على أعتاب 2020.. “تشرين العراق” لن تكسره عصا الملالي

دعاء عبدالنبي

كتبت – دعاء عبدالنبي 

“يا عالم ناديتك فاسمع.. ثورتنا ثورة بطولية.. لا ثورة دين أو مذهب.. بل ثأرًا للإنسانية.. نحن فدينا العالم أجمع.. نصنع ملحمة الأحرار.. يضربنا الهاون والمدفع..  ثوار تتبع ثوار.. يا عالم ناديتك فاسمع”.

هكذا خرج مئات الآلاف من العراقيين محتجين على أوضاعهم الاقتصادية والسياسية، رافعين رايات “لا للطائفية”، رافضين التدخل الإيراني في شؤونهم رغم أيادي البطش، التي استهدفت أرواحًا طالبت بالحرية وقطع رؤوس فاسدين نهبوا ثروات العراق بعدما استولوا على السلطة منذ 2003 ولا زالوا مستمرين.

الفساد يشعل الفتيل

منذ بداية العام شهدت العراق أحداثًا شتى، بداية من غرق عبارة الموصل ومقتل العشرات وشُحّ المياه وتدهور الأوضاع المعيشية بسبب فساد المسؤولين، وما تلاه من انفلات أمني تسبب في وقوع تفجيرات في بغداد وكربلاء ومدن أخرى، فضلًا عن توغل الموالين لإيران في المؤسسات العراقية، فأثرت سلبًا على أوضاع العراقيين الذين عانوا من ويلات الحرب لسنوات وفساد تخطى المليارات وإرهاب فتح المجال للتدخلات الأجنبية. 

المواطن العراقي لم يعد يتحمل مسيرة الفساد التي ابتلعت في مسيرتها مليارات الدولارات منذ عام 2003، والتي بلغت نحو 450 مليار دولار، أما البطالة فقد وصلت لمستويات متفاقمة، وبلغت أكثر من 40% بحسب صندوق النقد الدولي، فضلًا عن انعدام الصناعة وانهيار البنى التحتية وتفاقم المشكلات الأمنية.

وفي المقابل، تشكل الموارد النفطية العراقية 89% من ميزانيته، و99% من صادراته، لكنها تؤمن 1% فقط في العمالة، ليطارد الفقر ربع العراقيين بنسبة تزيد عن 22%، ويصل في بعض المناطق إلى 31%، رغم أن حجم احتياطات النفط في العراق تصل إلى 112 مليار برميل.

واليوم بات الفساد المالي يستنزف نحو 25% من المال العام، في وقت تتناول فيه وسائل الإعلام حوالي 800 ملف من قضايا الفساد قيد التحقيق، ليصنف العراق في المرتبة 169 من أصل 180 دولة في سجل الفساد منذ 2003.

ويعزو الكثير من المطلعين على المشهد السياسي العراقي تدهور الأوضاع عمومًا إلى المحاصصة، التي شجعت الأحزاب على اسـتغلال تخصيصات موازنة الدولة ليغرق الكثيرون في الفساد، إضافة إلى استغلال طابع التخادم الحزبي لبعض المؤسسات مما جعلها في منأى عن الرقابة، لتتفاقم بها حالات فسـاد جعلت البرلمان العراقي الأسوأ عبر التاريخ.

كل ما سبق كان كفيلًا بخروج العراقيين للتظاهر في بغداد ومدن أخرى احتجاجًا على ممارسات يرون أنها تستنزف ثروات بلادهم، فضلًا عن التدخل الإيراني السافر في شؤون العراق ونهب ثرواتها عبر ميليشياتها المُسلحة وسيطرتها على المشهد السياسي بأكمله.

عملاء إيران وصناعة القرار 

منذ سقوط نظام صدام حسين في 2003، هناك اتهامات تلاحق الحكومات العراقية المتعاقبة بتواطؤها مع طهران، التي بدأت تتوغل في صناعة القرار داخل المؤسسات العراقية  وخاصة السلطة التنفيذية.

اتهامات عززتها وثائق مسربة لصحيفة “نيويورك تايمز”، رصدت وضع العراق بين عامي 2014 و2015، وأفادت بأن طهران عولت على الوزراء في الحكومات العراقية المتعاقبة، وكان أبرز المتواطئين لطهران رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، ووزير داخليته بيان جبر، ورئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي، ليلتحق بهما مؤخرًا رئيس الوزراء المستقيل عادل عبدالمهدي بعد زيارة سرية لـ”قاسم سليماني” لدعم بقائه في السلطة.

وبالإضافة لرؤساء الحكومة، كشفت الوثائق وجود علاقات سرية بين إيران ومسؤولين عراقيين سياسيين وأمنيين وعسكريين، دفعها في النهاية لتعيين مسؤولين رفيعي المستوى في العراق، ليصبح لطهران اليد العليا في صناعة القرار داخل العراق وخارجها، بعدما أكدت الوثائق استخدام طهران للأجواء العراقية لتمرير المساعدات العسكرية للنظام السوري.

وإلى جانب الزائر الدائم في العراق، وهو الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني الذي كان يجوب بجولاته ليجتمع مع القادة العراقيين، كان لطهران وسائل أخرى تمثلت في تجنيد جواسيس لها لكشف خبايا وأسرار الاستخبارات الأمريكية وتحركات الساسة العراقيين.

وخلال عقدين تمكنت إيران من التوغل بكافة مفاصل الدولة العراقية، التي تحولت مؤخرًا إلى رئة يتنفس من خلالها الاقتصاد الإيراني المنهك والمحاصر دوليًا، هذا بالإضافة إلى استخدام إيران لتشكيلات الحشد الشعبي كقوة موازية للجيش تقوم بقمع وقتل وخطف وتعذيب المتظاهرين كما أثبتت الوثائق السرية المُهربة.

ثورة تشرين: يسقط النظام

كل ما سبق كان كفيلًا بانطلاق ثورة تشرين بخروج الآلاف من الحشود الغاضبة مطلع أكتوبر الماضي، وهي ليست الأولى من نوعها ولكنها الأكثر دموية، وفقًا للإحصاءات الرسمية لعدد القتلى والجرحى، لتتحول ميادين العراق لساحة حرب بدأت بالاحتجاج على أداء الحكومة والمطالبة بتحسين الخدمات، وتصاعدت إلى إسقاط النظام العراقي كله بعد استخدام الرصاص الحي والقنابل الإيرانية لوأد صوت العراقيين.

لوهلة، توقعت الحكومة إنهاء الاحتجاجات برزمة من الإصلاحات، ولكنها أخطأت في تقدير المشهد العراقي الرافض لسياسات النظام وطائفيته، فسعت حكومة عادل عبدالمهدي للتمسك بمنصبها حتى آخر لحظة ولو كان الثمن حياة العراقيين.

وعلى وقع الاحتجاجات المشتعلة، استخدم الرصاص الحي والقنابل الإيرانية والغاز المسيل للدموع وأسلحة أخرى مُحرمة دوليًّا، من قبل مجهولين أطلق عليهم فيما بعد الطرف الثالث المندس، ليصل عدد قتلى العراق إلى أكثر من 5 آلاف قتيل و20 ألف جريح.

ومع ارتفاع عدد القتلى، فاحت رائحة الميلشيات الإيرانية والموالين لها بالتآمر ضد الشعب العراقي والسعي لقنصهم في محاولة لتكرار ما حدث في الاحتجاجات الإيرانية، التي استخدم فيها نظام الملالي أساليب القمع والقتل والاعتقالات لوأد الاحتجاجات، وتصاعدت مؤخرًا في اختطاف واغتيال الناشطين العراقيين.

تقارير استخباراتية أمريكية كشفت الدور الكبير الذي لعبه قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، واجتماعه بالمسؤولين العراقيين مؤخرًا لإنهاء الاحتجاجات العراقية وضمان بقاء عبدالمهدي في السلطة، لكن تسريبات الخطة الإيرانية أشعلت المحتجين المحتجين الرافضين لتدخل النظام الإيراني في شؤون العراق، وثارت ضد الحكومة المتخاذلة التي أمرت بإطلاق النار ضد المتظاهرين.

مساومات تنتظر الحكومة

تصاعد وتيرة العنف دفعت حكومة عبدالمهدي لتقديم استقالتها، لكن لم يكن لهذا القرار سوى تأثير بسيط على المواجهة والمساومة بين الشارع والفصائل الحاكمة، لتبدأ رحلة البحث عن ترشيحات لرئاسة الحكومة، وسط إصرار ورفض قاطع لكل المنتمين للأحزاب السياسية.

وفي محاولة الحفاظ على النفوذ، تقدم نحو 48 مُرشحًا لرئاسة الحكومة، كان على رأسهم وزراء سابقين أمثال “محمد شياع السوداني” و”قصي السهيل”، لكن انتماء تلك الأسماء لأحزاب موالية لإيران كانت كفيلة برفض الشارع لها.

من جانبه، سعى الرئيس العراقي برهم صالح لإنقاذ الأزمة عبر تنفيذه لبنود الدستور الذي ينص على اختيار الكتلة الأكبر لتشكيل الحكومة، لكن الأزمة تفاقمت حول الاتفاق على تحديدها سواء من خلال التحالفات أو نسبة نجاحها في الانتخابات.

ولحل الإشكالية قام مجلس النواب العراقي برئاسة محمد الحلبوسي بتمرير قانون الانتخابات والذي يعد المطلب الثاني للثوار، ولكن مع تجاوز النقاط الخلافية والتي تتمثل بإبقاء الأحزاب التي تمتلك ميليشيات مسلحة وموالية لطهران، الأمر الذي أدى لتصاعد الاحتجاجات ورفض القانون والمطالبة بحل مجلس النواب.

المرجعية الدينية أعلنت سابقًا عدم مشاركتها في أي مشاورات أو مفاوضات وسحبت يدها من مباركة أي اسم يطرح، خلافًا للسنوات الـ16 الماضية، أما التيار الصدري فأكد أنه لن يكون جزءًا من صفقة النخبة الجديدة التي ترشح رئيس الوزراء المقبل دون الحصول على موافقة المحتجين.

ليبدأ احتدام الصراع حول الكتلة الأكبر بين كتلة “سائرون” و”تحالف البناء” الذي قام بترشيح “أسعد العيداني” محافظ البصرة” بديلًا لـ”قصي السهيل”، لكنه قوبل برفض قاطع من المحتجين، وفي المقابل يأتي النائب عن التحالف المدني “فائق الشيخ علي” ، ليحظى بقبول الشارع العراقي بسبب معارضته الصريحة للأحزاب المدعومة من إيران.

لكن مماطلة القوى السياسية في تنفيذ مطالب العراقيين واتكالها على “التعب الثوري” أملًا في إخمادها لتحقيق مآربها سواء عبر الصفقات أو مساومات لتمرير مرشحها بتوافق إيراني، يشير وبقوة إلى احتمالات قطيعة تامة بين الكتل السياسية والشارع العراقي الذي خرج ثائرًا لحماية حقوقه ولن يعود إلا منتصرًا.

ربما يعجبك أيضا