عبدالرحمن مخلوف.. مهندس مصري خطط مدينة أبوظبي بقلبه وروحه

في ستينات القرن الماضي، وصل المهندس المصري، عبدالرحمن مخلوف، إلى مدينة أبوظبي، في حين كان حاكمها، آنذاك، الشيخ زايد بن سلطان، يزور سويسرا.

أجرى مخلوف مسحًا للمدينة الناشئة، ووضع مخططات تقريبية لتطويرها، وعندما علم بعودة الشيخ زايد توجه إلى المطار لاستقباله. وكان الوحيد الذي حضر مرتديًا بذلة رسمية، فلما صافحه الشيخ زايد، تساءل: من هذا الرجل؟

من هو عبدالرحمن مخلوف؟

المهندس عبد الرحمن مخلوف

ولد عبدالرحمن مخلوف عام 1924، لوالده الشيخ حسنين مخلوف، الذي كان مفتيًا للديار المصرية، وحفيد الشيخ محمد حسنين مخلوف، عضو هيئة كبار العلماء منذ تأسيسها عام 1911.

ونشأ عبدالرحمن في أسرة درس أغلب أفرادها في الأزهر، وأراد والده أن يكمل ذاك النهج، إلا أنه سلك طريق التعليم الحديث، بدعم من إخوته الكبار، فدرس الهندسة في جامعة القاهرة، وكان شغوفًا برسم التصميمات العمرانية، خصوصًا المساجد القديمة في عصر الفاطميين والأمويين والأيوبيين.

كيف بدأت الرحلة إلى أبوظبي؟

تخرج مخلوف عام 1950، ثم نال شهادة الدكتوراه من جامعة ميونيخ عام 1957، والتحق بالعمل في هيئة الأمم المتحدة، كخبير لتخطيط المدن. وفي العام 1968، طلب الشيخ زايد من الأمم المتحدة إرسال خبير لتخطيط المدن، للمساعدة في إعداد المخطط العام لمدينة أبوظبي، فرشحت مخلوف للمهمة.

وعن لقائه الأول بالشيخ زايد، يروي مخلوف: “عندما سلمت عليه، بادرني بالقول والبشاشة تعلو وجهه (إيش ناوي تسوي.. تعطي لنا خرائط، وتقول يجب تنفيذها.. أم ترسم ما نبغاه يا دكتور؟” فرد: “يا صاحب السمو لكل خارطة بدائل كثيرة.. فاختاروا منها ما يناسبكم وما نتفق عليه”.

وسر حاكم أبوظبي بـ”الرد الدبلوماسي” للمهندس المصري، وأصدر مرسومًا أميريًّا بتعيينه مديرًا لتخطيط المدن في إمارة أبوظبي، وكلفه بتأسيس دوائر تخطيط المدن في أبوظبي والعين، خلال الفترة من 1968 إلى 1976.

مسافات متسعة وحدائق عامة

عند تأسيس مدينة أبوظبي، اهتم مخلوف بترك مساحات كبيرة من الحدائق العامة، وزيادة المسافات الفاصلة بين المباني المتقابلة، لخلق المرونة المرورية في الشوارع. وخطط لطرق واسعة بصورة جعلت البعض ينتقده حينها، وعندما سئل عن السبب، قال إن المدينة بدأت الآن فقط، ولكن لا بد من دراسة كثافة استخدام السيارات ووسائل النقل لمدة لا تقل عن 100 عام مقبلة.

وبرر المهندس المصري موقفه بأن إنشاء الطرق الواسعة مكلف نسبيًا في حينه، ولكن علي المدى البعيد يوفر مبالغ طائلة، تتجنب خلالها المدينة الإزالات والتعويضات الباهظة.

وحفر مخلوف قناة حول جزيرة أبوظبي لتسيير الملاحة، وعمّق المياه الضحلة لتخفيف نسبة الرطوبة، واستخدم نتائج الحفر في كسب أراضٍ عمرانية بالجزيرة، ما أضفى عليها طابع جمالي حتى أنها اختيرت عام 2005 واحدة من بين أجمل المدن العربية.

التخطيط بالقلب والروح

استطاع مخلوف أن يفهم فكر الشيخ زايد، ويترجم رؤيته الحكيمة إلى مخططات معمارية واضحة، كما يقول وكيل دائرة الشؤون البلدية بدولة الإمارات، أحمد محمد الشريف. في حين وصفه المدير العام لمجلس أبوظبي للتخطيط العمراني، فلاح الأحبابي، بأنه خطط المدينة بقلبه وروحه، ما ساعد في التنمية وتطوير الاقتصاد.

وكان الشيخ زايد يفضّل الخطوط المستقيمة، وعندما سأله مخلوف عن السبب، أدرك أنه كان يحب الذهاب للأماكن على عجل. ويروي مخلوف أن مؤسس دولة الإمارات، قال له حينها: “أعرف مكاني، وأعرف أين أريد أن أذهب، فلماذا لا استخدم خطًا مستقيمًا بين النقطتين؟ نريد عاصمة، ونحن في حاجة إلى الوصول إلى هناك في أقرب وقت ممكن”.

مواكبة العصر والالتزام بمرتكزات الحضارة

أبوظبي

شارك الشيخ زايد في تسمية الطرق الرئيسة في شوارع أبوظبي، واختار الأسماء المعروفة الآن في الإمارة، التي تحمل في مجملها دلالات على أهدافه نحو أبنائه ووطنه، كما أوضح مخلوف، في حوار صحفي، والمؤسس يطلب مراعاة أن تجمع أبوظبي وعمارتها بين مواكبة العصر والالتزام بمرتكزات حضارية إسلامية عربية تاريخية.

الغرام بالخليج

قبل التخطيط لإمارة أبوظبي، عمل مخلوف في مدن بالسعودية، مثل مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة. لذلك كان على دراية بالخليج. وكان مغرمًا بتلك المنطقة، وتعلق بحكامها وشعبها، واستطاع استيعاب المتغيرات العمرانية، ما مكّنه من أن يصبح واحدًا من أكثر مخططي المدن دراية بدهاليز المنطقة وتفاصيلها الجغرافية، حتى ارتبط اسمه بعدد من مدنها.

ويروي مدير قسم المشروعات السابق بمكتبة الإسكندرية، خالد عزب، أن مخلوف وضع أسس تطوير هذه المدن، وفق الامتداد الأفقي الذي كان يفضّله علي الامتداد الرأسي، الذي يراه غير مناسب للأجواء الحارة والصحراوية، وأن التجربة ترجح بناء المنازل بما لا يتجاوز 5 طوابق، وأن الامتداد الأفقي إذا أحسن تخطيطه مع حركة الهواء، فإنه يقلل استخدام الطاقة في التبريد.

هذا ما رآه في الشيخ زايد

الشيخ زايد بن سلطان

يتحدث مخلوف في كتابه “رحلة العمر مع العمران”، عن الشيخ زايد، قائلًا: “بمجرد وقوع نظري في نظر الشيخ زايد، ومصافحته استقبلني ذلك الاستقبال الحار، وأكرمني كل ذلك الكرم، الذي تجلى في الحفاوة المبالغ بها، وبعدها عرفت أنه يستقبل ضيوفه كلهم بهذه الحفاوة والكرم النابعين من طبيعته الأصيلة، من دون تفريق بين أحد منهم لمنصبه أو مكانته الاجتماعية”.

ويضيف: “من خلال عشرتي معه، التي امتدت لأكثر من 30 عامًا، وقفت على جوانب كثيرة من شخصيته… كان في محياه القوة والمهابة، وهذه الصفات يدركها كل من يلتقيه للوهلة الأولى. كان يشع بالجاذبية والبشاشة، وترى هذه الصفة لا تفارقه، وهو في أكثر حالات التعب والإرهاق، فكان رغم المشاغل العظيمة بشوشًا مبتسمًا، يلقي عليك الأنس والراحة والسكينة”.

تكريمه بجائزة أبوظبي

رئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد

كرم رئيس الإمارات، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، المهندس عبدالرحمن مخلوف، وأهداه جائزة أبوظبي عام 2010، تقديرًا لمساهمته في بناء النهضة العمرانية التي شهدتها الإماراة.

وبعد رحيل مخلوف في ديسمبر 2021، دشنت أبوظبي شارعًا باسمه محاذ لمبنى بلدية أبوظبي، تقديرًا لإسهاماته في تخطيط مدينة يضرب بها المثل في الراحة والذوق والعصرية.