أولى حروب الجنرال أردوغان

ترجمات رؤية

ترجمة بواسطة – بسام عباس


لم يكن إسماعيل حقي قرضاي يجلس خلف وزير الدفاع. وكذلك لم يفعل حسين كيفريكوغلو. مثلما كان جميع رؤساء الأركان الأتراك الذين جاءوا قبلهما. وفي الاجتماعات الوزارية لمنظمة حلف الناتو نجد أن الضباط العسكريين يجلسون خلف قيادتهم المدنية، باستثناء الوفود التركية؛ إذ نراهم يجلسون بجوار وزرائهم. ولكن أي شيء آخر سيكون خرقا في البروتوكول. فالهيكل التنظيمي التركي واضح تمامًا، حيث لا يملك وزير الدفاع أي سلطة على القيادات العسكرية، ورغم أن كليهما تابع رسميا لرئيس الوزراء المدني، إلا أن العسكريين لا يتصرفون وفق هذه التبعية.

وهذا النمط من العلاقات المدنية – العسكرية في تركيا يتغير الآن. حيث تجري عملية إضعاف للقوات المسلحة في ظل حكم حزب العدالة والتنمية طوال السنوات الـ15 الماضية، مما يعني أن الرئيس رجب طيب أردوغان أصبح الآن أول رئيس دولة تركي يتمتع بالصلاحيات المبينة في المادة 104 و117 من الدستور التركي. وهذه الأحكام تجعل أردوغان هو القائد العام (نيابة عن الجمعية الوطنية الكبرى) وتسمح له “باتخاذ القرارات بشأن إدارة وتوجيه القوات المسلحة التركية”، ثاني أكبر جيش في حلف الناتو. وقد استفاد من تلك الصلاحيات بشدة، عندما أمر الطائرات والدبابات والقوات التركية بخوض المعارك في سوريا مرتين على مدى الأشهر الـ18 الماضية.
ولكن أي نوع من القادة العسكريين أصبح أردوغان؟

كشفت عملية غصن الزيتون التي بدأت في 20 يناير أن أردوغان القائد العسكري يشبه إلى حد كبير أردوغان السياسي، فهناك مزيج بين المخاطرة والبراجماتية في غزواته في سوريا. لكن الشيء الوحيد الذي يظل ثابتا في القيادة العسكرية للرئيس: التأكيد الدائم على القومية التركية في جميع خطاباته، وفي توصيفه لأهداف الجيش وتقدمه. إضافة إلى التركيز على القضايا الإسلامية، وظهر ذلك جليًّا في خطاب أردوغان حول آخر توغل في سوريا.

ومهما كانت النتيجة في ساحة المعركة، فقد وضع أردوغان بالفعل لنفسه دورًا عسكريًّا غير مسبوق للمدنيين الأتراك.

إن صلاحيات القائد العام التي خولها الدستور لأردوغان هي صلاحيات امتلكها الرؤساء السابقون. ولم تتغير مواد الدستور ذات الصلة منذ اعتماده عام 1982. ومع ذلك، فأساليب أردوغان في إحياء هذه السلطات الرسمية فريد من نوعها، وكانت السابقة الوحيدة في أعقاب انقلاب 1980على يد الرئيس الكاريزمي تورغوت أوزال، الذي كان عازمًا على فرض سلطته جزئيا عبر تحدي نفوذ العسكر، وفي عام 1987، عيَّن الجنرال نجيب تورومتاي رئيسًا للأركان العامة رغم اعتراضات القادة الذين اعتادوا -منذ فترة طويلة- على اتخاذ القرارات بأنفسهم، ثم بعد عامين ونصف العام، أجبر أوزال -الذي كان آنذاك أول رئيس مدني في البلاد- على مواجهة الأركان العامة لإصراره على دعم تركيا لعمليات درع الصحراء وعاصفة الصحراء بقيادة الولايات المتحدة، فاستقال تورومتاي احتجاجًا، ثم لم يحدث شيء، لم تكن هناك تهديدات من الضباط، ولا مذكرة توجه أوزال لتغيير السياسة التركية، ولم يكن هناك انقلاب.

لكن استقلال أوزال عن الجيش كان مشروطًا وفي سياقه، وعاد النمط المدنية الأكثر سلبية بعد وفاته في عام 1993. وقبل إجبار الحكومة الإسلامية الأولى على ترك الحكم في يونيه 1997، أقامت هيئة الأركان علاقات استراتيجية مع إسرائيل -معلنة عن وجودها في مركز دراسات في واشنطن- ما تسبب في انزعاج شديد لدى رئيس الوزراء آنذاك نجم الدين أربكان، كما نفذت هيئة الأركان عمليات عسكرية في العراق ضد حزب العمال الكردستاني دون إبلاغه. وقد أمر الضابط بتنفيذ عملية أخرى في العراق بعد الإطاحة بأربكان من رئاسة الوزراء. كذلك فقد تم تهميش رئيس الوزراء الجديد مسعود يلمظ.

وعندما تولى حزب العدالة والتنمية السلطة في نوفمبر 2002، بدأ في تغيير العلاقة بين القادة المدنيين المنتخبين في تركيا والعسكر، وكانت الحكومة السابقة قد قامت بالفعل بتغيير طفيف على تشكيل مجلس الأمن القومي التركي، القناة الأساسية التي أثر الجيش من خلالها في السياسة، لصالح المدنيين. غير أن التأثير كان ضئيلا، نظرًا لسيطرة الجيش على الأجهزة البيروقراطية للدولة. وقد بدأت جهود حزب العدالة والتنمية بشكل سلس نسبيا بسبب الدعم العام للإصلاحات المتعلقة بالاتحاد الأوروبي والتي تتطلب -جزئيا- ربط علاقة الجيش بالقادة المدنيين المنتخبين بالمعايير الأوروبية. ويبدو أن أردوغان ورئيس الأركان آنذاك، الجنرال حلمي أوزكوك، قد اتفقا “اتفاق شرف” على عدم تأجيج الساحة السياسية حول التغييرات دون داعٍ لذلك.

لم تسر الأمور إلا إلى الأسوأ، ففي عام 2007 بعد أن حاول الجيش منع مرشح حزب العدالة والتنمية عبد الله جول من أن يصبح رئيسًا للجمهورية. ومدفوعًا بفكرة أن النخبة التقليدية في تركيا لن تسمح له بالوصول لسدة الحكم، تعاون أردوغان وحزب العدالة والتنمية مع أتباع فتح الله جولن لتقليص دور القوات المسلحة من خلال محاكمات صورية قائمة على أدلة ملفقة، ولكن استمرت عمليات العسكر التي تهدف لتخويف وإرهاب أتباع جولن بالتزامن مع عمليات تطهير واسعة النطاق لأتباع جولن من الضباط -الحكومة التركية تتهم الآن رجل الدين المقيم في الولايات المتحدة بقيادة التنظيم الإرهابي والمدبر لانقلاب يوليو 2016 الفاشل- وغيرهم من عناصر الجيش الخونة. وهذه العمليات أثرت بالسلب على الجيش فأصبح في وضع لا يسمح له بتحدي أردوغان اليوم. وعلى الرغم من أنها ليست فكرة جيدة إعلان انتهاء عصر الانقلابات في تركيا، ويبدو أن سيطرة أردوغان الطويلة قد تغير الأنماط العلاقات المدنية – العسكرية السابقة في تركيا.

ويؤكد غزو سوريا هذا الأمر بكل وضوح.. فقد أصدر أردوغان أوامره للجيش التركي -التي أكد قادتها في السابق على ضرورة أخذ الحيطة والحذر وتنفيذ عمليات سريعة ومحدودة عبر الحدود- بنشر قواته عبر الحدود الجنوبية مرتين. ومن الجدير بالذكر أن تعقيدات الحرب السورية هي السبب وراء تشجيع أردوغان ومداهنته لإدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما للتدخل، دون أن يضطر الزعيم التركي لاستخدام قواته في هذا الصراع الخطير. غير أن أردوغان لما لم يستطع إقناع الولايات المتحدة، خاطر بنفسه في النهاية بعد خمسة أسابيع من الانقلاب يوليو 2016 الفاشل، ولكن لا يبدو أن قيادته العسكرية جيدة، فبحسب ستيفن كوك كانت عملية درع الفرات فقيرة التنظيم والقيادة واستغرقت 7 أشهر وقتل فيها ما بين 35 إلى 70 جنديًّا تركيًّا على الرغم من أنه لم يقاتل قواته نظامية، ولكن كل هذا تم التغطية عليه إعلاميا من خلال الزخم الإعلامي والشعبي في أعقاب محاولة الانقلاب.

ويبدو أن أردوغان قد اقترب من مشروعه الأخير -ذي الاسم المثير للسخرية “غصن الزيتون”- بشكل مختلف قليلا، نظرًا لارتفاع سقف المخاطر. فمن وجهة نظر مؤسسة الأمن القومي في تركيا، فإن الغزو هو حرب ضرورية لمنع احتمال ظهور دولة إرهابية على الحدود. ومع ذلك، اتخذ أردوغان الخطوة الدرامية من خلال أمر الجيش بالقتال ضد القوات المتحالفة مع الولايات المتحدة، وهدد ضمنيًّا – على الأقل – القوات الأمريكيين المتمركز في مدينة منبج وفي الشرق نحو الحدود العراقية. وهو النطاق الذي تعمل فيه القوات الخاصة الامريكية مع وحدات حماية الشعب الكردية، التابعة لحزب العمال الكردستاني التي تشكل الجزء الأكبر من القوات البرية الأمريكية في المعركة ضد داعش.

ومن نافلة القول: إن القادة الأتراك السابقين لم يكن ليهاجموا الولايات المتحدة بهذه الطريقة. ثم مرة أخرى، أصبحت علاقة واشنطن مع وحدات حماية الشعب، وما نتج عنها من هياج وغضب في تركيا، وهو ما يهدد بإفساد العلاقات مع الولايات المتحدة، سياسة جيدة ترفع من أسهم الرئيس التركي في الداخل، والتي كانت قد ساءت قبل عملية غصن الزيتون أكثر مما كانت عليه بعد فشل انقلاب يوليو.

وحتى الآن، يبدو أن الجيش التركي قد تعلم الدرس من درع دجلة الفرات. فالقصف التركي والغارات الجوية تدعم الجيش السوري الحر -الذي يقوم بالقتال لصالح تركيا- ضد وحدات حماية الشعب في منطقة عفرين. وأدى ذلك إلى تخفيض عدد الإصابات في صفوف القوات التركية. ومن غير الواضح ما إذا كان أردوغان قد انخرط في أي تخطيط عسكري فضلاً عن الموافقة على الخطة وإعطاء الأوامر لبدء أعمال القتال. وخلال الأسبوع الأول من القتال، تم تصويره في ما يبدو وكأنه مركز عمليات يرتدي زيًّا عسكريًّا، ويحمل مؤشرًا في يده، ويتبادل باهتمام وثائق وخرائط ساحة المعركة. 

وهذه خطوة ذكية عسكريا، ولكن بنفس القدر من الأهمية سيصر القائد العام على الحصول على معلومات دقيقة وفي الوقت المناسب حول ساحة المعركة. وبالنظر إلى أسلوب إدارة أردوغان العشوائي، لا يمكن لأحد التأكد من الوضع. قد لا يهم كثيرًا في الأيام الأولى من القتال نظرا للخوف والحماس الوطني والغضب (الذي يصب معظمه على الولايات المتحدة) التي حشدت السكان الأتراك.

ولكن ماذا لو قتل المزيد من الجنود الأتراك؟ ماذا لو كانت مقاومة وحدات حمایة الشعب أشرس من المتوقع؟ ماذا لو لم تدعم الولايات المتحدة حلفاءها الأكراد؟ ماذا لو استمرت قوات النظام السوري بالتوازي مع مقاتلي حزب الله في استهداف القوات التركية في إدلب وأن تتسع المواجهة ؟ وماذا لو أصبحت سوريا مستنقعا للقوات التركية؟ هناك الكثير من طرق التدخل في الدول المجاورة والتي تبدو نظيفة ودقيقة على الخريطة، ولكن يمكن أن تفسد العمليات العسكرية وتقوض حتى أكثر القادة السياسيين المميزين. ويفترض أن يفهم أردوغان كل هذه المخاطر، ولكن الديناميات السياسية التي خلقها لدعم عملية غصن الزيتون قد تجعل التراجع أمرًا عسيرًا عليه.

ولكن حتى الآن، يبدو أن أردوغان يسير بخطى ثابته في دوره الجديد. حيث وضع أهداف العملية وركز على إدارة السياسة المحلية، وضمان المصالح الجيوسياسية لتركيا، والقيام بما يفعله -مثل غيره- من تعبئة الدعم لعملية غصن الزيتون في الداخل وترك المعركة للقادة. ولكن، بغض النظر عمَّا يفكر فيه الجميع حول عدالة القضية التركية في سوريا، أصبحت السيطرة المدنية على القوات المسلحة في تركيا حقيقة واقعة. وهذا شيء جديد تماما، ولكن الخطر الحقيقي هو سلطوية أردوغان ونهجه السياسي في تحويل الجيش إلى أداة في يده لتغيير تركيا. والوحيد الذي كانت له مثل هذه السيطرة على الجيش من قبل كان مصطفى كمال أتاتورك.

المصدر – فورين بوليسي

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا