إسرائيل وحزب الله.. “الحرب بين الحروب” واستثمار كارثة بيروت

محمد عبد الدايم

كتب – د. محمد عبدالدايم

في غارة جوية يوم 20 يوليو على موقع قرب مطار دمشق السوري قتلت إسرائيل الناشط في حزب الله علي كامل محسن، ورغم استمرار الغارات الجوية الإسرائيلية التي ينفذها سلاح الجو على أهداف عسكرية ومواقع بسوريا، فإن مقتل علي كامل قد أثار حفيظة حزب الله، واستنفار الجيش الإسرائيلي، وزاحم الكورونا على لائحة قضية الساعة. خلية الشمال توقعت إسرائيل الرد من حزب الله، وبحسب مزاعم الجيش، ويوم الإثنين الماضي تم رصد عبور مجموعة من 4 أفراد تسللت عبر السياج الأمني في منطقة جبل روس (هر دوف) في مزارع شبعا لزرع عبوة ناسفة، وقام الجيش برصد المجموعة وتصفيتها، ولاحقًا أعلن العثور على عبوة ناسفة في موضع استهداف المتسللين على مسافة 25 مترًا من السياج الحدودي.

خلية الشمال

الغريب في محاولة الهجوم “المزعومة” أنها جاءت في في منتصف النهار، ووثق الجيش ما زعمه من محاولة التسلل “الساذجة” التي تبدو كما لو أنها عمل طائش في وضح النهار، وربما هي أقرب لمحاولة تسلسل أو استطلاع وليست عملية منظمة. من جانبه أعلن الجيش الإسرائيلي أن محاولة التسلل الفاشلة بتخطيط وتنفيذ من حزب الله، لكن الحزب نفى أن يكون قد تحرك للرد على مقتل علي محسن، أو لتنفيذ عملية استطلاع في مزارع شبعا، ومع ذلك تضمن بيانه التأكيد على أن “الانتقام لعلي محسن قادم”.

استمر الاستنفار العسكري الإسرائيلي في الشمال، فانتشرت القوات على طول الحدود، وأُعلن عن تأهب قوات الجيش، وخرجت رسائل التهديد السياسية من نتنياهو ووزير الدفاع جانتس، انتقل نتنياهو إلى الشمال وأقام مؤتمرًا صحفيًا، وأطلق تهديداته لحزب الله، فيم ظهر بيني جانتس، رئيس الوزراء البديل ووزير الدفاع، في قاعدة نيفاطيم (قاعدة القوات الجوية 28) في بئر السبع، ووجه هو الآخر تهديده لحزب الله.

مناوشات غير مباشرة

مناوشات غير مباشرة قبل أحداث “خلية الشمال”، وفي 27 يوليو الماضي، أبلغ الجيش الإسرائيلي عن تسلل خلية زعم أنها تابعة لحزب الله، لمسافة تصل إلى 200 متر في مزارع شبعا، واقتربت إلى مسافة 50 مترًا من موقع للجيش الإسرائيلي، لكنها أفلت راجعة بعد تعامل قوات الجيش معها بالنار، دون وقوع إصابات في الطرفين، أو اختطاف لعنصر من القوات المتمركزة في الشمال. ليست هذه المناوشات هي الأولى في السنوات الأخيرة، ففي عام 2015 أطلق حزب الله صاروخًا مضادًا للدبابات على سيارة تابعة للجيش الإسرائيلي، ما أدى إلى مقتل جنديين، وذلك ردًا على مقتل أحد كوادر الحزب رفقة ضابط إيراني وأفراد آخرين في ريف القنيطرة جنوبي سوريا جراء غارة إسرائيلية.

وبعدها في العام الماضي حاول حزب الله الرد على غارة إسرائيلية على دمشق قتلت عناصر تابعة لإيران والحزب، وتسيير طائرة درون حلقت فوق بيروت، لكن اتضح أن حزب الله قد أطلق على سيارة عسكرية إسرائيلية وضع بها الجيش دمية بدلا من وجود جنود فعليين. 

تراجع حافزية حزب الله

بالنظر إلى وتيرة المناوشات بين إسرائيل وحزب الله يظهر أنها في انخفاض كبير مقارنة بسنوات سابقة، حيث أصبح حزب الله أقل فاعلية في ردوده، مع الأخذ في الاعتبار أن ضربات إسرائيل ليست بالقوة الكبيرة. 

مع الضرر الكبير الذي أصاب الحركة، أظهر حزب الله بطئًا في التعامل مع الضربات الإسرائيلية، حيث يعاني الحزب منذ اشتعال الأحداث في سوريا من تشتيت كبير لدى قواته، وفقدانه لجزء من قوته العسكرية وحافزيته على الحدود مع إسرائيل، لانشغاله – بمساعدة إيران-  بالحرب لصالح النظام السوري، ثم جاءت الأحداث السياسية العاصفة في لبنان لتزيد الضغوط السياسية على نصر الله ورفاقه، مع استمرار الهبة الشعبية الرافضة للجمود السياسي، والتراجع الاقتصادي الكبير، فيما يعاني الحزب أزمة اقتصادية أخلت بقدراته على الوقوف متأهبًا عند حدود مزارع شبعا. 

تكتيك المعركة بين الحروب

أما إسرائيل فتتبع تكتيك المعركة بين الحروب، حيث تعتمد على التكنولوجيا السايبرانية، لتتحصل على معلومات تساعد في اقتناص عملاء إيران وكوادر لحزب الله في سوريا بتسيير طائرات درونز، بحيث لا تنزلق في اشتباك مباشر يسفر عن احتمالية سقوط قتلى بين قواتها، أو تستفز حزب الله بشكل يُوقظ فيه حمية الأسد المصاب ليرد بإطلاق صواريخ على مناطق مدنية.

في مسار الصراع الإسرائيلي الإيراني؛ لم تعد لبنان جبهة أساسية للحرب، منذ انتهت حرب تموز (الحرب الإسرائيلية الثانية على لبنان 2006)، حيث انتقلت المواجهة بين إسرائيل من ناحية، وإيران ومعها حزب الله من ناحية، إلى الجبهة السورية، التي يعتبرها حزب الله ممرًا آمنًا تصل عبره إمدادات عسكرية من إيران، بالإضافة إلى دفاعه المستميت عن وجود نظام الأسد الذي يمثل داعمًا وحليفا أقرب جغرافيا من طهران، ومن فوائد نقل الصراع إلى أرض سوريا أن الخسائر لم تعد تنتظر من يرغب في المحاسبة والتعويض، أما في لبنان، فالواقع السياسي، والأوضاع الاقتصادية تدفعان حزب الله لتجنب خسائر كبيرة نتيجة اشتباكه مع إسرائيل، بما يؤدي إلى مواجهة ردود أفعال من الطوائف اللبنانية الأخرى. 

صعود وهبوط

تصاعدت الأحداث فجأة، ومن ثم هبطت، حيث تراجعت نبرة التهديد الإسرائيلية، مع تصريحات تنفي التأكد من هوية الجهة التي تقف خلف المتسللين، مع نفي حزب الله مسئوليته، وكأن الطرفين لا يرغبان في التصعيد الفعلي، وإنما لا يتعدى الأمر تهديدًا في مقابل تهديد، وصيحات إعلامية في الهواء. بعد الاستنفار العسكري الإسرائيلي، وإطلاق التهديدات المتبادلة، صدرت الأوامر بالتهدئة، حيث أمر نتنياهو مسؤولي حكومته بعدم إطلاق التصريحات العدائية الكبيرة، بل ونقلت مصادر إعلامية أن حكومته أبلغت حزب الله، عن طريق الأمم المتحدة، أنها لم تتعمد اغتيال علي كامل محسن، وإنما كانت تصفيته عن طريق الخطأ، وفي المقابل لم يسترسل نصر الله كثيرًا في خطابات التهديد والوعد بالانتقام المفرط. 

تجنُب الحرب الثالثة على لبنان

يبدو أن الطرفين، إسرائيل وحزب الله، لا يرغبان في العودة للمعارك المباشرة التي تترك آثارها الكبيرة، المتمثلة في وقوع قتلى، أو سقوط صواريخ، أو أسر جنود، كما أن إسرائيل تفوقت في صراعها مع محور إيران – حزب الله، بفضل معلوماتها الاستخباراتية، التي منحتها أفضلية في تعقب “هادئ” للوجود الإيراني، سواء في سوريا أو العراق، أو حتى في الداخل الإيراني نفسه. الأمر يتعلق بتشجيع التضييق الدولي على إيران، وبالتالي حزب الله، ثم اعتماد الضربات الخاطفة، التي لم تعد تتسم بـ”الدرامية” الحربية الكبيرة مثلما كان في السابق، وهذا بالطبع لا ينطبق على عملية اغتيال قاسم سليماني في العراق، لكنها عملية تكفلت بها الولايات المتحدة، وما كان على إسرائيل إلا التنسيق معها، واتخاذ تدابير عسكرية تحسبًا لرد إيراني يائس. 

من هنا تتركز الأهداف الاستراتيجية الإسرائيلية شمالا في: إنهاء التموضع الإيراني في سوريا، ومنع نصب صواريخ أو إطلاقها من جانب حزب الله، وردع الحزب عن التسلل والعمل داخل إسرائيل، مثلما حدث في عملية هدم الإنفاق العام الماضي.

إسرائيل لا ترغب في الانزلاق نحو “حرب ثالثة على لبنان”، وحزب الله كذلك، وبالتالي لا يدفع أي طرف منهما الآخر – في الوقت الحالي- نحو الالتزام بالرد العسكري على هجوم كبير، فحكومة نتنياهو لا ترغب في فقدان عسكري، أو موت مدني جراء صاروخ، أو أسر جندي، وحزب الله لا يرغب في مواجهة غضب الداخل اللبناني، واستنزاف قواته مرة أخرى، بينما لم تنته “مناوبته” في سوريا بعد. 

تأثير كارثة بيروت

هذا لا يعني أن حزب الله لا يريد أن يرد على مقتل قادته الذين تستهدفهم غارات إسرائيل على سوريا، لكنه ينتظر ويتمهل ريثما يلتقط أنفاسه، ويبحث عن نقطة خرق ينفذ من خلالها لتحقيق انتقامه من إسرائيل، لكن ليس الآن، فليس مستعدًا في خضم أزمة اقتصادية تفاقمت منذ أكتوبر الماضي، وأخرى سياسية، وغضب شعبي، ووباء متفش، أن يغامر بمواجهة مع إسرائيل، ويضاف إلى هذا كله كارثة بيروت الأخيرة.

توجهت الأنظار للوهلة الأولى نحو إسرائيل، ووجه البعض أصابع الاتهام لها، لأن الكارثة وقعت بعد مؤتمر نتنياهو الصحفي عقب قنص “خلية الشمال”، لكن بالطبع، للأسباب السالفة، لا تنجرف إسرائيل في تنفيذ هجوم بهذا الشكل يستهدف بيروت المدنية، حتى لو كانت تهاجم مواقع لحزب الله. 

لكن بشكل كبير يمكن أن تكون كارثة بيروت مفيدة لإسرائيل، عسكريًا، وسياسيًا، فالانفجار الكبير الذي هز مرفأ بيروت ودمر العاصمة اللبنانية، قد هز حزب الله نفسه، حيث وجدت الحركة أصابع اتهام غاضبة، بتحميلها مسئولية وجود المواد المسببة للانفجار، أو جزء من المسؤولية عن الأزمة السياسية والفساد اللذين كانا من أسباب حدوث الكارثة. 

يواجه حزب الله منذ العام الماضي تحديدًا غضبًا شعبيًا كبيرًا، وصل إلى ذروته بعد انفجار بيروت الكارثي، لتضرب نترات الأمونيا جسد الحركة، ولم يشفع لنصر الله خطابه بعد الكارثة، ونفيه امتلاك قواته “صاروخ أو حتى رصاصة” في مرفأ بيروت، لأنه يمتلك أغلبية تسيطر على البرلمان اللبناني، وبالتأكيد يتحمل مسؤولية كبيرة فيما وصلت إليه الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الإنسانية. 

إسرائيل تراقب حزب الله 

الآن إسرائيل تشاهد حزب الله وهو يواجه الغضب، ويواجه بيروت المحطمة، ويبحث عن “كرامته” بعد اصطياد كوادره في سوريا، ولا يستطيع أن يغامر بالرد في هذه الظروف، تترقب إسرائيل كيف يُخلص نصر الله حركته من اليأس وينتشلها من الضائقة المالية والنكبة السياسية والتقهقر العسكري في لبنان وسوريا. 

بالإضافة إلى هذا ساعدت الكارثة في تلميع صورة إسرائيل، التي أضاءت علم لبنان على مبنى بلدية تل أبيب، وعرضت المساعدة الصحية والإنسانية، وتنبهت لخطورة البتروكيماويات، فقررت المسارعة في تدقيق أوضاعها بميناء حيفا، وتجنيب المدينة سيناريو شبيه لكارثة بيروت، بفعل الإهمال، أو بفعل صاروخ مارق يطلقه جزب الله.

تمارس إسرائيل لعبة “الحرب بين الحروب”، باقتناص كوادر حزب الله الأقل شأنًا، أو عرقلة استعدادات عسكرية، أو إحباط محاولات للتوغل أو القنص أو الاحتكاك المباشر، بينما تسعى لتجنب سيناريو الحرب المباشرة الكبيرة، حتى أن بعض المحللين العسكريين يُقدرون أنها تتجنب تصفية كوادر كبيرة في الحزب، بل وإن قواتها تعرف تحديدًا “الحفرة” التي يختبئ بها نصر الله، لكنها تمتنع عن استهدافه، دفعًا لعدم تلقي رد فعل انتقامي كبير من الحزب الذي يبحث عن “استعادة الكرامة”. 

ربما يعجبك أيضا