ناشيونال إنترست | كيف تستعيد روسيا نفوذها في صربيا؟

بسام عباس

ترجمة – بسام عباس

شهدت صربيا وكوسوفو مؤخرًا أزمة أمنية طفيفة، إذ أرسلت حكومة كوسوفو وحدات شرطة خاصة إلى المعابر الحدودية لمطالبة السائقين الذين يحملون لوحات ترخيص صربية بوضع لوحات مؤقتة عند دخول كوسوفو. واحتج الصرب الذين يعيشون في شمال كوسوفو وأوقفوا حركة المرور، بينما نشرت صربيا عربات مدرعة وطائرات مقاتلة بالقرب من الحدود. وكانت الأزمة المصطنعة عرضًا لضخ الأموال بدافع رغبة الحكومتين في تكديس أوراق الاعتماد القومية في انتظار الانتخابات. وفي نهاية المطاف قام الاتحاد الأوروبي بحل النزاع، حيث اتفق الجانبان على إجراءات خفض التصعيد وإتمام المحادثات الفنية برعاية الاتحاد الأوروبي لمعالجة مشكلات لوحة الترخيص العالقة.

ولكن روسيا انتهزت هذه الدراما للتدخل من جديد في الشؤون الصربية، حيث زار السفير الروسي لدى صربيا “ألكسندر بوتسان خارتشينكو” برفقة وزير الدفاع الصربي “نيبويشا ستيفانوفيتش”، ورئيس الأركان المشتركة للجيش الصربي “ميلان مويسيلوفيتش”، حامية الجيش الصربي القريبة من كوسوفو، والتي تقف في حالة تأهب تام.

من جانبها، أعربت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية “ماريا زاخاروفا” عن قلق روسيا حيال الوضع الراهن، في الوقت الذي تلاحق فيه حكومة كوسوفو وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي لفشلها في حل الأزمة. كما التقى الرئيس الصربي “ألكسندر فوتشيتش” بالسفير “بوتسان خارتشينكو” للتشاور فيما يتعلق بالأوضع على الحدود مع كوسوفو. وأتاحت الأحداث الأخيرة المتلاحقة الفرصة لروسيا للعودة إلى صربيا بعد أزمة العلاقات التي نشأت بينهما؛ ما يدل على أن نفوذ روسيا في البلاد لم يختفِ رغم أنه بدأ يتضاءل.

ففي عام 2020، شهدت العلاقات الصربية الروسية تراجعًا عصيبًا، وتعرضت روسيا للعديد من الانتكاسات في البلاد. خاصة أن روسيا كانت مستاءة من أن فوتشيتش كان يحاول حل نزاع كوسوفو بمساعدة إدارة “دونالد ترامب”. وكان قرار صربيا هذا يعني خسارة أحد أصول موسكو الأخيرة في البلقان، رغم أن النزاع المعلق في كوسوفو يترك بلغراد تعتمد سياسيًّا على موسكو، وعلى حقها في النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وإضافة إلى ذلك، كان هذا القرار، بالنسبة لموسكو، علامة على أن بلغراد تريد التحول نحو واشنطن. وخلال هذه الفترة، أصبح من الواضح أيضًا أن صربيا استبدلت روسيا بالصين كشريك أساسي غير غربي لها.

وقبل ذلك، في يوليو 2020، شهدت صربيا احتجاجات عنيفة مناهضة للإغلاق، واتهمت الصحف الشعبية ووسائل الإعلام الموالية للحكومة النشطاء الموالين لروسيا بالتحريض على الاضطرابات؛ ما يدل على أن الحكومة الصربية كانت على استعداد لاستخدام روسيا “كبش فداء” لكسب ود الغرب. وفي سبتمبر 2020، ألغت صربيا أيضًا (جماعة الإخوان السلافية)، وهي تدريبات عسكرية مشتركة مع روسيا وبيلاروسيا، معلنةً تعليق جميع التدريبات العسكرية الدولية لمدة ستة أشهر.

كما نشأ سؤال حول ما إذا كان الحزب الاشتراكي الصربي وزعيمه الموالي لروسيا “إيفيكا داتشيتش” سينضمان مرة أخرى إلى الائتلاف الحاكم في صربيا. ورغم أن داتشيتش ظل رئيسًا للبرلمان، إلا أن التوترات التي ظهرت على السطح في أكتوبر 2020 عندما اشتبك عضو آخر مؤيد لروسيا في الحزب الاشتراكي الصربي، وهو “دوشان باجاتوفيتش”، مدير شركة الغاز الطبيعي الصربية المملوكة للدولة، (صربياغاز)، مع وزيرة الطاقة الموالية للغرب “زورانا ميهايلوفيتش”.

ومع ذلك، تحولت الظروف مرة أخرى لصالح روسيا. فبعد الرهان الفاشل على إعادة انتخاب ترامب، يخشى فوتشيتش الآن رئاسة “جو بايدن”؛ لأنه يتوقع أن تتخذ هذه الإدارة موقفًا أكثر صرامة فيما يتعلق بالنزاع مع كوسوفو، وتراجع سيادة القانون في صربيا، وعلاقاته مع روسيا والصين. ونتيجة لذلك، عادت صربيا جزئيًا إلى أحضان روسيا لتأمين الحماية الدبلوماسية موسكو، حيث اتخذت بلغراد مجموعة كاملة من الخطوات في هذا الاتجاه.

ففي الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 2020، صوّتت صربيا ضد إدانة روسيا بشأن قضية شبه جزيرة القرم. وفي الشهر ذاته زار وزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف” بلغراد. وفي تلك الرحلة، وضع لافروف أكاليل من الزهور في المقبرة التذكارية لمحرر بلغراد وزهورًا أخرى على قبر البطريرك إيرينج من الكنيسة الأرثوذكسية الصربية، الذي توفي مؤخرًا بسبب فيروس كورونا، وأرسل كلا الموقفين رسائل قوية مليئة بالعواطف.

بِيدَ أنّ أقوى علامة على أن بلغراد تعيد إحياء العلاقات مع موسكو جاءت في 1 يناير 2021، عندما بدأ تشغيل مشروع خط الأنابيب الروسي (ترك ستريم)، مما يضمن أن صربيا والبوسنة والهرسك المجاورة ستظل معتمدة على إمدادات الغاز الروسية. ومن الواضح أن “ميهايلوفيتش”، وزيرة الطاقة الموالية للغرب، لم تحضر الحفل، على عكس “باجاتوفيتش” الموالي لروسيا. ولا يمكن لصربيا، على وجه الخصوص، أن تتخلص من الاعتماد على روسيا في مجال الطاقة، فمنذ عام 2008، امتلكت شركة غازبروم الروسية 51% من أسهم شركة النفط الصربية “إن آي اس”. وهذا ترتيب فسره البعض على أنه مكافأة جزئية لروسيا لدعمها صربيا في كوسوفو.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، أجرت القوات الخاصة الصربية والروسية في مايو 2021 تدريبًا مشتركًا لمكافحة الإرهاب. كما سترسل بلغراد سفيرًا إلى سوريا، حليف روسيا في الشرق الأوسط، لإرضاء موسكو.

وتلعب الديناميكيات المحلية في صربيا دورًا في مصلحة روسيا أيضًا. إن حساسية الجمهور الصربي تجاه قضية كوسوفو تجبر السياسيين الصرب على معارضة استقلال كوسوفو، ولهذا فهم بحاجة إلى روسيا. وعلاوة على ذلك، لا تزال روسيا ورئيسها “فلاديمير بوتين” يتمتعان بشعبية كبيرة لدى الرأي العام الصربي. ويتم تجنب السياسات العلنية المعادية لروسيا لتجنب فقدان دعم الناخبين الموالين لروسيا. وبدلًا من ذلك، يحاول السياسيون الصربيون الموازنة ومراقبة المناورات السياسية لروسيا والغرب ضد بعضهما البعض كتكتيك لكسب أصوات الناخبين المؤيدين للغرب والموالين لروسيا. وهذه الديناميكية الداخلية معقدة ولا تتطلب حساسية تجاه قضية كوسوفو فحسب، بل تتطلب أيضًا حساسية روسيا ومشاركة الحزب الاشتراكي في الائتلاف الحاكم.

كما أن هناك صراعًا سياسيًّا صامتًا بين “فوتشيتش” نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع السابق “نيبوشا ستيفانوفيتش”، ولكي يظل “فوتشيتش” في موقع دفاعي مستمر، يجري “ستيفانوفيتش” موازنة خاصة به بين روسيا والغرب. وفي يونيو 2021، ذكرت صحيفة التليجراف البريطانية أن وزير دفاع المملكة المتحدة “بن والاس”، خلال زيارته لصربيا، وقّع اتفاقية مع الوزير “ستيفانوفيتش” بشأن مواجهة التدخل الروسي. ونفت كلٌّ من سفارة المملكة المتحدة في صربيا ووزارة الدفاع الصربية تلك التقارير، ولكن لا يزال بإمكان المرء أن يتخيل حالة عدم الرضا التي عاشها “فوتشيتش”؛ لأنه يريد الحفاظ على توازن علاقاته بين روسيا والغرب.

والآن، يزور ستيفانوفيتش حامية الجيش برفقة السفير الروسي، وهو ما لم يغفله الغرب بالتأكيد. إذا كان قريبًا جدًا من الغرب، فسيكون فوتشيتش محرجًا أمام ناخبيه المحافظين، فيما إذا كان قريبًا جدًا من روسيا، فسيشعر فوتشيتش بالحرج أمام الغرب، والذي يحتاج إلى الإذعان إليه للبقاء في السلطة. وقد لعب ستيفانوفيتش بهذه الورقة، وهي تناسب الروس.

وبغض النظر عن الأدوات التقليدية للنفوذ الروسي في صربيا والبلقان، والتي تتمثل في نزاع كوسوفو واستخدام الطاقة والقوة الناعمة لكسب تأييد السكان المحليين، فُتح مسار جديد للتأثير أمام روسيا والمتمثل في لقاح فيروس كورونا (سبوتنك 5)، بدأت صربيا بالاتفاق مع روسيا في إنتاج هذا اللقاح على الأراضي الصربية. وهذا الإنتاج جنبًا إلى جنب مع إنتاج لقاح سينوفارم الصيني يجعل صربيا مركزًا إقليميًّا للقاحات في البلقان، مما يمنح صربيا القدرة على إجراء دبلوماسية اللقاح الخاصة بها من خلال التبرع باللقاحات لجيرانها. كما أن صربيا تدير أيضًا دبلوماسيتها في مجال اللقاحات على الصعيد العالمي من خلال التبرع بلقاحات (سبوتنك 5) الروسية للدول النامية في إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا لضمان عدم اعترافها باستقلال كوسوفو.

وإضافة إلى ذلك، ستستخدم النخب الصربية روسيا لإظهار أن موسكو تدعمها دوليًّا ومحليًّا. وفي الآونة الأخيرة، نشرت الصحف الشعبية الموالية للحكومة في صربيا قصة غلاف تناقش الخطة الخاصة التي وضعها بوتين لمنطقة البلقان وصربيا والتي تتضمن تصنيف روسيا للبلقان كمنطقة ذات أولوية في سياستها الخارجية. ولكن في الحقيقة، لم تكن للبلقان أي أولوية لدى موسكو، ولكن بلغراد ستستحضر بطاقة روسيا كلما احتاجت إلى نفوذ دولي أو دعم محلي. ونظرًا لفشل قمة الاتحاد الأوروبي وغرب البلقان الأخيرة في توفير جدول زمني لانضمام المنطقة إلى الكتلة، فإن لدى صربيا دافعًا إضافيًّا لإبقاء روسيا في مكانها. وخلال تلك القمة، شدد “فوتشيتش” على أن صربيا كانت على حق في الحفاظ على العلاقات مع روسيا؛ لأنها لن تواجه أزمة طاقة هذا الشتاء مثل تلك الدول التي استسلمت لضغوط مَنْ يعترضون على مشاريع الطاقة الروسية. وتشعر القيادة الصربية بأنها قرارها في التحوط بمراهناتها مع روسيا والصين له مبرراته. ورغم أن روسيا متراجعة إلا أنها ليست في صربيا، ولذلك سوف تنتظر فرصتها، وعندما تسنح الفرصة، ستتحرك كما تفعل دائمًا.

للاطلاع على الرابط الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا