فورين أفيرز |انهيار مستمر وتعاون على مضض.. البحث عن الاستقرار في أفغانستان

آية سيد

ترجمة: آية سيد

تسبب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان الصيف الماضي في إزعاج للكثير من الدول المجاورة التي اعتادت على قيام الولايات المتحدة بالأعمال الشاقة في المنطقة. وفي ظل استقرار طالبان في كابول، من المرجح أن تتوسع شبكات المسلحين، وقد ينتشر انعدام الأمن عبر حدود أفغانستان. يظل ذلك الاحتمال سببًا للقلق في اثنتي عشرة دولة، غير أن إيران وباكستان، أكبر جيران لأفغانستان، هما الدولتان اللتان تمتلكتان أكبر نفوذ في الدولة – والأكثر تعرضًا للخطر.

إن حدودهما الطويلة مع أفغانستان إلى جانب الروابط العِرقية واللغوية والثقافية التاريخية، سمحت لإيران وباكستان بلعب أدوار مهمة في الشئون الداخلية لأفغانستان. وعلى النقيض، لا تمتلك أي من دول آسيا الوسطى الثلاث المجاورة أو الصين، التي تحد أفغانستان أيضًا، نفس مستوى النفوذ في الدولة. تعتمد الصين على كل من إيران وباكستان لإدارة أفغانستان الخاضعة لهيمنة طالبان، وتعتمد دول الخليج العربي على باكستان لضمان خدمة مصالحهم في الدولة. في أعقاب الرحيل الأمريكي، ستصبح إيران وباكستان المنافسين الرئيسيين اللذين يرسمان مستقبل أفغانستان تحت حكم طالبان.

إن نهاية الحقبة الطويلة من تدخلات القوى العظمى المباشرة في أفغانستان تركت فراغًا خطيرًا. وبالرغم من اختلافاتهما الكثيرة، تسعى كلٌّ من إيران وباكستان إلى الاستقرار والأمن في الدولة التي كانت في حالة حرب لجيلين. لقد تباينت مصالحهما في كثير من الأحيان أو تعارضت تعارضًا مباشرًا في أفغانستان، لكن الآن سيُجبران على التعاون بطرق لم يفعلاها في الماضي.

انهيار الأوضاع

تحتاج إيران وباكستان لطالبان من أجل بناء حكومة تستطيع الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار وإبقاء ما يُعرف بتنظيم الدولة الإسلامية، المعروف أيضًا بداعش، وغيره من الجماعات الجهادية العابرة للحدود تحت السيطرة. وبعد تحييد تهديد داعش في جهتها الغربية في العراق مؤخرًا، لا ترغب إيران في رؤية قوة الجهاديين تنمو في جهتها الشرقية. تخشى باكستان من أن أنشطة داعش في أفغانستان ربما تحفّز المسلحين داخل حدودها. ربما تهيمن طالبان الآن على أفغانستان عسكريًّا، لكن الحركة بعيدة جدًّا عن تأسيس حكم فعال في أنحاء البلاد، ناهيك عن اقتصاد حيوي في ظل غياب الاعتراف الدولي بنظامها. في ظل هذه الظروف، قد يحرز داعش تقدمًا. سوف تستفيد الجماعة المسلحة والقوات الجهادية العابرة للحدود الأخرى من صراع طالبان لموازنة البراجماتية اللازمة للحكم مع التزاماتها الأيديولوجية الأساسية، وإذا جعلت طالبان سلوكها أكثر اعتدالًا، ربما تخسر الكثير من أعضائها لصالح الجماعات الأكثر تطرفًا.

تأتي استعادة طالبان لأفغانستان في وقت تشهد فيه إيران وباكستان اضطرابًا في الداخل. تواجه باكستان أكبر مشاكل اقتصادية لها منذ الاستقلال، حيث يرتفع الضخم بشكل مضاعف وتسعى الدولة إلى التفاوض على اتفاق قرض آخر مع صندوق النقد الدولي، كل هذا تفاقمه التوترات غير المسبوقة بين المؤسسة العسكرية والقادة المدنيين. وبصورة مماثلة، بعد أربعة عقود، يمر نظام طهران الديني بمرحلة انتقالية كبرى من رئيس معتدل إلى رئيس أكثر تشددًا ويواجه السؤال الذي يلوح في الأفق حول من سيخلف المرشد الأعلى المريض، آية الله علي خامنئي. تختبر إيران أيضًا قدرًا كبيرًا من المعاناة المالية بسبب العقوبات الدولية. إذا بدأت أفغانستان في تصدير الاضطراب واللاجئين والتشدد، سوف تزيد الأمر سوءًا على الدولتين.

تمثل أفغانستان أيضًا بوابة رئيسية لإيران وباكستان إلى آسيا الوسطى، خاصة من ناحية طرق الطاقة والتجارة. إنهما متحمستان للاستفادة من جهود الربط الإقليمي الصينية من خلال مبادرة الحزام والطريق. يُعد أكبر مشروع للصين في مبادرة الحزام والطريق هو الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني، الذي يمر عبر مناطق تقع بالقرب من الحدود الأفغانية، وهو عُرضة للضربات من متمردي طالبان الباكستانيين وكذلك أيضًا مسلحي البلوش الانفصاليين.

تحاول باكستان دفع طالبان الأفغانية لقمع عناصر متمردي البلوش التي تعمل خارج أفغانستان، لكن من المستبعد أن يكبح الحكام الجدد في كابول جماح نظرائهم من طالبان الباكستانية، الذين يتمتعون بملاذ على الجانب الأفغاني من الحدود. نتيجة لهذا، يهدد انعدام الأمن المنتشر من أفغانستان الخطط الصينية في باكستان. وبالمثل، يأمل الإيرانيون في أن الاتفاق النووي الجديد سيسمح للصينيين بالمضي قدمًا في خططهم لمد مبادرة الحزام والطريق إلى بلدهم. وبالتالي تمتلك إيران وباكستان مصلحة مشتركة في استقرار أفغانستان، والذي تدرك الدولتان أنه لن يحدث في أي وقت قريب. لكن هذا الاستقرار ربما يصبح أكثر ترجيحًا إذا نسقت إيران وباكستان وتعاونتا أكثر مما تتنافسان في أفغانستان.

بين السهول والهضبة

لقرون، تنافست الدول التي نشأت في الهضبة الإيرانية إلى غرب أفغانستان وتلك المتمركزة في سهول البنجاب شرق الدولة على أراضيها. تُعد الدول القومية الحديثة لإيران وباكستان آخر جهات فاعلة تنغمس في هذه الديناميكية. في هذه المنافسة، تحظى باكستان بميزة جغرافية وثقافية على إيران. إن حدودها مع أفغانستان أطول بثلاث مرات من حدود إيران مع أفغانستان، ما يتيح لباكستان مجالًا أكبر للتأثير على الأحداث داخل الدولة الحبيسة. حافظت إيران على الروابط مع الأقليات المتعددة في أفغانستان (مثل الطاجيك، والأوزبك، والهزارة، والتركمان، والإيماق، والبلوش) واستفادت من حقيقة أن اللغة المشتركة للدولة هي الدرية (المشتقة من الفارسية)، والتي تسمح لطهران بتنمية علاقات عميقة مع جماعات الأقلية وأيضًا مع البشتون. على الجانب الآخر، مارست إسلام آباد النفوذ في جارتها الغربية عبر البشتون، وهم أكبر جماعة عرقية في أفغانستان ويشكّلون حوالي 45% من السكان. يشكل البشتون تقريبًا خُمس سكان باكستان.

في التسعينيات، أظهر الدعم الباكستاني لطالبان، التي يغلب عليها عرق البشتون، قوة هذا الرابط. بعد أربع سنوات من إسقاط الفصائل الإسلاموية للحكومة الشيوعية في كابول في 1992، خرجت طالبان كأقوى ميليشيا في ساحة المعركة الأفغانية وكسبت دعم باكستان. استمرت إسلام آباد في دعم الجماعة، حتى بعد إطاحة الولايات المتحدة بطالبان في 2001.

تظل طالبان أقوى حركة سياسية في أفغانستان، حيث استطاعت التعافي من هزيمتها في 2001 واستعادة الدولة. إيران، على الجانب الآخر، راهنت على الحصان الخاسر في أفغانستان. في التسعينيات، راهنت على ائتلاف من الجماعات الأصغر والأضعف المعارضة لطالبان والتي تنتمي بشكل كبير إلى المجتمعات الميالة إلى التحالف مع طهران، مثل الطاجيك والهزارة الشيعة. هذا المعسكر المناهض لطالبان لم يشكّل أبدًا طليعة سياسية تستطيع التنافس مع طالبان وظل منقسمًا على أسس عرقية.

هذا التاريخ يشير إلى أن حكام كابول الجدد سيتحالفون مع إسلام آباد وينبذون طهران. لكن المشهد الجيوسياسي في البلاد تغير بشكل هائل في العشرين عامًا منذ إسقاط الولايات المتحدة لإمارة طالبان الأولى في 2001. لا تمتلك باكستان نفس النفوذ على طالبان مثلما فعلت في التسعينيات، في حين لم تعد طالبان مكونة من البشتون فقط؛ في الواقع لقد شقت طريقها في مجتمعات الأقليات العرقية، وهو ما يفسر بشكل كبير كيف استطاعت الجماعة المسلحة الاستيلاء على مناطق في شمال البلاد في بداية أغسطس 2021. وعلى مدار الـ15 عامًا الماضية، طوّرت إيران أيضًا علاقات مع عناصر من تمرد طالبان، مدركةً أن المسلحين كانوا أقوى وأهم بكثير من أن يتم تجاهلهم.

اللعب على الجانبين

بالتأكيد، قطعت إيران شوطًا طويلًا من 2001، عندما قدمت الدعم الاستخباراتي للولايات المتحدة وساعدت شركاءها في التحالف الشمالي في عزل طالبان عن السلطة. تدهورت العلاقات بين إيران والولايات المتحدة بشدة بعدها وسط خلافات حول برنامج طهران النووي وتدخل واشنطن في العراق. بدأ الإيرانيون تنمية علاقات مع طالبان في 2005 تقريبًا. وبحلول 2009، كان فيلق القدس، التابع للحرس الثوري الإيراني، يمد متمردي طالبان بالسلاح.

من جانبها، حاولت باكستان بناء علاقات مع قوات أخرى داخل أفغانستان. لقد تواصلت أولًا مع حكومة كابول والفصائل المناهضة لطالبان منذ 15 عامًا تقريبًا. لم تلقَ هذه المبادرات ترحيبًا، حيث ظل خصوم طالبان مرتابين بشدة في إسلام آباد. في الوقت نفسه، أدت محاولة باكستان للتعاون مع الجهد الحربي الأمريكي إلى خسارة احتكارها للنفوذ على طالبان. وبمنتصف العقد الثاني من الألفية، كانت طالبان قد نمّت علاقات مع إيران وبدأت أيضًا مفاوضات مع واشنطن، وأقامت مكتبًا سياسيًّا في قطر، وسعت إلى إقامة علاقات مع قوى أخرى مثل الصين، وروسيا، وتركيا، والدول الأوروبية، وغيرها. إلا أن إسلام آباد لا تزال تمتلك العلاقات الأكثر توسعًا مع حركة التمرد الأفغانية، خاصة مع شبكة حقاني الكائنة في شرق أفغانستان ومجلس شورى كويتا الذي يمثل معقل طالبان الأصلي في جنوب البلاد. 

تعاون على مضض

خلال عصر تمرد طالبان، كانت إيران وباكستان مكتفيتان بالحفاظ على قنوات اتصال ودعم مع الحكومة في كابول والمسلحين. لكن الآن مع وجود طالبان في السلطة وسحق قوات المعارضة بشكل كبير، تواجه طهران وإسلام آباد موقفًا لم تكونا مستعدتين له. كيف تضمنان أن أولئك الذين ساعدوهم في شن التمرد سيحكمون الآن بطريقة لا تؤدي إلى المزيد من انعدام الأمن وتهدد مصالحهما القومية؟

تدرك إيران وباكستان أنهما يجب أن تتعاونا في إدارة الوضع الأمني في أفغانستان، فيما يشير تشكيل حكومة طالبان المؤقتة إلى درجة من التنسيق بين البلدين. إن الحكومة المبدئية التي كشفت عنها طالبان كان يهيمن عليها قادة مسلحون مقربون من باكستان. لكن في غضون أيام قليلة، وبعد بعض المحادثات بين المسئولين الإيرانيين والباكستانيين على هامش اجتماع منظمة شنغهاي للتعاون في دوشنبه في سبتمبر 2021، جرى تعيين شخصيات من مجتمعات الأقلية ذات الروابط الوثيقة بإيران في حقائب وزارية مهمة.

هذه التعيينات الوزارية المتفاوض عليها ليست الوسيلة الوحيدة التي يتعاون بها الإيرانيون والباكستانيون لإدارة الوضع غير المستقر بشدة في أفغانستان. ترأس القائد العسكري الأبرز في إيران، الجنرال محمد حسين باقري (الذي يشرف بصفته رئيس هيئة الأركان المشتركة على قوات الحرس الثوري وقوات الجيش النظامي)، ترأس وفدًا إلى إسلام آباد في منتصف أكتوبر. وفي اجتماع مع نظرائه الباكستانيين، بحث باقري والجنرالات الإيرانيون الآخرون باستفاضة كيفية العمل مع نظام طالبان لمعالجة المخاوف الأمنية المشتركة للبلدين.

وبالرغم من هذه المحاولات التي تهدف إلى التعاون، لا يسع إيران وباكستان سوى الحذر من إحداهما الأخرى. تقلق طهران من علاقات إسلام آباد الوثيقة مع السعودية والإمارات، وتخشى أن السعوديين والإماراتيين سيستخدمون تلك العلاقات لخلق مشاكل لإيران، وقد تحاول دول الخليج مواجهة التحركات الإيرانية في العالم العربي عن طريق إثارة المتاعب لإيران في أفغانستان وباكستان.        

تظل باكستان قلقة بشدة حول تحالف عدوتها الهند مع إيران، ولطالما تداخلت المصالح الإيرانية والهندية في أفغانستان، تحديدًا الرغبة المشتركة في ضمان أن الإسلامويين السُنة المعادين لطهران ونيودلهي لن يستطيعوا العمل بحرية داخل الدولة. تعاونت إيران والهند، إلى جانب روسيا، بشكل كبير في التسعينيات لدعم التحالف الشمالي، الائتلاف المناهض لطالبان. وعلى الرغم من أن الصين وباكستان لم تحضرا مؤتمرًا إقليميًّا حول أفغانستان من تنظيم مستشار الأمن القومي الهندي في شهر نوفمبر، حضر علي شمخاني رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني (إلى جانب نظرائه من دول آسيا الوسطى وروسيا). لكن خروج الولايات المتحدة من أفغانستان والانفجار الداخلي اللاحق للدولة الأفغانية المدعومة دوليًّا خلق مشكلة استراتيجية ضخمة للهند. وفي ظل سيطرة طالبان الآن على كابول، خسرت نيودلهي نفوذها في أفغانستان؛ والعمل مع إيران قد يمنح الهند بديلًا للدخول إلى البلاد.

تمتلك إيران وباكستان النفوذ الأكبر على النتيجة التي تخرج في أفغانستان بقيادة طالبان. سوف تعتمد القوى العظمى، مثل الصين وروسيا، على علاقاتها الثنائية مع طهران وإسلام آباد لمحاولة ضمان ألا يفسد الغموض في أفغانستان خططها الاستراتيجية لوسط وجنوب آسيا. على افتراض أن أفغانستان ستحقق في النهاية شكلًا من أشكال الاستقرار، سيسعى الإيرانيون والباكستانيون إلى استخدام نفوذهم لتعزيز مصالحهم الاقتصادية في الدولة وفي المنطقة. لكن بالنسبة للمستقبل القريب، سوف يصارعون للتأكد من أن الجزء الفوضوي من الأراضي الجيوسياسية بينهما لن يقوض أمنهم القومي.

للاطلاع على الرابط الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا