تباين الرؤى..أي مستقبل ينتظره الاتحاد الأوروبي؟

محمود رشدي

رؤية – محمود رشدي 

يعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ضربة موجعة لفكرة التكامل التي أسستها أوروبا في خمسينيات القرن الماضي، وضربت مثالًا للإرادة السياسية وتفوقها على التباينات الثقافية لحد إزالة الحدود الجمركية وإرساء قواعد لنظام اقتصادي قوي؛ سرعان ما توسع وضم العديد من دول أوروبا الشرقية المنفصلة عن الاتحاد السوفيتي. بيد أن ذلك النموذج واجه صعوبات عدة تغلب على بعضها ووقف أمام الأخرى. والآن، ينتظره مستقبل مخيف قد يتبدد بصعود القومية وأزمة المهاجرين، ومشاكل هيكلية يتماهى أمامها مستقبل التكتل.

يدخل البريكست – خروج بريطانيا من الاتحاد السوفيتي – ضمن سلسلة من الضربات التي تعرض لها خلال العقدين الماضيين؛ الأولى كانت حروب البلقان في التسعينيات، حيث أثبت الاتحاد الأوروبي أنه غير قادر على التعامل مع النزاع دون الاتصال بالولايات المتحدة.

وتمحورت الضربة التالية حول أزمة منطقة اليورو التي طال أمدها، بما أدت لمصاعب اقتصادية حادة في العديد من البلدان، وأثارت استياء كبير بين الدائنين والدول المدينة. أما الضربة الثالثة، هي أزمة اللاجئين لعام 2015، التي كشفت عن انقسامات عميقة داخل الاتحاد وأعطت الحركات القومية اليمينية المتطرفة والقادة غير الليبراليين – مثل ماري لوبان في فرنسا  وفيكتور أوربان في المجر – دفعة قوية.

ناهيك عن المخاوف التي شكلها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومعاداته للاتحاد وتهديداته المتكررة بمغادرة حلف الناتو بما شكلت موجات غاضبة عبر العواصم الأوروبية، ولم يكن ترامب الأول ضمن رؤساء الولايات المتحدة في توجيه الشكوى بصدد تقصير دول أوروبا في تحمل الأعباء المنوط بها، ولكن لم يشكل أحد منهم تهديد حقيقي للانسحاب من الحلف، على عكس ما يمثله ترامب، إذ أن غالبية الأعضاء تحمل هواجس بشأن انسحاب ترامب.

مشاكل هيكلية

تتعلق مشكلة الاتحاد الأوروبي الأولى في غياب الانصهار في سياسة خارجية موحدة، إذ إن التكتل الأوروبي غير قادر على إنتاج سياسة موحدة بشأن المسائل الاستراتيجية الرئيسية ودعم هذه السياسة بالقدرات اللازمة. حاولت بروكسل  صنع مظهر الوحدة من خلال إنشاء وزارة شبه خارجية (خدمة العمل الخارجي الأوروبي) وتعيين ممثل رفيع المستوى للشؤون الخارجية كصوتها الرسمي المفترض.

ولكن في النهاية، توقفت تلك الأماني عند تحذيرات الدول الأعضاء بما ترفضه من غياب صلاحياتها بصنع سياستها الخاصة، ورفضت تزويد دائرة العمل الخارجي أو الممثل السامي بالقدرة على فعل أكثر من مجرد عقد الاجتماعات وإلقاء الخطب.

عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية – وخاصة سياسة الأمن القومي – تظل أوروبا مشرذمة عبارة عن مجموعة من الدول ذات السيادة التي تتباين مصالحها غالبًا، مفتقرة للقوة الصارمة اللازمة لإنجاز الأمور.

فقدان الدور العالمي

بالمرور بعدد من الملفات العالقة على الساحة الدولية، تفتقد أوروبا لدورها مقارنة بالفواعل الدولية الأخرى، إذ توجهت لحلحلة أمورها الداخلية المتزايدة عقب بروز الأزمة المالية العالمية 2008، بما انتقص من دورها المنوط بها عالميًا. 

في حالة الملف النووي الإيراني، ابتعدت إدارة ترامب عن عقد صفقة متعددة الأطراف، وهو قرار فشل الموقّعون الأوروبيون في ثني ترامب عن اتخاذه،  وقاموا ببضع محاولات ضعيفة لإبقاء الصفقة على قيد الحياة. ولكن عندما هددت الولايات المتحدة بفرض عقوبات ثانوية على الشركات أو البنوك الأوروبية التي تتعامل مع إيران، ركضت أوروبا وراء “عنترية” ترامب خوفًأ من تكرار العقوبات الصينية على أوروبا.

هناك الملف الليبي، بما أنها هي نقطة عبور مهمة للمهاجرين واللاجئين الذين يحاولون الوصول إلى أوروبا من مختلف أنحاء إفريقيا، فإن الفوضى المستمرة هناك أيضًا مشكلة خطيرة بالنسبة لأوروبا. لهذا السبب عقدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مؤخرًا قمة في برلين لوضع وقف لإطلاق النار بين الفصائل المتحاربة.

لم تخرج بنود الاتفاقية حيز الحبر الذي كتبت به، إذ تكمن المشكلة الأساسية  في أن لا ألمانيا ولا غيرها لديه القدرة على إنفاذ أي اتفاق قد يتم التوصل إليه في المستقبل، أو حتى تأثير كبير على الأطراف المتحاربة. إلى حد أن القوى الخارجية لها أي تأثير على الوضع الليبي، فهي روسيا  ومصر وتركيا والعديد من دول الخليج، وليس الاتحاد الأوروبي أو أي من أعضائه.

علاوة على ذلك، تتعدد السياسة الأوروبية تجاه جيرانها، فعلى سبيل المثال، تختلف أوروبا تجاه روسيا؛ إذ  يشعر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بقلق متزايد بشأن الصين، ويميل لإصلاح علاقته مع موسكو لإبعادها عن بكين. بينما تهدد تلك السياسة بولندا وبعض الدول في أوروبا الشرقية. كيف يمكن لأوروبا أن تتبنى “سياسة خارجية وأمنية مشتركة” عندما لا تستطيع حتى الاتفاق على نهجها تجاه جار ذي أهمية استراتيجية؟

وعليه، تعد مشاكل أوروبا أكبر من مجرد تضارب المصالح، كما تواجه أيضًا أزمة سكانية طويلة الأمد، وما زال تأثيرها الكامل غير موضع تقدير كامل، حيث حيث يبلغ متوسط ​​العمر فيها 45 عامًا، ومن المتوقع أن ينخفض ​​عدد السكان في سن العمل بحوالي 50 مليون شخص بحلول عام 2035. وفي الشرق، تفاقمت هذه المشكلة بسبب الهجرة، مع توجه الشباب في مكان آخر بحثا عن الفرص الاقتصادية. فقدت كرواتيا 5 % من سكانها منذ عام 2013، ومن المتوقع أن ينخفض ​​عدد سكان بلغاريا الحالي بنسبة 23 % بحلول عام 2050.

يفرض السكان أعباء رعاية صحية أكبر على المجتمعات التي تكون اقتصاداتها أقل إنتاجية و يميل الأفراد الأكبر سنا إلى أن يكونوا أكثر تديناً، وأكثر تعاطفًا مع النداءات القومية، وأقل التزامًا بالمُثُل الليبرالية للاتحاد الأوروبي، مما يخلق المزيد من المتاعب لرؤية الاتحاد الأوروبي.

ربما يعجبك أيضا