فورين أفيرز | إيران لن تتراجع!

آية سيد
الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي

ترجمة: آية سيد

بينما تستعد الولايات المتحدة وإيران لمحادثات إعادة إحياء الاتفاقية النووية التي تخلّت عنها واشنطن في 2018، تمهّد القيادة في طهران الطريق لسياسة خارجية جازمة جديدة. تعتقد إيران أن واشنطن عاملت الجمهورية الإسلامية بخداع وعدم احترام، وهي مركزة على بناء نفوذ اقتصادي وعسكري ضد خصمها الأزلي.

أعلن كبير المفاوضين النوويين في إيران مؤخرًا أن المحادثات لإعادة إحياء الاتفاق النووي، المعروف بخطة العمل الشاملة المشتركة، سوف تُستأنف في فيينا قبل نهاية نوفمبر. كانت إدارة الرئيس السابق حسن روحاني قد شاركت في ست جولات تهدف إلى إعادة الجانبين إلى “الامتثال الكامل” لخطة العمل الشاملة المشتركة، إلا أن الدبلوماسية توقفت بعد تنصيب إبراهيم رئيسي رئيسًا لإيران في أغسطس.

وعلى الرغم من أن إدارة رئيسي ربما ترغب في المشاركة في المفاوضات، إلا أن إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة لا يشكل ركيزة أساسية لسياستها الخارجية. تحت حكم الرئيس الجديد، استحدثت إيران موقفًا نوويًّا جديدًا يدور حول مبدأين اثنين: تعزيز قدرتها على الرد سريعًا على الولايات المتحدة في حالة أن تملصت من اتفاقياتها وفصل مصير إيران الاقتصادي عن خطة العمل الشاملة المشتركة عن طريق بناء اقتصاد يعتمد على الذات ويركز على آسيا.

وبينما يقترب برنامج إيران النووي من نقطة الاختراق، يدعو البعض في واشنطن إلى اللجوء إلى “خطة بديلة” من الإجراءات الاقتصادية القسرية والتهديدات باستخدام القوة إذا رفضت طهران العودة إلى الامتثال الكامل للاتفاق النووي. يواجه رئيسي بالفعل مشاكل اقتصادية ضخمة في الداخل – والتي قد تحمل عواقب مدمرة على النظام – وهذه الإجراءات ستهدف الضغط عليه من أجل إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة، التي قد تخفف من حدة تلك المشكلات.

 من المستبعد أن ترضخ إيران لمثل هذا القسر. كان قادة طهران المحافظون يشعرون بخيبة أمل من المنافع التي يُفترض أن خطة العمل الشاملة المشتركة منحتها لإيران ويسعون الآن إلى تعزيز اقتصاد مقاوم للعقوبات عن طريق دعم الصناعات المحلية وإقامة روابط جديدة مع القوى الصاعدة في آسيا. إن رئيسي مقتنع أيضًا بأن الولايات المتحدة تظل ملتزمة بإبقاء إيران محاصرة حتى لو جرى إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة، وهو بالتالي يركز على تضخيم النفوذ العسكري والاقتصادي لإيران من أجل حماية ليس فقط الجمهورية الإسلامية بل أيضًا الأمة الفارسية الشيعية الأوسع مما يعتبره تهديدًا وجوديًّا.

في واشنطن، كان الحديث عن خطة بديلة ضد إيران يلقى رواجًا. لكن بالنسبة إلى الجمهورية الإسلامية، الخطة البديلة كانت في الواقع الخطة الأساسية منذ البداية.

لا يُلدغ المرء من جُحر مرتين

ترى الجمهورية الإسلامية عدم تماثل في إطار عمل خطة العمل الشاملة المشتركة. إن التزامات إيران بالحد من أنشطتها النووية لها معايير تقنية واضحة يمكن للوكالة الدولية للطاقة الذرية التحقق منها. إلا أنه لا توجد صيغة تحدد المنافع الاقتصادية التي ستحصل عليها إيران في المقابل من رفع العقوبات. وبالإضافة إلى هذا، على الرغم من أن طهران تواجه إعادة الفرض السريع للعقوبات إذا غادرت الاتفاقية، لم تواجه واشنطن أي عقاب جاد عندما لم تحترم جانبها من الاتفاق.

نتيجة لهذا، تقلق إيران من أنها قد تخسر نفوذها النووي دون الحصول على المنافع الموعودة إذا عادت إلى الامتثال الكامل لخطة العمل الشاملة المشتركة. هذا هو ما حدث بالضبط في 2015، عند الإعلان عن الاتفاق. قلّصت إيران سريعًا برنامجها النووي بما يتماشى مع الاتفاقية، وشحنت 98% من اليورانيوم المخصب إلى الخارج، وقبلت بالمراقبة المعززة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية. مع هذا، لا تزال الشركات والمؤسسات المالية الدولية بعيدة إلى حد كبير عن السوق الإيرانية بسبب الغموض حول إذا ما كانت العقوبات قد رُفعت بشكل دائم. هذا التردد حول القيام بأعمال مع إيران تَبرر بعد انتخاب دونالد ترامب وانسحابه اللاحق من خطة العمل الشاملة المشتركة.

تواجه إيران موقفًا مشابهًا مرة أخرى، حيث تخشى من أن عودتها إلى الامتثال الكامل لن تجلب منافع ملموسة سوى المزيد من الضغط بعد أن تتخلى عن ورقة المساومة النووية. يقول المسئولون الأمريكيون إنهم مستعدون لبحث الطرق لمعالجة هذه المخاوف، لكنهم لا يستطيعون ضمان ألا تنسحب الولايات المتحدة من الاتفاقية مرة أخرى بعد أن يغادر الرئيس جو بايدن المنصب. حاول القادة البريطانيون والفرنسيون والألمان على ما يبدو تهدئة مخاوف إيران عن طريق الاصطفاف خلف الاتفاقية في بيان حديث في قمة مجموعة العشرين، قائلين إنهم دعموا التزام بايدن بالحفاظ على الامتثال الكامل للاتفاقية “طالما تفعل إيران الشيء نفسه”.

أعرب المبعوث الخاص الأمريكي لشئون إيران روبرت مالي عن الاستعداد لـ”رفع كل العقوبات التي لا تتسق مع خطة العمل الشاملة المشتركة سريعًا” إذا تعاونت إيران لاستعادة الاتفاقية. لكن بالنسبة للمسئولين الإيرانيين، هذا النوع من التصريحات كلام رخيص. يتساءل المسئولون الإيرانيون كيف ستحدد إدارة بايدن أية عقوبات غير متسقة مع الاتفاق النووي. في النهاية، كانت الكثير من عقوبات عصر ترامب مُصنفة كقيود مفروضة بسبب سجل حقوق الإنسان المزري لإيران ودعمها “للكيانات الإرهابية” لكي تمنع الإدارة القادمة من الإنضمام مجددًا إلى الاتفاقية.

وهكذا فإن المبدأ الأول لسياسة رئيسي الخارجية هو خلق النفوذ والحفاط عليه لتثبيط واشنطن عن التملص من أي اتفاق والتسبب مرة أخرى بصدمة اقتصادية تزج بملايين الإيرانيين في الفقر. تُعرب الجمهورية الإسلامية بالفعل عن استعدادها للرد سريعًا على أي ضغط، أو تخريب، أو هجوم. على سبيل المثال، لقد قللت التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية احتجاجًا على رفض المنظمة إدانة اغتيال العالم النووي الإيراني وتخريب المنشآت الإيرانية المُراقبة، وهما حادثتان يُزعم أن إسرائيل من قامت بهما.

ركزت إيران أيضًا على تدعيم حلفائها وعملائها في الشرق الأوسط. قبل ثلاثة أشهر من اغتيال الولايات المتحدة للجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، يُقال بإنه صرّح أنه أنشأ ستة جيوش أيديولوجية وشعبية ضخمة في أنحاء الشرق الأوسط لحماية إيران من أية هجمات من أعدائها. وبحسب قائد رفيع في الحرس الثوري والذي كشف عن تصريح سليماني مؤخرًا، هذه القوات تشمل حزب الله اللبناني، وحركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، والحوثيين في اليمن، والقوات السورية الموالية لإيران، وقوات الحشد الشعبي العراقية. إنهم يشكلون معًا ما تسميه طهران “محور المقاومة”. وبينما تتوقع إيران المزيد من الضغط من الولايات المتحدة، بوجود اتفاقية أو بدونها، تشير هذه الخطوات إلى عزمها على البقاء على نفس المسار.

التوجه شرقًا

المبدأ الثاني لإدارة رئيسي هو فصل اقتصاد البلاد عن مفاوضات خطة العمل الشاملة المشتركة. على الرغم من أن سلفه أمل في استخدام خطة العمل الشاملة المشتركة كوسيلة لفتح سوق إيران الضخمة أمام الشركات الغربية، فإن فريق رئيسي مصمم على عزل إيران عن آثار العقوبات عن طريق تعزيز روابطها الاقتصادية بالصين، وروسيا، وجيرانها. تزعم الحكومة الجديدة أنها تكرس 40% من أنشطة سياستها الخارجية إلى الدبلوماسية الاقتصادية والتجارة الخارجية.

إن إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة سيسهل روابط إيران الاقتصادية والأمنية مع الشرق، لا سيما في أعقاب انضمامها مؤخرًا إلى منظمة شنغهاي للتعاون. لكن حتى دون الاتفاق النووي، ترى إيران الحلفاء غير الأمريكيين شركاء عمل موثوقين أكثر.

تلتزم إدارة رئيسي أيضًا بتعزيز قدرة الصناعات المحلية للبلاد. يعتقد فريق الرئيس المكون من مستشارين اقتصاديين شباب إنه ردًا على العقوبات، تقدم رواد الأعمال الإيرانيون لتصنيع بضائع عالية الجودة للأسواق المحلية. إنهم قلقون من أنه إذا رُفعت العقوبات، قد تتسبب الشركات الدولية الكبرى في إزاحة المُصنعين المحليين. في مرسوم حديث، حظر المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي استيراد الأجهزة المنزلية من كوريا الجنوبية. لم يكن القرار مجرد رد على عدم سداد سول للديون البالغة 7 مليارات دولار لإيران بسبب العقوبات الأمريكية؛ لقد كان أيضًا خطوة في حملة أكبر لحماية الشركات الإيرانية من اقتصاد السوق المفتوحة غير الخاضع لضوابط.

وبالإضافة إلى الاتجاه نحو الاقتصاد المكتفي ذاتيًا، تتطلع إيران الآن إلى امتلاك نفوذ اقتصادي أكبر في الشرق الأوسط، خاصة في تلك الدول التي تمتلك فيها بالفعل نفوذًا سياسيًّا. تسعى الحكومة إلى الاستفادة من النفوذ العسكري للحرس الثوري الإيراني عن طريق “إضفاء الطابع المؤسسي على إنجازات محور المقاومة” في العراق، ولبنان، وسوريا، وما وراءها، مثلما ذكر وزير الخارجية أمير عبد اللهيان.

ردًا على أزمة الطاقة الجارية في لبنان، أرسلت إيران عدة شحنات من منتجات الوقود عبر سوريا لكي يوزعها حليفها، حزب الله. وبالإضافة إلى وعود إرسال المزيد من الشحنات، اقترح أمير عبد اللهيان إنشاء محطتي طاقة في لبنان في غضون 18 شهرًا. لقد التقى أيضًا بالرئيس السوري بشار الأسد خصيصًا لبحث دور إيران في إعادة الإعمار الاقتصادي للدولة التي مزقتها الحرب.

ليس من الواضح كيف يمكن أن تستفيد إيران من التعامل التجاري مع الدول التي تعاني من ضائقة مالية ولديها مشاكلها الاقتصادية والمالية الخاصة. يخشى لبنان والدول العربية الأخرى فرض عقوبات أمريكية إذا قاموا بأعمال مع إيران. مع هذا، هدف إيران الإقليمي طويل المدى هو إقامة منطقة اقتصادية خالية من الدولار والتي يمكنها مقاومة الحرب الاقتصادية الأمريكية.

عمل فريق رئيسي للسياسة الخارجية أيضًا على تحسين سُمعة روحاني غير الأيديولوجية. إن العبارات الرنانة لأمير عبد اللهيان هي “البرجماتية” و”المصلحة القومية،” وموقفه هو أن إيران مستعدة للعمل مع أي دولة. ووفقًا لهذا، الإدارة حريصة على عدم غلق أية أبواب أمام التعاون المستقبلي: ادعى أمير عبد اللهيان أن محور إيران الاقتصادي لا يعني “أننا نضع الغرب جانبًا” مشيرًا إلى اجتماعاته الأخيرة مع 18 رئيس وزراء أوروبي خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر. لكن الأفعال أبلغ من الأقوال. بوجود خطة العمل الشاملة المشتركة أو بدونها، تربط إيران مصيرها الاقتصادي بآسيا والشرق الأوسط.

كل الخيارات على الطاولة

إن استراتيجية إدارة رئيسي مبنية على افتراض أساسي حول علاقة إيران بالولايات المتحدة والذي تمسكت به النخب المحافظة الحاكمة منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية. بحسب هذا الرأي، حجم إيران، وتاريخها، وموقعها الجيواستراتيجي، ومواردها الاقتصادية يجعلونها مهيمنًا إقليميًّا طبيعيًّا وتهديدًا محتملًا لحلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وبالتالي الولايات المتحدة مصممة على إبقاء إيران تحت الضغط الاقتصادي والعسكري. ونتيجة لهذا، حتى لو كانت هناك اتفاقية نووية، لا شك في أن واشنطن ستجد طرقًا أخرى لإضعاف إيران وعزلها.

يقول المسئولون الإيرانيون إن هذا ينعكس في الطريقة التي يتفاوض بها الدبلوماسيون الأمريكيون والأوروبيون مع نظرائهم الإيرانيين. وفقًا لأمير عبد اللهيان، على الرغم من أن المفاوضين الإيرانيين يمتلكون سلطة كافية لمناقشة أية قضية مطروحة، فإن نظراءهم يمتلكون مساحة محدودة ويتلقون تعليمات لطرح قضايا أخرى، مثل الدور الإقليمي للحرس الثوري وبرنامح صواريخ إيران.

يرى المسئولون الإيرانيون هذا تكتيكًا لعدم حل أية قضايا وإنما للحصول على تنازلات من إيران بدون القيام بالمثل. من وجهة نظرهم، هذا يفسر كيف أمّن الرئيس جورج بوش الأب إطلاق سراح الرهائن الأمريكيين في لبنان دون احترام تعهده بأن “النوايا الحسنة توّلد نوايا حسنة” في التسعينيات، وكيف استفاد الرئيس جورج دبليو بوش من تعاون إيران للإطاحة بطالبان في 2001 فقط ليُدرج طهران في “محور الشر” بعدها ببضعة أشهر، وكيف استدرج الرئيس باراك أوباما إيران إلى خطة العمل الشاملة المشتركة دون إزالة العقوبات الأمريكية بطريقة مجدية.

وبالتالي، تتوقع إدارة رئيسي أن تزيد الاتفاقية الجديدة بشكل هائل حملة الضغط الأمريكي بغرض حرمان إيران من أية منافع ملموسة من رفع العقوبات. يزعم المسئولون الإيرانيون أنهم مستعدون لمناقشة القضايا الأخرى ذات الاهتمام المشترك شريطة أن توافق الولايات المتحدة على المشاركة في قضية واحدة في كل مرة، لكنهم لا يتوقعون أي استعداد من واشنطن لقبول اتفاقية قد تعزز الجمهورية الإسلامية.

إن استراتيجية طهران هي مقاومة النفوذ الأمريكي في كل مكان والرد على القسر بالقسر. وفي الوقت الذي تستعد لاستئناف المفاوضات حول الاتفاق النووي، فإنها تهيئ الأجواء لكل الاحتمالات – بما فيها الصراع مع الولايات المتحدة.

للاطلاع على الرابط الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا