ذا ويك: هل تقف أوروبا أمام نقطة تحول اقتصادي؟

ترجمات رؤية

ترجمة بواسطة – شهاب ممدوح

تفاجأت معظم دول منطقة اليورو بتفشي جائحة كورونا، وعانت كلٌّ من فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وحتى ألمانيا معاناة شديدة من تفشي الوباء، ومع ذلك فإن الفيروس في طريقه لأن يتم احتواؤه إلى حد كبير.

بدأت دول منطقة اليورو الآن في التعامل مع الآثار الاقتصادية الناجمة عن الجائحة، وهناك بصيص أمل مفاجئ لأن تتمكن هذه الدول من إصلاح المؤسسات الاقتصادية المتعثرة وإجراءات التقشف التي خنقت اقتصاد المنطقة منذ عام 2008. هذا الأمر غير مؤكد تمامًا، لكنه يُعدّ أفضل فرصة منذ سنوات، ونقطة تحول رئيسية محتملة في مسار الاتحاد الأوروبي.

دعوني أعطيكم خلفية تاريخية: على مدار عقد من الزمن، كانت منطقة اليورو في قبضة التقشف، وبعد الأزمة الاقتصادية الأولية في عام 2008، سقطت في أزمة ديون ليست بسبب الديون نفسها، ولكن بسبب القيود السياسية لهيكل منطقة اليورو.

ووفقًا لـ “ستيف راندي ولدمان”، فإن أزمة منطقة اليورو التي كانت تتطلب بوضوح استجابة على نطاق المنطقة، جرى تحميلها لمجموعة من أكباش الفداء. اقترضت بلدان مثل إيطاليا واليونان أموالاً كثيرة أثناء العقد السابق، لكنها تلقت تشجيعًا للقيام بهذا من جانب مصارف في شمال أوروبا، لا سيما فرنسا وألمانيا.

استثمرت هذه المصارف ذاتها أيضًا بكثافة في سندات رهن عقاري أمريكية، والتي اتضح لاحقًا أنها مليئة بمخلفات سامة، والأهم من هذا أنها كانت مقوّمة بالدولار. بينما تستطيع الولايات المتحدة أن تقترض وتطبع دولارات كما تشاء لإنقاذ مصارفها، ولا تمتلك أوروبا الغربية (بعكس الصين وروسيا) دولارات كثيرة للدفاع عن نفسها. برز بسرعة في القارة نقص في الدولار، بعد أن حاولت المصارف توفيق أوضاعها. وبحلول عام 2009، كانت هناك أزمة عملة يورو- دولار تلوح في الأفق، وبعدها حصل انهيار فوضوي للنظام المصرفي الأوروبي.

كان القيام بنوع من الإنقاذ المصرفي أمرًا حتميًّا، بيد أن إنقاذ المصارف من آثامها من دون عقاب أو حساب في العلن، كان يمكن أن يكون غير مستحب إطلاقًا؛ لذا اختارت نخبة نطاق اليورو إنقاذ المصارف عبر توجيه الأموال عبر دول هامشية، لا سيما اليونان. حصل ذلك البلد على “إنقاذ مالي” عام 2010، لكن جميع الأموال تقريبًا ذهبت مباشرة إلى مصارف ألمانية وفرنسية لإزالة القروض اليونانية من دفاترها. في غضون هذا، منع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي حدوث أزمة عملة عبر منح المصرف المركزي الأوروبي (ودول عديدة أخرى) السلطة لتبادل عملات اليورو المطبوعة بدولارات. هذان البرنامجان، اللذان حظيا باهتمام قليل، سمحا لدول منطقة اليورو الغنية بإنقاذ مصارفها.

بعد ذلك، ومن أجل أن تتظاهر نخبة منطقة اليورو بأنها لا تسعى فقط لإنقاذ أصدقائها المصرفيين الحمقى، وللحفاظ على أكذوبة السياسة الليبرالية الجديدة، فرضت هذه النخب بالقوة إجراءات تقشفية سامة على اليونان. جرى توجيه اللوم في هذه المشكلة على السلوك اليوناني اللا مسئول، وهو ما يجب أن يجري تعويضه عبر زيادة الضرائب بشكل هائل وإجراء تخفيضات مؤلمة للغاية على برامج اجتماعية.

أدّى هذا لتحطيم الاقتصاد اليوناني، الذي انكمش بنسبة 28 بالمائة بحلول عام 2015. وارتفعت البطالة إلى نسبة 28 بالمائة تقريبًا. هذا بدوره فاقم من مشكلة الديون ولم يخففها، إذ انكمش الاقتصاد اليوناني بوتيرة أسرع من عبء الديون، ولم يقترب الاقتصاد اليوناني حتى من التعافي عندما تفشى الوباء.

كانت التداعيات الاقتصادية الأوسع نطاقًا كارثية حيث عانت منطقة اليورو بأكملها من حالة كساد متوسطة لعقد من الزمن، إذ كان أداء دول مثل ألمانيا وفرنسا ضعيفًا، بينما كان الكساد في دول مثل اليونان وإسبانيا وإيطاليا مماثلًا لكارثة كساد ثلاثينيات القرن الماضي. والرسم البياني التالي يقارن بين نسبة النمو المعدّلة وفقًا للتضخم في منطقة اليورو (باللون الأحمر) ونظيرتها في الولايات المتحدة (باللون الأزرق)، ويُظهِر الرسم التغير منذ الربع الثاني لعام 2009. حتى الربع الأخير من عام 2019، نما الاقتصاد الأمريكي بنسبة 27 بالمائة، بينما نما اقتصاد منطقة اليورو بنسبة 15 بالمائة فقط؛ وهو متوسط سنوي ضئيل يبلغ 0.98 بالمائة في تلك الفترة.

ومن المهم أيضًا تذكر أن سجل النمو في الولايات المتحدة نفسه كان سيئًا في تلك الفترة، محقِّقًا نسبة 15 بالمائة، وهو أقل من الاتجاه السابق الذي ساد في الفترة بين 1945 – 2007. غير أن ما كانت تحتاجه منطقة اليورو بوضوح في الفترة بين 2009-2010، كان إلغاء الديون غير القابلة للسداد (والذي كان من الممكن أيضًا أن يبعث بإشارة إضافية للدول وقادتها لأن يكونوا أكثر حذرًا في المستقبل)، وإعادة هيكلة بنوكها الفاسدة، وضخ حزمات تحفيز كبيرة لدعم العمالة والنمو، ربما بتمويل من سندات على مستوى منطقة اليورو بأكملها.. جميع تلك الإجراءات كان من المحتمل أن تهزم الطرف الأمريكي الكسول بسهولة، لكن عوضًا عن هذا ازداد الأمر سوءًا.

مع هذا، يبدو أن جائحة فيروس كورونا كسرت، ولو مؤقتًا، عقلية التقشف. واضطرت دول في عموم القارة لإنفاق مبالغ مالية هائلة لإبقاء اقتصاداتها في حالة سكون أثناء فترة الإغلاق. مُولت هذه البرامج عبر الاقتراض، كما خفّض المصرف المركزي الأوروبي معدلات الفائدة في منطقة اليورو، وبدلًا من أن تتسبب هذه الإجراءات في حدوث ذعر مصرفي، ما يؤدي لتحطيم الحكومات اليسارية، كما حصل في اليونان عام 2015، عززت من شراء الديون الحكومية، مثلما يجب أن يفعل أي مصرف مركزي في أزمة. المدهش أن الاتحاد الأوروبي بأكمله – الذي يضم 27 دولة وليس 15 دولة فقط عضوة في منطقة اليورو- بات يفكّر الآن في تقديم حزمة مساعدات قدرها 2 تريليون دولار لمكافحة فيروس كورونا، بتمويل من سندات مدعومة من الاتحاد الأوروبي بأكمله. ولو جرت الموافقة على هذه الحزمة (ما يتطلب تصويتًا بالإجماع) سيكون الهدف هو تخفيف الضرر على الدول الأكثر تضررًا من الفيروس، والسماح لها بإنفاق المزيد من دون زيادة ديونها السيادية.

الآن، اعترضت المحكمة الدستورية الألمانية مؤخرًا على حكم أصدرته محكمة العدل الأوروبية مفاده أن برنامج شراء السندات الذي قام به المصرف المركزي الأوروبي قانوني، وبذلك وضعت المحكمة الألمانية عائقًا قانونيًّا محتملًا في دعمها لأسواق الديون في منطقة اليورو. هذا يزيد من احتمال قيام المحافظين الألمان، الذين كانوا القوة السياسية الأساسية وراء إجراءات التقشف، بمنع تمرير الإصلاحات والمساعدات المالية لمواجهة فيروس كورونا. بالنسبة للأسس التي استند عليها حُكم المحكمة الدستورية الألمانية، فهي أن المصرف المركزي الأوروبي تجاوز سلطته القانونية، وهو أمر صحيح ومستمر منذ سنوات. ووفقًا للمعاهدات الأوروبية، لا يُفترض للمصرف المركزي الأوروبي أن يتدخل في السياسة، لكنه ربما كان المؤسسة السياسية الأكثر تدخلًا في القارة في العقد الماضي، لكنه الآن يتدخل بطريقة مفيدة بدلًا من التصرف بوصفه البلطجي المُمسك بعصا التقشف.

إن الردّ على الحُكم القضائي الألماني ربما يكون عبر إصدار معاهدة أو تسوية قانونية جديدة تُخضع المصرف المركزي الأوروبي للمراقبة الديمقراطية. هذا، بالإضافة إلى إنشاء سندات للاتحاد الأوروبي أو منطقة اليورو، قد يكون الخطوة الأولى نحو ديمقراطية اقتصادية حقيقية في القارة. إن “استقلال” المصرف المركزي هو استحالة سخيفة؛ إذْ إن جميع المصارف المركزية هي سياسية بطبيعتها. ولو كانت السلطات المنتخبة ديمقراطيًّا هي المُشرفة على سلطة المصرف المركزي الأوروبي، بدلًا من نخب مرتبطة بأصحاب المال، فستزداد كثيرًا فرصة استخدام هذه السلطة من أجل الخير وقبول الشعوب الأوروبية قرارات المصرف المركزي الأوروبي بوصفها شرعية.

يقف المشروع الأوروبي الآن على مفترق طرق، فالفكرة الأساسية للاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو كانت نزع فتيل المشاعر القومية التي أشعلت أسوأ الحروب في التاريخ. كانت الحجة أن أوروبا الأكثر ارتباطًا ببعضها ستكون أقل خطرًا، غير أن فشل النخبة وإجراءاتها التقشفية أجّجت من جديد نيران القومية اليمينية في عموم القارة. خسر الاتحاد الأوروبي بالفعل دولة عضوة، وفي حال واصل السير على درب الركود الاقتصادي والتقشف المستبد في مرحلة ما قبل الأزمة، فسيخسر الاتحاد أعضاءً آخرين.

تمثل الجائحة فرصة لإصلاح هذا الضرر. لقد اتضح أن اليونان، التي تعاملت مع الجائحة بطريقة أفضل بكثير حتى من ألمانيا، لديها الكثير لتعلّمه لجيرانها، وربما لا يحصل المواطنون وصنّاع القرار الأوروبيون على فرصة أخرى لإنشاء اقتصاد أوروبي يعمل لصالح جميع الأوروبيين، وأنا أنصحهم بانتهاز تلك الفرصة.  

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا