فورين أفيرز | ماذا توقع ماركس من الرأسمالية أن تفعل بالأجور والعمال والتكنولوجيا؟

ترجمات رؤية

ترجمة بواسطة – آية سيد

بعد كل تراجع اقتصادي تقريبًا, تظهر أصوات تقترح أن ماركس كان محقًا في التنبؤ بأن النظام سيدمر نفسه في النهاية. اليوم, مع هذا, المشكلة ليست حدوث أزمة مفاجئة للرأسمالية بل لطرق عملها المعتادة, التي أحيت في العقود الأخيرة الأمراض التي بيد أن العالم المتقدم قد تركها وراءه.

منذ 1967, كسد متوسط دخل الأسرة في الولايات المتحدة, الذي جرى تعديله ليناسب التضخم, بالنسبة للـ60% الأقل من السكان, في الوقت الذي ارتفعت فيه ثروة ودخل الأمريكيين الأكثر ثراءً.كما تشير التغييرات في أوروبا, برغم كونها أقل شدة, في نفس الإتجاه. وعلى الرغم من أرباح الشركات في أعلى مستوياتها منذ الستينيات, إلا أن هذه الشركات تُفضل إدخار الأرباح بدلاً من استثمارها،  وهو ما يزيد من حجم الضرر الواقع على الإنتاجية والأجور. ومؤخرًا, كانت هذه التغييرات مصحوبة بتقليص لدور الديمقراطية واستبدالها بحكم تكنوقراطي من النخب العالمية.

يتجه المنظّرون لرؤية هذه التطورات كتحول محير عن وعود الرأسمالية, لكنها لم تكن لتفاجئ ماركس. الذى كان قد تنبأ بأن المنطق الداخلي للرأسمالية سوف يؤدي مع مرور الوقت إلى انعدام مساواة متزايد, وبطالة مزمنة ونقص في العمالة, وأجور راكدة, وهيمنة الشركات القوية الكبيرة, وخلق نخبة محصنة والتي ستعمل قوتها كحاجز أمام التقدم الاجتماعي. في نهاية الأمر, هذه المشاكل مجتمعة ستثير أزمة عامة, وتنتهي بثورة.

اعتقد ماركس أن الثورة ستحدث في الاقتصادات الرأسمالية الأكثر تقدمًا. لكن على العكس, حدثت في الاقتصادات الأقل تقدمًا, مثل روسيا والصين, حيث بدأت الشيوعية في ظل الحكم الاستبدادي والكساد الاقتصادي. خلال منتصف القرن العشرين, تعلمت الدول الغنية في غرب أوروبا والولايات المتحدة أن تدير، لبعض الوقت, عدم الاستقرار وعدم المساواة اللذين ميزا الرأسمالية في زمن ماركس. ما جعل البعض يشكك فى منطق أفكار ماركس.  

لكن بالرغم من كوارث الاتحاد السوفيتي والدول التي إتبعت نموذجه, تبقى نظرية ماركس واحدة من أكثر الانتقادات الإدراكية للرأسمالية التي طُرحت حتى الآن. لقد فهم ماركس الآليات التي تنتج سلبيات الرأسمالية والمشاكل التي تتطور عندما لا تكافحها الحكومات بنشاط, مثلما لم تفعل طيلة 40 عامًا. نتيجة لهذا, وعلى الرغم من كون الماركسية نظرية قديمة، إلا أنها ضرورية لفهم عالم اليوم.   

عالم مادي
إن حجم أعمال ماركس ومخاوفه واسع, والكثير من أفكاره عن موضوعات مثل التنمية البشرية, والأيديولوجية, والدولة كانت محط إهتمام دائم منذ أن كتبها. وما يجعل ماركس وثيق الصلة بالوقت الحاضر هي نظريته الاقتصادية, التي قصد منها أن "تكشف قانون الحركة الاقتصادي للمجتمع الحديث." وعلى الرغم من أن ماركس, مثل عالم الاقتصاد ديفيد ريكاردو, اعتمد على نظرية قيمة العمل المعيوبة في جزء من تفكيره الاقتصادي, إلا أن رؤاه الاستثنائية ما زالت باقية.

اعتقد ماركس إنه في الرأسمالية, سيتم الضغط على رواد الأعمال لتجميع رأس المال تحت ظروف منافسة السوق يؤدي إلى نتائج نلمسها بصورة واضحة فى أيامنا هذة ، وهى : 
  أولًا: جادل بأن التحسينات في إنتاجية العمل التي خلقها الابتكار التكنولوجي سيحصل عليها أصحاب رأس المال بشكل كبير. حيث كتب ماركس "حتى عندما تكون الأجور الحقيقية في ارتفاع, فإنها لا ترتفع بصورة متناسبة مع القوة الإنتاجية للعمال." ببساطة, سيحصل العمال دائمًا على أقل مما أضافوه إلى الإنتاج, ما يؤدي إلى عدم مساواة واغتراب القوة العاملة.

ثانيًا: تنبأ ماركس أن المنافسة بين الرأسماليين لتخفيض الأجور قد ترغمهم على إدخال تكنولوجيا لتوفير العمالة. مع مرور الوقت, هذه التكنولوجيا ستقضي على وظائف, وهو ما يخلق قطاع عاطل عن العمل من السكان.

ثالثًا: اعتقد ماركس أن المنافسة ستؤدي إلى تركيز أكبر في الصناعات وبينها, حيث أن الشركات الأكبر والأكثر ربحًا تدفع الشركات الأصغر خارج العمل. وحيث أن هذه الشركات الأكبر, بطبيعة الحال, ستكون أكثر تنافسية ومتقدمة تكنولوجيًا, ستتمتع بفوائض متزايدة. مع هذا, هذه الفوائض ستُوزع على نحو غير متساو, ما يُعقد الحركيتين الأولتين.

إلا أن ماركس قد وقع فى بعض الأخطاء، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالسياسة. لأنه اعتقد أن الدولة أداة للطبقة الرأسمالية, حيث استهان بقوة الجهود الجماعية لإصلاح الرأسمالية. في اقتصادات الغرب المتقدمة, من 1945 حتى 1975 تقريبًا, أظهر الناخبون كيف يمكن أن تروض السياسة الأسواق, حيث وضعوا مسئولين في السلطة ممن إتبعوا مجموعة من السياسات الديمقراطية الاشتراكية بدون الإضرار بالاقتصاد. حيث شهدت هذة الفترة التى يسميها الفرنسيون بـ "الثلاثون المجيدة" مزيجًا فريد تاريخيًا من النمو المرتفع, والإنتاجية المتزايدة, والأجور الحقيقية المرتفعة, والابتكار التكنولوجي, وأنظمة التأمين الاجتماعي المتوسعة في غرب أوروبا, وأمريكا الشمالية, واليابان. 

الازدهار والكساد
يبدو أن الازدهار ما بعد الحرب لم يُبنى لكي يستمر. لقد وصل إلى النهاية بأزمة الركود التضخمي في السبعينيات, عندما بدت السياسة الاقتصادية المفضلة للديمقراطيات الاجتماعية الغربية عاجزة عن استعادة التوظيف الكامل والربحية بدون إثارة مستويات مرتفعة من التضخم. ردًا على ذلك, سن الزعماء في أنحاء الغرب, بداية من رئيس الوزراء الفرنسي ريمون بار, ورئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر, والرئيس الأمريكي رونالد ريجان, سنوا سياسات لاستعادة الربحية عن طريق كبح التضخم, وإضعاف العمالة المنظمة, واستيعاب البطالة.

تلك الأزمة, وحالات الكساد التي أعقبتها, كانت بداية النهاية للاقتصادات المختلطة في الغرب. وبدافع الاعتقاد بأن تدخل الحكومة قد بدأ في إعاقة الكفاءة الاقتصادية, سعت النخب في دولة تلو الأخرى إلى إطلاق العنان لقوى السوق عن طريق إزالة القيود عن الصناعات والحد من حالة الرفاهية. هذه الإجراءات, مصحوبة بسياسات نقدية محافظة, وبنوك مركزية مستقلة, وآثار ثورة المعلومات, استطاعت تحقيق انخفاض في التقلبات و, بداية في التسعينيات, أرباح أعلى. ففي الولايات المتحدة, وصلت أرباح الشركات بعد الضريبة من متوسط 4,5% في الـ25 عامًا قبل تولي الرئيس بيل كلينتون الرئاسة, في 1993, إلى 5,6% من 1993 إلى 2017.

مع هذا، أثبت التعافي الطويل في الديمقراطيات المتقدمة  منذ السبعينيات  عجزه عن تكرار الازدهار واسع النطاق الذي ميّز منتصف القرن العشرين. الذي إتسم بالتفاوت, والركود, وعدم المساواة. هذا التباين الحاد في الثروات كان مدفوعًا, من ضمن عوامل أخرى, بحقيقة أن الزيادات في الإنتاجية لم تعد تؤدي إلى زيادات في الأجور في الاقتصادات الأكثر تقدمًا.

حيث كان أحد الردود الرئيسية على أزمة الربحية في السبعينيات هي إلغاء صفقة ما بعد الحرب بين العمل والعمالة المنظمة, والتي بموجبها اتفقت الإدارة على رفع الأجور تماشيًا مع زيادات الإنتاجية. في الفترة بين 1948 و1973, ارتفعت الأجور جنبًا إلى جنب مع الإنتاجية فى  العالم المتقدم. منذ ذلك الحين, أصبحوا منفصلين في معظم أنحاء الغرب. هذا الانفصال كان حادًا على وجه خاص في الولايات المتحدة, حيث زادت الإنتاجية, في العقود الأربعة منذ 1973, بنسبة 75% تقريبًا, بينما ارتفعت الأجور الحقيقية بأقل من 10%. بالنسبة إلى الـ60% الأقل من الأسر, لم تتحرك الأجور على الإطلاق.

على الرغم من أن الإزدهار الذى حدث فى فترة ما بعد الحرب قد جعل أفكار ماركس تبدو وأنها قديمة أو غير نافعة، إلا أن العقود الأخيرة قد أثبتت بصيرته .فقد جادل ماركس بأن الميل طويل الأجل للرأسمالية كان تشكيل نظام حيث لا تتماشى الأجور الحقيقية مع الزيادات في الإنتاجية. هذه البصيرة تعكس ملاحظة خبير الاقتصاد توماس بيكيتي عن أن معدل العائد على رأس المال أعلى من معدل النمو الاقتصادي, ما يؤكد على أن الفجوة بين أولئك الذين تأتي دخولهم من أصول رأسمالية وأولئك الذين تأتي دخولهم من العمل سوف تنمو مع مرور الوقت.

لم يكن أساس إدانة ماركس للرأسمالية هو إنها جعلت العمال في حالة مادية أسوأ. على العكس, كان انتقاده هو أن الرأسمالية وضعت حدودًا تعسفية على القدرة الإنتاجية التي أطلقت لها العنان. لا شك في أن الرأسمالية كانت تحديثًا لما جاء قبلها. لكن البرنامج الحديث جاء بخلل. وعلى الرغم من أن الرأسمالية أدت إلى مستويات لا يمكن تخيلها في السابق من الثروة والتقدم التكنولوجي, كانت عاجزة عن استخدامها لتلبية احتياجات الجميع.

قال ماركس أن هذا لم يكن بدافع القيود المادية, بل بدافع القيود الاجتماعية والسياسية: تحديدًا, حقيقة أن الإنتاج منظم لمصالح الطبقة الرأسمالية بدلًا من مصالح المجتمع ككل. حتى لو كان الرأسماليون والعمال الأفراد عاقلين, فإن النظام بأكمله ليس منطقيًا.  

من المؤكد أن سؤال ما إذا كان أي بديل مخطط ديمقراطيًا للرأسمالية يمكن أن يؤدي إلى نتائج أفضل بشكل مستمر؟. فإنه من الواضح أن البدائل غير الديمقراطية, مثل اشتراكية الدولة التي مارسها الاتحاد السوفيتي والصين الماوية, لم تفعل ذلك.حيث لا يحتاج الفرد للإيمان بفرضية ماركس عن أن الشيوعية حتمية لقبول جدوى تحليله.  

قوانين الحركة
لم يتنبأ ماركس وحسب بأن الرأسمالية ستؤدي إلى ارتفاع عدم المساواة واغتراب العمالة النسبي. فلعل الأكثر أهمية هو أنه حدد الآليات الهيكلية التي ستُسبب ذلك. بالنسبة إلى ماركس, سوف تجبرهم المنافسة بين الشركات على دفع أجور أقل للعمال نسبيًا مع ارتفاع الإنتاجية لتخفيض تكاليف العمالة. وحيث أن الدول الغربية احتضنت السوق في العقود الأخيرة, بدأ هذا الميل في إعادة تأكيد نفسه.

منذ السبعينيات، كانت الشركات في أنحاء العالم المتقدم تعمل على تخفيض الأجور ليس فقط عبر الابتكارات التكنولوجية الموفرة للعمالة بل أيضًا عن طريق الضغط من أجل تغييرات تنظيمية وتطوير أشكال جديدة من التوظيف. يشمل هذا عقود الوقت المحدد, التي تنقل الخطر إلى العمال؛ وبنود عدم المنافسة, التي تحد من قوة التفاوض؛ وترتيبات العمل الحر, التي تعفي الشركات من منح الموظفين مزايا مثل التأمين الصحي. كانت النتيجة هي إنه منذ بداية القرن الحادي والعشرين, انخفض نصيب العمالة من الناتج المحلي الإجمالي بثبات في الكثير من الاقتصادات المتقدمة.

تخفض المنافسة أيضًا نصيب العمالة من التعويض عن طريق خلق قطاعات من القوة العاملة ذات علاقة ضعيفة بصورة متزايدة بالأجزاء الإنتاجية من الاقتصاد – قطاعات يسميها ماركس "جيش العمالة الاحتياطي- " في إشارة إلى العاطلين عن العمل والعاطلين جزئيًا. فكر ماركس في هذا الجيش الاحتياطي كمنتج ثانوي من الابتكارات التي نحّت العمالة.

وعندما توسع الإنتاج, ارتفع الطلب على العمالة, ما جذب عناصر الجيش الاحتياطي إلى مصانع جديدة. هذا يُسبب ارتفاع في الأجور, وهو ما يحفز الشركات على استبدال العمالة برأس المال عن طريق الاستثمار في تكنولوجيات جديدة, وتخفيض الأجور, وتضخيم صفوف الجيش الاحتياطي. ونتيجة لهذا, تتجه الأجور إلى مستوى معيشة "على حد الكفاف," ما يعني أن نمو الأجور على المدى الطويل سيكون منخفضًا إلى منعدم. وكما صاغها ماركس, تدفع المنافسة الشركات إلى تخفيض تكاليف العمالة, نظرًا لـ"الخاصية المميزة للسوق بأن المعارك فيه لا تُربح بالتوظيف بقدر ما تُربح بصرف جيش العمال من العمل."

كانت الولايات المتحدة تعيش هذه الحقيقة لحوالي 20 عامًا. لخمسة عقود, كان معدل المشاركة في القوة العاملة بالنسبة إلى الرجال راكدًا أو يهبط, ومنذ 2000, كان ينخفض بالنسبة إلى النساء, أيضًا. وبالنسبة إلى المجموعات الأقل مهارة, مثل أصحاب الشهادات الأقل من الثانوية العامة, تقف نسبة المشاركة عند أقل من 50 في المائة وكانت كذلك لفترة كبيرة. ومرة أخرى, مثلما توقع ماركس, تضخم التكنولوجيا هذه الآثار, واليوم, يناقش خبراء الاقتصاد مجددًا آفاق النزوح واسع النطاق للعمالة من خلال التشغيل الآلي. حيث تُقدر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن 14% من الوظائف في الدول الأعضاء, أي حوالي 60 مليون في المجمل, سوف تتحول إلى التشغيل الآلى.  كما تُقدر شركة الاستشارات ماكنزي أن 30% من ساعات العمل على المستوى العالمي يمكن تشغيلها آليًا. من المتوقع أن تتركز هذه الخسائر في القطاعات غير الماهرة من القوة العاملة.

ما إذا كان هؤلاء العمال يمكن إعادة استيعابهم يبقى سؤالًا مفتوحًا, والخوف من امكانية التشغيل الآلي على تسريح العمال ينبغي أن يتجنب ما يُسمى بمغالطة كتلة العمل, الذي يفترض أنه يوجد قدر ثابت فقط من العمل الذي ينبغي القيام به وإنه بمجرد تشغيله آليًا, لن يتبقى شيئًا للبشر.

لكن التراجع الثابت في معدل مشاركة القوة العاملة للرجال في سن العمل على مدار الخمسين سنة الماضية يشير إلى أن الكثير من العمال المسرحين من العمل لن تتم إعادة استيعابهم في القوة العاملة إذا تُرك مصيرهم للسوق.  

نفس العملية التي تسرح العمال – التغيير التكنولوجي المدفوع بالمنافسة – تنتج أيضًا تركيزًا في السوق, حيث تتجه الكثير من الشركات إلى الهيمنة على السوق. تنبأ ماركس بعالم من المنافسة التي تحتكرها القلة, حيث يتمتع أصحاب المناصب الحاليين بأرباح احتكارية, وتصارع الشركات الأصغر من أجل الاستمرار, ويحاول المستجدون الابتكار لكي يحصلوا على حصة في السوق. هذا, أيضًا, يشبه الوقت الحاضر.

اليوم, أصبحت ما تُعرف بالشركات المشهورة, التي تشمل شركات مثل أمازون, وآبل, وفيديكس, تهيمن على قطاعات كاملة, تاركةً المستجدين يحاولون الدخول من خلال الابتكار. تتفوق الشركات الكبيرة على منافسيها من خلال الابتكار , وأيضًا عن طريق شراءهم أو صرف جيوشهم الاحتياطية – أي تسريح عمالهم.  

تشير الأبحاث التي أجراها خبير الاقتصاد ديفيد أوتور وزملاؤه إلى أن صعود الشركات المشهورة ربما يساعد في تفسير نصيب العمالة المتراجع في الدخل القومي في الاقتصادات المتقدمة. ولأن الشركات المشهورة أكثر إنتاجية وكفاءة من منافساتها, فإن العمالة تمثل حصة أقل بكثير من تكاليفها. منذ 1982, كان التركيز يزيد في القطاعات الاقتصادية الستة التي تمثل 80% من التوظيف في الولايات المتحدة: المال, والصناعة, وتجارة التجزئة, والخدمات, وتجارة الجملة, والمرافق والمواصلات. وكلما زاد هذا التركيز, تراجعت حصة العمالة في الدخل. في قطاع الصناعة الأمريكي, على سبيل المثال, انخفض تعويض العمالة من حوالي نصف القيمة المضافة في 1982 إلى حوالي الثلث في 2012. بينما أصبحت هذه الشركات المشهورة أكثر أهمية للاقتصادات الغربية, عانى العمال بصفة عامة.  

الرابحون والخاسرون
في 1957, في ذروة الازدهار ما بعد الحرب في غرب أوروبا, أعلن خبير الاقتصاد لودفيج إيرهارت (الذي أصبح فيما بعد مستشار ألمانيا الغربية) أن "الازدهار للجميع والازدهار من خلال المنافسة مرتبطان لا يمكن الفصل بينهما؛ الافتراض الأول يحدد الهدف, والثاني يحدد المسار الذي يقود إليه." إلا أن ماركس كان أقرب للصواب بتنبؤه أن بدلًا من الازدهار للجميع, ستخلق المنافسة رابحين وخاسرين, الرابحون هم من يستطيعون أن يبتكروا ويصبحوا بارعين.

يمكن أن يؤدي الابتكار إلى تطوير قطاعات اقتصادية جديدة, وكذلك أيضًا خطوط جديدة من البضائع والخدمات في القطاعات القديمة. يمكن لهذا من حيث المبدأ أن يستوعب العمالة, ويقلل صفوف الجيش الاحتياطي ويرفع الأجور.إلا أن  قدرة الرأسمالية على التوسع وتلبية احتياجات الناس أدهشت ماركس, في الوقت الذي أدان إسراف النظام والتشوهات التي يُسببها في الأفراد.

يجادل المدافعون عن النظام الحالي, لا سيما في الولايات المتحدة, بأن التركيز على عدم المساواة الثابتة (توزيع الموارد في وقت معين) يحجب المساواة الحركية للحراك الاجتماعي. وعلى النقيض من ذلك فقد افترض ماركس  أن الطبقات تعيد إنتاج نفسها, وأن الثروة تنتقل بفاعلية بين الأجيال, وأن أولاد الرأسماليين سيستغلون أولاد العمال عندما يحين وقتهم. لفترة, وسيكون لأولاد الطبقة المتوسطة كانت لديهم فرصة جيدة لتبادل الأماكن مع أولاد الطبقة الأغنى . لكن مع ارتفاع عدم المساواة, يتراجع الحراك الاجتماعي. حيث وجدت الأبحاث الحديثة لخبراء الاقتصاد برانكو ميلانوفيتش وروي فان دير فايد, على سبيل المثال, أن عدم المساواة تضر بنمو دخل الفقراء وليس الأغنياء. في الوقت نفسه, توقع بيكيتي إنه إذا استمرت الإتجاهات الحالية, قد تتطور الرأسمالية لتصبح نموذجًا "موروثًا" جديدًا للإدخار, حيث تتفوق ثروة العائلة على أي قدر من الجدارة.

التحدي الكينزي
لم تترك نظرة ماركس العالمية الكثير من المساحة للسياسة لكي تخفف سلبيات الرأسمالية. وكما ذكر هو وزميله فريدريك إنجلز في بيان الحزب الشيوعي, "إن السلطة التنفيذية للدولة الحديثة ليست سوى لجنة لإدارة الشئون العامة للطبقة البرجوازية بأسرها."

حتى وقت حديث, بيد أن الغرب يتحدى هذا الإدعاء. جاء التحدي الأكبر لرأي ماركس من إقامة وتوسع دول رفاهية في الغرب خلال منتصف القرن العشرين, غالبًا على يد أحزاب ديمقراطية اشتراكية تمثل الطبقة العاملة. كان المهندس الفكري لهذه التطورات هو خبير الاقتصاد جون مينارد كينز, الذي قال أن النشاط الاقتصادي لا تدفعه فقط قرارات الاستثمار التي يتخذها الرأسماليون بل قرارات الاستهلاك التي يتخذها الأشخاص العاديون. فإذا كانت الحكومات تستطيع استخدام أدوات سياسية لرفع الطلب الكلي, فإنها سوف تستثمر الطبقة الرأسمالية في الإنتاج. وتحت شعار الكينزية, حققت أحزاب يسار الوسط ويمين الوسط شيئًا ظن ماركس إنه مستحيل: الكفاءة, والمساواة, والتوظيف الكامل, كلها في نفس الوقت. كانت السياسة تحظى بدرجة من الاستقلال عن الهياكل الاقتصادية, التي منحتهم في المقابل القدرة على إصلاح تلك الهياكل.

لقد  آمن ماركس باستقلالية السياسة لكنه اعتقد إنها تكمن فقط في القدرة على الاختيار بين الرأسمالية ونظام آخر كليًا. لقد آمن إلى حد كبير بإنه من الحماقة محاولة ترويض الأسواق الرأسمالية بصورة دائمة من خلال السياسة الديمقراطية.  

تنبأ ماركس إنه في ظل الرأسمالية, فإن الطلب الذي يفرضه تجميع رأس المال والربحية سيحد بشكل كبير من الخيارات المتاحة أمام الحكومات ويقوض قابلية التطبيق طويلة المدى لأية إصلاحات. يبدو أن تاريخ العالم المتقدم منذ السبعينيات أثبت ذلك التنبؤ. وعلى الرغم من إنجازات حقبة ما بعد الحرب, وجدت الحكومات نفسها في نهاية المطاف عاجزة عن التغلب على القيود التي فرضتها الرأسمالية, مثل التوظيف الكامل, والقوة العاملة التي جاءت معه, والربحية المنخفضة. وبمواجهة المطالب المتنافسة للرأسماليين الذين سعوا إلى إلغاء تسوية ما بعد الحرب بين رأس المال والعمالة, والأشخاص الذين سعوا للحفاظ عليها, استسلمت الدول للفريق الأول. في المدى الطويل, كانت المصالح الاقتصادية لرأس المال هي من ربح على التنظيم السياسي للشعب.

الماركسية اليوم
اليوم, يظل سؤال ما إذا كانت السياسة تستطيع ترويض الأسواق؟
إن إحدى القراءات للتغييرات في الاقتصادات المتقدمة منذ السبعينيات هي إنها نتيجة لميل الرأسمالية الطبيعي للاستحواذ على السياسة, سواء كانت ديمقراطية أو غير ذلك. في هذه الرواية, كانت حقبة الثلاثون المجيدة ضربة حظ.ففي الظروف العادية, لا يمكن الحصول على الكفاءة, والتوظيف الكامل, والتوزيع العادل للدخل في نفس الوقت. إن أي ترتيب يحدث فيه ذلك يُعد سريع الزوال و, على المدى الطويل, تهديدًا لكفاءة السوق.

مع هذا, هذه ليست الرواية الوحيدة. الرواية البديلة تبدأ بإدراك بأن سياسة العصر الذهبي للرأسمالية, التي جمعت اتحادات قوية, وإدارة الطلب الكينزية, وسياسة نقدية متساهلة, وضوابط على رأس المال, لا يمكنها تحقيق شكل عادل من الرأسمالية للأبد. لكنها ستنتهي بإنه لا يوجد أي شكل آخر من السياسة يمكنه فعل ذلك.

إن التحدي اليوم هو تحديد معالم الاقتصاد المختلط الذي يمكنه أن يحقق بنجاح ما فعله العصر الذهبي, لكن هذه المرة بمساواة أكبر بين الجنسين والأعراق. هذا يتطلب تبني روح ماركس, -إن لم يكن جميع جوانب نظرياته – أي, إدراك أن الأسواق الرأسمالية, والرأسمالية نفسها, ربما تكون الترتيب الاجتماعي الأكثر ديناميكية الذي أنتجه البشر. إن الحالة الطبيعية للرأسمالية قد وصفها ماركس وإنجلز في بيان الحزب الشيوعي,بأن "كل ما هو متماسك يذوب في الهواء." هذه الديناميكية تعني أن تحقيق الأهداف العادلة سيتطلب ترتيبات مؤسسية جديدة مدعومة بأشكال جديدة من السياسة.

عالم التكنولوجيا
بينما كانت أزمة العصر الذهبي تتصاعد في السبعينيات, تساءل خبير الاقتصاد جيمس ميد عن أنواع السياسات التي قد تنقذ الرأسمالية الديمقراطية الاشتراكية العادلة, مدركًا أن أية إجابة واقعية سيتحتم أن تشمل تجاوز حدود الكينزية. كان حله هو دعم إعادة توزيع الدخل في دولة الرفاهية مع إعادة توزيع أصول رأس المال, بحيث يعمل رأس المال لصالح الجميع. لم تكن رؤية ميد هي ملكية الدولة لكن ديمقراطية واسعة الملكية حيث تُوزع الثروة بعدل أكبر لأن توزيع القدرة الإنتاجية كان أكثر عدالة.

إن الأمر ليس أن ملكية رأس المال الأوسع هي الحل لمساوئ الرأسمالية في الوقت الحاضر, على الرغم من إنها قد تكون جزءًا منه. على العكس من ذلك, فإن الأمر هو  الإشارة إلى إنه إذا نجح رجال السياسة المؤيدون لعدالة التوزيع, ويشملون بيرني ساندرز في الولايات المتحدة وجيرمي كوربن في بريطانيا, إذا نجحوا في مشروعاتهم لترويض الأسواق وإنعاش الديمقراطية الاشتراكية للقرن الحادي والعشرين, لن يكون هذا بسياسة الماضي. فكما أدرك ماركس, في ظل الرأسمالية لا توجد عودة للوراء.

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا