بين كولن وأردوغان.. التعليم الديني ومخاطر التغلغل الناعم في المجتمع التركي

يوسف بنده

رؤية

في الأشهر الأخيرة تظاهر بعض أولياء الأمور أمام المدارس التي تم تحويلها إلى مدارس إسلامية لأن توسيع التعليم الديني يقوّض من جودة التعليم الضعيف أصلا في تركيا.

حيث تشكل المدارس والمعاهد العمود الفقري للقوى الدينية في تركيا، وفي الصدارة منها حزب العدالة والتنمية، وجماعة فتح الله كولن، ويعد الحقل التعليمي والتربوي مجالا خصبا لنشر نمط الأفكار أو التدين عن طريق المناهج الدراسية، التي يلقنها المعلمون والأساتذة للتلاميذ.

في مدارس “إمام خطيب” التي تحظى بدعم أردوغان، ومدارس جماعة “الخدمة” التابعة لرجل الدين كولن، يتم بناء شخصية التلميذ وفقا لأجندة كل منهما.

تزرع المنظومة التربوية في المدارس الدينية التركية على اختلاف اتجاهاتها الدينية في التلاميذ بطريقة غير مباشرة قيم ومبادئ المشروع الصوفي لـ”الخدمة”، أما مدارس “إمام خطيب” فمنوط بها ترسيخ الطموحات المؤدلجة لأردوغان الحالم باستعادة إرث الإمبراطورية العثمانية.

إذا كانت الإيديولوجية الأردوغانية ترتكز بشكل أساسي على أن استعادة أمجاد الماضي وبناء جيل متدين، باعتبار ذلك المصدر الأساسي للبقاء في صدارة المشهد، ومن ثم فقد صبت كل جهدها نحو التوسع في تطوير وإنشاء مدارس “إمام خطيب”.

في المقابل، كان التعليم أحد المداخل المهمة لتكريس إيديولوجية كولن وأفكاره، ورغم تأكيد جماعة “الخدمة” على تبني مفهوم غير مسيس للتعليم، فإن مدارس كولن، التي تتبنى منهج “التقية”، ركزت بشكل أساسي على فكرة التغلغل داخل أجهزة الدولة تأهبًا لمشروع سياسي تمسك من خلاله بمفاصل السلطة والمجتمع.

وطغى قبل أيام موضوع مدارس “إمام خطيب” في تركيا، ومنحها معاملة تفضيلية خلال الأيام الماضية، وغطى على معظم القضايا الخلافية في الداخل، بعد الإعلان عن استفادتها من برنامج حكومي بملايين الدولارات.

وتتوجه تركيا منذ العام 2012 نحو أدلجة التعليم، وإعطائه صبغة دينية، وتجلى ذلك في التوسع في بناء المدارس الدينية، وكشف تقرير جديد لمبادرة إصلاح التعليم في جامعة صبنجي أن عدد مدارس “إمام خطيب” الإسلامية في تركيا زاد بنسبة 73% خلال السنوات الخمس الماضية. كما عززت تركيا التعليم الديني في المدارس العادية التابعة للدولة، والتي تحول بعضها ليتبع مدارس “إمام خطيب”.

ضاعفت تركيا المخصصات المالية لمدارس “إمام خطيب” الثانوية إلى 1,68 بليون دولار عام 2018، أي نحو ربع إجمالي الإنفاق على المدارس، ومع أن تلاميذ تلك المدارس، وعددهم 645 ألفاً، لا يمثلون سوى 11 في المئة من إجمالي طلاب المدارس الثانوية، يبلغ التمويل المخصص لهم 23 في المئة.

ويهدف التعليم الديني لتطبيق استراتيجية أردوغانية منذ وصوله لصدارة المشهد التركي في العام 2002، لتحقيق أهداف عدة، أولها حلم إحياء الخلافة العثمانية، وقد زاد التوجه نحو التوسع في المدارس الدينية منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، واقتراب تيارات الإسلام السياسي من مقاعد السلطة.

ويعتبر التعليم الديني في تركيا أحد الجبهات القوية التي يشتغل عليها الرئيس التركي أردوغان، وكذلك أتباع كولن في مختلف دول العالم، من أجل إعطاء دفعة قوية للمشاريع الإيديولوجية الخاصة بكل منهما، وبعضها عابرة للقارات، والتعريف بها واستقطاب أفراد جدد إليها.

وثانيهما إعادة بناء الوعي الجمعي التركي، عبر تكريس التوجهات الإسلامية، وتجفيف قيم ومبادئ العلمانية، وبدا ذلك في تعليم الشباب والفتيات في فصول منفصلة، والتركيز على الدروس الدينية على حساب المواد العلمية.

وعلى سبيل المثال يُخصص ربع ساعات التعليم في مدارس “إمام خطيب” للتعليم الديني، الذي يشمل تعلم القرآن واللغة العربية والسيرة النبوية.

خلف ما سبق يستهدف التعليم المؤدلج، ترسيخ المد الديني، وقال أردوغان -في وقت سابق- “التعليم كله ونظامنا التعليمي هو تنشئة أفراد صالحين فيما يتعلق بالتاريخ والثقافة والقيم.. من أهدافه تشكيل جيل متدين في تركيا ذات الغالبية المسلمة يعمل من أجل بناء حضارة جديدة”.

يأتي التوسع في العليم الديني على حساب تقليص التعليم العلماني الذي يعتبر جزءا من الحياة العامة والسياسية في تركيا، وسار في سياق تاريخي طويل إلى أن تجذر في المجتمع.

وبرغم هيمنة أردوغان على مفاصل السلطة، فالتعليم العلماني الذي اندمج في الحياة العامة والسياسية يمثل شوكة في خاصرة التوجهات الراديكالية لنظام الحكم.

كما أن التعليم العلماني في تركيا يمتاز عن التعليم الديني الذي طرحه كولن ويسعى أردوغان إلى ترسيخه بخصائص تجعل من فرص استمراره هي الأوفر: أهمها أن المدارس العلمانية في تركيا لم تمتد على حيز جغرافي، بل إن المدارس العلمانية هي الوحيدة الممتدة بشكل أفقي ورأسي في كامل الجغرافيا التركية.

كما أن نسبة التأييد للمدارس العلمانية في تركيا تكاد تكون الأعلى بلا منازع، كذلك، لم تكن المدارس الدينية منذ التوسع فيها، ودعمها من الحكومة لتقدم برامج تعليمية منافسة أو مشابهة لبرامج التعليم في المدارس العلمانية من حيث الجودة والكفاءة.

كشفت معايير رئيسية أن المدارس الدينية أقل أداء من المدارس العادية، على الرغم مما تحصل عليه من تمويل إضافي، وأظهرت بعض الإحصائيات أن خريجي المدارس الدينية أقل مستوى من نظرائهم في المدارس العادية.

وأظهر مسح للأداء الأكاديمي نُشر أواخر عام 2016، أن نجاح تلاميذ مدارس “إمام خطيب” أقل من المتوسط على المستوى الوطني.

تمهد محاولات أردوغان تديين التعليم التركي، إلى إحياء حلم دولة الخلافة العثمانية وعصرنتها، وهو ما يصطدم بمعارضة علمانية رغم التضييق عليها، إلا أنها ما زالت تمثل خصماً قوياً لمشاريع التيارات الإسلامية في تركيا على اختلاف اتجاهاتها وتوجهاتها، سواء تلك التي يمثلها أردوغان بنسخة العدالة والتنمية، أو ما يرفعه كولن من شعارات صوفية.

وتظاهر في الأشهر الأخيرة بعض أولياء الأمور أمام المدارس التي تم تحويلها إلى مدارس إسلامية، لأن توسيع التعليم الديني يقوّض من جودة التعليم الضعيف أصلا في تركيا.

وأثار التوسع في التعليم الديني، قلق الأوساط العلمانية، واعتبر آباء علمانيون أن حركة التعليم الإسلامي تسلب موارد وفرصًا من أبنائهم، ناهيك عن ابتعاد المدارس الدينية عن المناهج التعليمية الحديثة، والتركيز على الجوانب النظرية أكثر من التطبيقية.

القصد، أن المدارس الدينية برغم ما تحظى به من رعاية حكومية، فشلت في أن تقدم نفسها حتى اليوم كبديل للتعليم العلماني وتقنع الأسر التركية بجدوى التحاق أبنائهم بها.

لم تقو مدارس “إمام خطيب”، ومدارس “الخدمة” على نزع الشرعية، والخصوصية التي طالما اتسمت بها مدارس التعليم العلماني، مع أن الأولى حرصت على أن يكون تغلغلها ناعما، لكنها لن تستطيع أن تدعي أنها تملك بديلا قويا عن مدارس التعليم العلماني أو القول بأنها الأفضل.

المصدر: كريم سعيد – أحوال تركية

ربما يعجبك أيضا