جلوبال ريسك انسايتس| استقلال مالي .. ما هى الخطوات التى ستتخذها أوروبا للتخلص من سيطرة أمريكا؟

ترجمات رؤية

ترجمة بواسطة – شهاب ممدوح

 

من الناحية التاريخية، كان لدول أوروبا الغربية، لا سيما فرنسا وألمانيا، مصالح سياسية خارجية غير متوائمة مع مصالح الولايات المتحدة. إن أبرز مثال من التاريخ الحديث على هذا الأمر هو الغزو الامريكي للعراق عام 2003، والذي عارضته رسميًّا كل من فرنسا وألمانيا، فضلاً عن عدد من دول الاتحاد الأوروبي.

مع ذلك، مع انتخاب دونالد ترامب في الولايات المتحدة، والتحول اليميني في السياسة الخارجية الأمريكية، خلقت تلك المصالح المتضاربة عددًا من المشاكل التي لم تعد برلين وباريس قادرة على تجاهلها. وبشكل أكثر تحديدًا، أدّى توسيع العقوبات الأمريكية ضد بلدان مثل روسيا وإيران لتعريض العديد من الأعمال التجارية للشركات الأوروبية في هذين البلدين للخطر. ولحماية شركات بلادهم من التأثيرات المدمّرة لعقوبات الأمريكية، دعا القادة الأوروبيون إلى تعزيز استقلال بلادهم المالي، سيرًا على خطى روسيا.

لقد أخذ التوتر بين أوروبا والولايات المتحدة في التزايد منذ انتخاب ترامب عام 2016. ومؤخرًا، برز الخلاف بين ضفتي الأطلسي في أوضح صوره في النقاشات الدائرة بشأن مسألتين مهمتين في مجال السياسة الخارجية:
1- إعادة فرض العقوبات على إيران ومشروع أنبوب الغاز الرابط بين روسيا وألمانيا، المعروف بالسيل الشمالي
2- تسببت هاتان المسألتان في حدوث حالة استياء على ضفتي الأطلنطي. فبينما ترغب الولايات المتحدة في بيع غازها المسال لأوروبا، وفرض عقوبات اقتصادية شديدة على إيران، تريد ألمانيا الحصول على غاز رخيص من روسيا والتجارة مع إيران.

بالرغم من أن هذه الخلافات المرتبطة بالسياسة الخارجية مستمرة من زمن طويل، لا سيما النزاع بشأن الغاز، بيد أن زيادة استخدام العقوبات الاقتصادية كسلاح تحت حكم الرئيس ترامب، يخلق مخاطر جديدة.

لقد أوضحت العقوبات الأمريكية حقيقة مفادها أنه لا الاتحاد الأوروبي ولا دوله لديهم أية وسيلة لحماية مصالح شركاتهم في الخارج. لا توجد هناك آلية مالية أوروبية تجعل الشركات تشعر بالحماية من أي تغير مفاجئ في السياسة الخارجية الأمريكية. ونتيجة لذلك، تفضّل العديد من الشركات الأوروبية التخلّي عن مشاريعها شبه المنتهية في بلدان خاضعة للعقوبات، على أن تُخاطر بخلق مشاكل لنفسها في الولايات المتحدة.

خيارات أوروبا
أدركت كل من باريس وبرلين سريعًا أن هناك شيئًا أساسيًا تغيّر في علاقتهما مع واشنطن، وبالتبعية، دورهما في العالم. إن النظام الذي تأسس عقب الحرب العالمية الثانية، المبني على التعاون العالمي والمؤسسات المتعددة الجنسيات، تعرّض لتآكل بطيء- يمكن القول إن هذه عملية تاريخية لا مفرّ منها، وقد تسارعت خطاها بفضل انتخاب ترامب رئيسًا. وردًا على ذلك، شدّد وزير الخارجية الألماني "هايكو ماس" على الحاجة لتعزيز استقلال أوروبا وسيادتها في التجارة والسياسة المالية والاقتصادية.

وذكر "ماس" خلال افتتاح مؤتمر السفراء السادس عشر في برلين ما يلي: "نحن نعمل على اقتراحات لكيفية جعل قنوات وأنظمة الدفع مثل نظام "سويفت" أكثر استقلالية، وكيفية إنشاء صندوق عملات أوروبي".

في الشهر السابق، تحدث وزير المالية الفرنسي "برونو لي ماير" عن فرنسا وتصميمها على العمل على استحداث آلية مالية أوروبية مستقلة، أو حتى فرنسية – ألمانية، يمكنها المساعدة على تفادي أية تأثيرات ضارة من العقوبات الأمريكية المتجاوزة لحدودها الأقليمية. وشدّد الوزير الفرنسي بالقول: "أرغب في أن تكون أوروبا قارة سيّدة، وليست تابعة، وهذا يعني امتلاكها أدوات تمويل مستقلة تمامًا غير موجودة اليوم".

إن فكرة الاستقلال فيما يخص السياسة المالية هو أمر ذو أهمية كبيرة في سياق مسألتي السياسة الخارجية السابق ذكرهما: السيل الشمالي 2، وإيران. ويتمثل التحدي الأكبر لأوروبا في إيجاد وسيلة لحماية الأعمال الأوروبية من التأثيرات المدمرة المحتملة للعقوبات الأمريكية. بالتالي، تعمل ألمانيا وفرنسا الآن على إنشاء قناة دفع دولية أوروبية تكون مستقلة عن الولايات المتحدة.

ونظرًا إلى تعرّض أي بنك تجاري أوروبي يجري معاملات مالية مع إيران للعقوبات الأمريكية، كان هناك اقتراحان بديلان بشأن كيفية إجراء تلك المعاملات مع الكيانات الخاضعة للعقوبات. أحد الاقتراحين يتمثل في استخدام البنوك المركزية. وفقًا لهذه الخطة، يتصرف البنك بوصفه صندوق استثمارات من دون استثمار أي أموال. ستتمثل مهمة البنك المركزي الوحيدة في جمع الأموال لصالح كل المعاملات المخطط لها، ومراجعتها، ومن ثم إرسالها إلى إيران، حيث ستجري إعادة توزيع المدفوعات الفردية على المتلقين المستهدفين.

وتعتبر البنوك المركزية المنخرطة في تلك المعاملات منتهكة لنظام العقوبات مثلها مثل البنوك التجارية، ومن المحتمل أن تواجه التداعيات ذاتها. الفكرة هي أن إدارة ترمب لن تذهب إلى حد فرض عقوبات على البنك المركزي التابع لدولة حليفة، وهو لو حدث ربما سيكون ذريعة للأوروبيين لإنشاء كيان مصرفي مؤمّن يتجاوز قضية إيران.

الخيار الآخر  يتمثل في إنشاء نظام دفع أوروبي (كيان لأغراض محددة) سيكون مستقلاً عن نظام الدفع الدولي المهيمن حاليًا والمعروف باسم "سويفت". سيكون لهذا النظام وظائف مماثلة، لكن من دون تدخل الإدارة الأمريكية.

لقد أشارت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي "فريدريكا موغريني" بالفعل إلى أن عددًا من الدول الأوروبية ستنشئ كيانًا ماليًا وسيطًا متعدد الجنسيات ومدعومًا من الدولة للعمل مع الشركات المهتمة بإيران. ونظرًا إلى أن الولايات المتحدة لن تكون لديها طريقة لمعرفة الجهة التي تقوم بصفقات مع إيران عبر هذا الكيان ذي الغرض المحدد، فسيكون من الصعب عليها إيجاد الأسباب التي تجعلها تفرض عقوبات على تلك الجهة أو غيرها.

أوروبا تتبع سياسات روسيا
المفارقة هي أن أوروبا باتت الآن تتبع سياسات يبدو أنها مماثلة لتلك التي اتخذتها روسيا بعد عام 2014. ففي أعقاب عملية ضم القرم وما تلاها من عقوبات أمريكية، سارعت روسيا بالردّ عبر إنشاء نظام دفع روسي للتخفيف من السلطة التي تملكها واشنطن على معاملاتها المالية.

أطلقت روسيا بنجاح نظام "مير" للدفع في إبريل 2015. وبالإضافة إلى نظام المدفوعات، أنشأت موسكو أيضا مصرفًا مصممًا تحديدًا لحماية صناعتها الدفاعية من أية عقوبات أمريكية جديدة.

في نوفمبر 2017، وردًا على ضغط عقوبات وزارة الخارجية الأمريكية، أنشأت روسيا قائمة لتحديد كل المصارف التي تموّل شركات في قطاع الصناعات العسكرية والدفاعية. لاحقًا، اختارت الحكومة الروسية أحد أكبر المصارف الروسية "برومسفياز بانك"، والذي أمّمه البنك المركزي الروسي في ديسمبر، باعتباره "مصرف الدفاع" الجديد لروسيا. جرى تحويل المصرف بعد ذلك لملكية الحكومة وإعادة تمويله – ونظرًا لأن هدف المصرف الوحيد هو خدمة قطاع الدفاع الروسي، وامتناعه عن إجراء أي معاملات مالية مع الولايات المتحدة، فقد أصبح البنك محصنًا ضد العقوبات الأمريكية.

من غير الواضح إلى أي اتجاه محدد ستذهب ألمانيا وفرنسا للالتفاف على العقوبات الأمريكية، لكن التزامهما بتحقيق الاستقلال المالي واضح، ويبدو أن موسكو سعيدة بالوضع الراهن في أوروبا. بالنسبة لروسيا، سيكون من الأسهل عليها إقناع فرادى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بإسقاط العقوبات، بدلاً من إقناع الكتلة بأكملها المكوّنة من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

ولطالما كانت روسيا تشكو من أن أوروبا تتلقى الأوامر من واشنطن، لكن مع وجود قنوات مالية مستقلة، فقد تتعامل الدول الأوروبية مع روسيا بشروطها الخاصة. بالرغم من أن هذا سيعتمد على مستوى الإجماع السياسي داخل أوروبا. السؤال الآن هو: هل سيكون الاتحاد الأوروبي، المكوّن من 28 دولة عضو، قادرًا على صياغة سياسة موحّدة تجاه روسيا؟ هذا الأمر يبدو غير مرجّح حتى الآن. والسبب أن الاتحاد الأوروبي هو تجمّع لدول لديها تجربة تاريخية متفاوتة للغاية مع روسيا. وقد أسفر هذا عن وجود مزيج من المواقف تجاه الجار الشرقي، تتراوح بين عداء بولندي شرس لروسيا، وسياسة أكثر برغماتية تتبعها دول مثل إيطاليا والمجر.
 

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا