أوراسيا ريفيو | من أوروبا إلى الشرق الأوسط.. كيف تطورت فكرة القومية؟

ترجمات رؤية

ترجمة بواسطة – آية سيد
 

ما هي القومية؟
القومية هي حركة سياسية ظهرت في أوروبا في القرن الثامن عشر، وأدت إلى ظهور الدولة القومية، وقبل القومية لم يمنح الناس ولاءهم للدولة القومية بل لأشكال مختلفة أخرى من التنظيم السياسي: الدولة المدينة, أو الإقطاعية وسيدها, أو الإمبراطورية القائمة على حكم السلالات, أو الجماعة الدينية.

بشكل عام, نشأ نوعان من القومية في أوروبا، القومية النظرية في غرب أوروبا، والقومية العِرقية في أوروبا الشرقية، الأولى يُشار إليها أيضًا بالقومية المدنية, وهي شكل شامل من القومية المبنية على الحقوق الفردية وقيم الحرية والمساواة.

إن أقدم شكل للقومية المدنية هو القومية الفرنسية المتأصلة في المُثل الجمهورية الفرنسية عن الحرية, والمساواة والإخاء، يرتبط نموذج المواطنة الفرنسي بالمؤسسات الجمهورية العالمية, وليس بهوية أو ديانة محددة، وعند منح المواطنة الكاملة لليهود أثناء الثورة الفرنسية, أخبر كونت كليرمون تونير الجمعية الوطنية: "يجب أن نمنح كل شيء لليهود كأفراد ولا نمنحهم شيئًا كأمة". إن تصنيف الناس حسب عرقهم غير قانوني في فرنسا؛ حيث لا يمكن طرح أسئلة إحصائية مباشرة والتي من شأنها أن تحدد التكوين العرقي أو الديني للمجتمع، فدولة "الحرية والمساواة والإخاء" تعامل جميع الناس دون تفرقة.

الشكل الثاني للقومية الذي ظهر في أوروبا الشرقية هو القومية العرقية؛ وهي تستغل العرق والتاريخ لخلق سياسة تُضحي بحرية الفرد لصالح إرادة الأغلبية. أحد الأمثلة على هذا النوع هو القومية الألمانية, التي تدّعي أن الجوهر الحقيقي للأمة ينشأ من التاريخ والثقافة والعرق.

ورغم أن إعادة التوطين القسرية والقتل الجماعي حدثوا على مر التاريخ البشري, غير أن ظهور الدولة القومية العرقية ومحاولة إقامة مناطق جغرافية متجانسة عرقيًّا في أوروبا في القرن العشرين أدوا إلى التطهير العرقي والإبادة الجماعية  (أبرزها الهولوكوست) بالإضافة إلى طرد الألمان من أراضي بولندا وتشيكوسلوفاكيا, وكذلك التطهير العرقي للمسلمين في البوسنة والهرسك, والصرب في كرواتيا والألبان ولاحقًا الصربيين في كوسوفو.

وتنطوي كل حركة قومية على أسطورة قومية: ربما تبالغ في تضخيم حوادث حقيقية, أو تحذف تفاصيل تاريخية مهمة, أو تضيف تفاصيل لا توجد أدلة عليها. وتخلق هذه الأساطير والروايات مجتمعات تخيلية والتي تؤدي إلى إحساس متضخم ومضلل بتقدير الذات، وما أشار البروفيسور فاليريو أونيدا إليه في الاقتباس في بداية هذا المقال بـ"الغرور القومي". فقد جادل القوميون الإنجليز بأن إنجلترا كانت المملكة, من ضمن كل الممالك في العالم, الأكثر شبهًا بمملكة السيد المسيح. واعتقد الفرنسيون أن فرنسا لديها مهمة خاصة كممثل للشكل الأكثر تقدمًا من الحضارة الغربية. وفي كل أسطورة قومية تقريبًا توجد قصص عن سقوط الضحايا والاضطهاد وإحساس بالأفضلية. هذه الأساطير القومية, إلى جانب الوحدوية, قادت أوروبا إلى حرب لانهائية, والتي بلغت ذروتها في الحرب العالمية الثانية.

القومية تصل إلى الشرق الأوسط
لألفي عام, كان الشرق الأوسط تحكمه إمبراطوريات: الرومانية, والبيزنطية, والإمبراطوريات الإسلامية المتعاقبة, والتي تكلّلت بـ400 عام من الحكم العثماني، عاش لفيف من الثقافات جنبًا إلى جنب, بينما سافر الناس والأفكار بحرية عبر الإمبراطوريات الواسعة متعددة اللغات، وبحلول القرن التاسع عشر, بدأت الأفكار الأوروبية عن القومية تنتشر في أنحاء الشرق الأوسط.

الإبادة الجماعية الأولى
جاءت القومية العرقية التركية من وسط وشرق أوروبا عبر قنوات متعددة، فالمهاجرون واللاجئون من المجر وبولندا جلبوا هذه القومية الشوفينية والمتعصبة إلى الإمبراطورية العثمانية، وكان الأرمن والآشوريون أول ضحاياها.

ونفذت حركة الأتراك الشباب القومية, في جهد لإضفاء الطابع التركي على الجمهورية الجديدة, حملة ممنهجة لاستئصال الآشوريين والأرمن من شرق تركيا, في الهضبة التي سكنوها لثلاثة آلاف عام، وقُتل ما يُقدّر بـــ1,5 مليون شخص فيما يُعرف بـ"مذبحة الأرمن". وظلت تركيا منذ ذلك الحين حبيسة في حروب لا تنتهي مع القوميين الأكراد الذين يطمحون في إقامة دولة قومية عرقية خاصة بهم، على جزء من الدولة التركية.

القومية العربية تسيطر على الوطنية السورية
تستمد القومية العربية الإلهام من الأفكار الغربية في القرن التاسع عشر، ففي 1911, كوّن مفكرون من أنحاء الشام رابطة قومية عربية في باريس، حيث حدث أول مؤتمر عربي. لاحقًا, أصبحت دمشق مركز تنسيق الحركة القومية العربية. وفي حين أن الفكرة انتشرت إلى أماكن أخرى مثل بيروت, والقاهرة, وبغداد, لم تُلهم القومية العربية في أي مكان شغفًا مماثلًا لذلك الذي ألهمته في سوريا, التي سيشير إليها لاحقًا عبد الناصر رئيس مصر بأنها "القلب النابض للقومية العربية."

وعندما تولى القوميون العرب الحكومة السورية, شغلوا أنفسهم بالقضية العربية الأكبر، في المدارس في جميع أنحاء سوريا, وقف الأطفال كل صباح وحيّوا الأمة العربية، وحلت الخريطة الخضراء للأمة العربية الواسعة محل الخريطة السورية في كل الفصول الدراسية، وشعر القوميون العرب بالظلم وبخيانة الغرب بسبب تقسيم أمتهم باتفاقية سايكس-بيكو.

بيد أن الإساءة الأكبر للقوميين العرب كانت إقامة "دولة إسرائيل" التي اعتبروها خيانة غربية أخرى، وتولى السوريون مسئولية تدمير إسرائيل ومقاومة المؤامرات الغربية في المنطقة، ودفع هذا الهدف الشامل سوريا إلى حروب متعددة وعقوبات اقتصادية، والتي اعتبروها "وسام شرف".  

وتؤكد القومية العربية أن الأمة العربية مجموعة من الناس يتحدثون العربية, ويسكنون "العالم العربي"، ويتطلعون إلى الانتماء إلى نفس الأمة. فالعرب والفينيقيون والأقباط والآشوريون والبربر واليهود, وكل من يعيشون في العالم العربي ويتحدثون العربية هم شعب هذه الأمة العظيمة، لكن هذه المجموعة المتنوعة من الأشخاص والثقافات, من أعماق الجزيرة العربية إلى أقاصي شمال أفريقيا, يرتدون ثيابًا مختلفة, ويأكلون طعامًا مختلفًا, ولا يتشاركون نفس التاريخ.

مع هذا, يصر القوميون العرب الأصوليون على أن اللغة هي أقوى أساس للأمة, مجادلين بأن اللغات المتعددة المنطوقة في شبه الجزيرة العربية, والشام, وشمال أفريقيا هي لهجات لنفس اللغة. لكن التعريف الأوسع للهجة ينص على أن اللهجة ينبغي أن يفهمها متحدثو اللهجات الأخرى من نفس اللغة دون تدريب مسبق, وهو اختبار صعب اجتيازه لشخص من الشام يستمع إلى شخص من المغرب.

إن دولًا ناجحة كثيرة متعددة اللغات, مثل سويسرا وسنغافورة, حيث تمتلك كل واحدة منهما أربع لغات رسمية. وبرغم حقيقة أن كل الدول المتجاورة في أمريكا الوسطى والجنوبية – باستثناء البرازيل – تتحدث نفس اللغة, وتتشارك تاريخًا ودينًا متشابهًا, لا تتطلع أي من هذه الدول إلى أن تصبح أمة واحدة. وفي حين أن المصريين غازلوا القومية العربية في عهد عبد الناصر, كان لديهم إحساس عميق بالذات ككيان منفصل, وكان ولاؤهم لمصر أولًا، وانتهى الغزل المصري للقومية العربية بمعاهدة كامب ديفيد. وحينها رأى السوريون, المؤمنون بالقومية العربية، أن أفعال القيادة المصرية تتسم بالخيانة وقصر النظر.

 إن هذه النظرة للقادة العرب الآخرين على أنهم عملاء لأسيادهم الغربيين كانت مسألة شائعة بين القوميين العرب في سوريا، وظن هؤلاء القوميون أنهم ممثلو نبض وتطلعات الشارع العربي، غير أن هذا الوهم تحطم خلال الأعوام الثمانية الماضية من الحرب في سوريا: أن الشارع العربي كان بلا نبض بينما كان السوريون يُقتلون ومدنهم تُدمر كجزء من عملية تغيير نظام وحشية لمعاقبة سوريا على عقود من معارضة خطط الغرب الكبرى والدفاع عن شرف أمتهم التخيلية.

القومية اليهودية أو الصهيونية
أحد الأنواع الأخرى من القومية, وهي القومية اليهودية أو الصهيونية, بدأ في أوروبا الشرقية، وقد هدفت إلى إقامة وطن لليهود مع وضع فلسطين التاريخية نصب أعينها. ففي 1920 أظهر تقرير بريطاني وجود أكثر من سبعين ألف شخص يهودي يعيشون في فلسطين الخاضعة للانتداب البريطاني, الكثير منهم وصلوا خلال الثلاثين سنة السابقة، واستمرت الهجرة اليهودية واستعمار فلسطين التاريخية بشكلٍ رئيسٍ بواسطة يهود أوروبا الشرقية غير المندمجين.

وفي عام 1948, عندما أعلنت" إسرائيل استقلالها", هاجمت كل من مصر والأردن وسوريا إسرائيل, وخلال الأشهر العشرة التالية من القتال, احتلت إسرائيل 60% من الأراضي الفلسطينية (ومن بينها القدس الغربية) متجاوزةً مخصصات الدولة اليهودية التي اقترحها قرار التقسيم لعام 1948.

أدى هذا الصراع إلى تغيير ديموغرافي كبير في أنحاء الشرق الأوسط، وهرب نحو 700 ألف فلسطيني أو طُردوا من منازلهم في المناطق التي أصبحت ملكًا لإسرائيل ولم تُسمح لهم بالعودة أبدًا. وعلى مدار العقود التالية, احتلت إسرائيل المزيد من الأراضي من جيرانها وواصلت استعمار الأراضي الفلسطينية، واختفت تقريبًا جميع المجتمعات اليهودية التي أثْرت معظم أنحاء الشرق الأوسط لقرون في مدن مثل حلب, ودمشق, وبغداد, والقاهرة, حيث هاجر الكثير منهم إلى إسرائيل أو الولايات المتحدة.

يتحدث إعلان الاستقلال الإسرائيلي عن حقوق متساوية لجميع مواطنيها؛ بيد أن جماعات حقوق الإنسان الإسرائيلية وثّقت عدة قوانين تميّز ضد السكان الفلسطينيين, الذين لا يزالون يعيشون بصورة منفصلة إلى حد كبير عن السكان اليهود. ومؤخرًا, مرر المشرعون اليهود قانون الدولة القومية الذي يقول إن الإسرائيليين اليهود فقط لهم حق تقرير المصير في إسرائيل, متجاهلًا حقوق المواطنين الفلسطينيين. كما صوّت الكنيست أيضًا ضد مشروع القانون الأساسي للمساواة الذي اقترح أنه "يجب أن تحافظ دولة إسرائيل على حقوق سياسية متساوية لجميع مواطنيها دون تمييز بين دين أو عرق أو جنس".

وفي حين أن الكثير من الآباء المؤسسين لإسرائيل كانوا علمانيين, إلا أن الأبعاد المسيحية لدولة يهودية على أرض إنجيلية كانت حتمية. واليوم, يأتي الدعم الأقوى لإسرائيل في الغرب من المسيحيين الإنجيليين الذين يؤمنون بأنه من أجل حدوث البهجة, يجب أن يعود اليهود إلى أرض الميعاد.

كيف تحررت أوروبا من القومية
بعد الحرب العالمية الثانية أدرك الأوروبيون مساوئ القومية واتجهوا إلى إقامة هيكل سياسي جديد للقارة. لقد قللوا من أهمية الحدود بين دولهم؛ ما أتاح حرية الحركة للأشخاص والعمال والبضائع والخدمات, وأقاموا مؤسسات تتجاوز حدود القومية والتي تخدم المجتمع الأوروبي بأكمله. مع هذا, فضح الانهيار المالي العالمي لعام 2008 عيوبًا خطيرة في هياكل اليورو ونقاط ضعف أخرى في المشروع الأوروبي ما بعد القومية الجديد.

والآن يتعين على الشرق الأوسط أيضًا إيجاد طريقه بعد القومية لخلق الاستقرار وجلب السلام إلى المنطقة، وإذا لم يكن هناك اتحاد مماثل لذلك الذي يجري الشروع فيه في أوروبا, ربما تكمن الإجابة في ما يسميه "نسيم نقولا طالب", مؤلف Black Swan وAntiFragile, "المحلية"
 

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا