمة كبيرة من ضباط السي آي إيه، ولا شك أن مهنة التجسس التقليدية بين دولة وأخرى بدأت تصبح أكثر أهمية مجددًا، لكن جزءا كبيرا من موظفي السي آي إيه لديهم خبرة أقل في القيام بهذا، لأنه جرى توظفيهم بعد الحادي عشر من سبتمبر.

في العشرين سنة الماضية، أصبح اهتمام السي آي إيه بمهمتها الأساسية يتأكل، وأسباب ذلك واضحة، وربما لا يمكن تفاديها، لكن تداعيات هذا الميل التكتيكي حقيقية: اضمحلال القدرة على فهم وتوقع تهديدات طويلة الأمد والتصدّي لها – مثل صعود الصين وحرب المعلومات الروسية – ما قد يهدد حياة الأمريكيين ومصالحهم أكبر بكثير من مخططات الإرهابيين في يومنا الراهن.

استمعوا جيدًا وسيمكنكم سماع جرس الإنذار. عبّر مدراء وكالة المخابرات المركزية الذين عملوا في الإدارات الثلاثة الماضية عن قلقهم من أن الحرب العالمية على الإرهاب جذبت الوكالة بعيدًا جدًّا إلى النشاط الاستخباراتي القتالي التكتيكي، وأنه يجب على الوكالة العودة إلى القواعد الأساسية. حذر “مايكل هايدين” مدير السي آي إيه في عهد إدارة جورج بوش الابن، في جلسات استماع للتصديق على تنصيبه عام 2006، من أن الحرب على الإرهاب “تستنزف الطاقة عبر القيام بأنشطة آنية”. كما أخبر “جون برينان”، مدير الوكالة في عهد إدارة أوباما، الكونغرس أنه “لا ينبغي للسي آي إيه القيام بأنشطة وعمليات عسكرية تقليدية” وأن برنامج الطائرات المسيّرة التابع للوكالة كان “انحرافًا” عن مهمتها التاريخية. وفي حديث لها في عام 2019، قالت “جينا هاسبيل” مديرة السي آي إيه في عهد إدارة ترامب، إنه نظرًا لتركيز وكالة الاستخبارات على مكافحة الإرهاب، فقد تخلفت عن متابعة روسيا وإيران وخصوم آخرين، مُتعهدة بأن هناك تحولًا في الأولويات يجري الآن.

وفي النهاية، لن يكون هذا أمرًا سهلاً؛ فالجمود هو أقوى جماعة مصلحة في واشنطن، كما أن مراقبي الكونغرس يُكافأون على النظر إلى الوراء، حيث ينشغلون بتوجيه انتقادات شديدة إلى أجهزة الاستخبارات عوضًا عن التفكير في الطريقة التي يمكن من خلالها مساعدة هذه الأجهزة على التأقلم قبل حدوث الكارثة التالية. لكن كما حذر “مايكل هايدين” آنذاك، فإن تركيز وكالة الاستخبارات المركزية “سي آي إيه” بشكل مبالغ فيه على الأنشطة الآنية “سيبدو أمرًا ناجحًا، لكننا سنتعرض لمفاجآت لا نهاية لها”.

لقراءة النص الأصلي.. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا