فورين بوليسي | الاقتصاد لا يعمل منفرداً.. لماذا يخطىء التحليل الماركسي فى توقع مستقبل الشرق الأوسط؟

ترجمات رؤية

ترجمة بواسطة – آية سيد

يحاول "ستيفن كوك" فى هذا المقال الإجابة على سؤال مرتبط بمؤشر نهضة الدول، هل الاقتصاد أولاً أم أن الأمر مرتبط بعوامل أخرى الى جانب الاقتصاد؟

منذ أعوام, عندما كنت طالب دراسات عليا, كنت أتلقى دعوات بانتظام لحضور المحاضرة والعشاء السنوي الذي يُعقد في كلية وارتون للأعمال بجامعة بنسلفانيا. كنت أقبل هذه الدعوات, لكن عندما يأتي المساء كنت أسحب نفسي بصعوبة للذهاب إلى هناك. كانت المحاضرة دائمًا ما تعترض روتيني الدراسي, وآخر شيء كنت أرغب في فعله هو الانخراط في حديث صغير في الوقت الذي كان ينبغي أن أدرس فيه.

في أحد الأعوام, شمل ذلك الحديث الصغير شخصًا اتضح أنه عميد كلية وارتون, وعندما علم أنني طالب دراسات عليا في العلوم السياسية وإنني مهتم بالشرق الأوسط, تحدث عن كيف أنه لو كانت هناك تنمية اقتصادية في هذة المنطقة كان كل شيء سيسير على ما يرام. وقد كنت  سمعت هذه الحُجة مرات عديدة من قبل, وعندما سألني العميد عن رأيي, سمحت لنزعتي الغريبة بالتملك مني. قلت مازحًا: "حسنًا, الأماكن الوحيدة المتبقية في العالم حيث لا تزال الماركسية حية وبحالة جيدة هي كليات الأعمال الأمريكية." نظر إليّ العميد بحدة بينما كنت أوضح أن كارل ماركس اعتقد بوجود سبب اقتصادي كامن وراء كل ظاهرة سياسية, وأن الكثير من الأمريكيين – ليس فقط أساتذة الأعمال, بل صُناع السياسة أيضًا – بدوا سعداء بارتكاب الخطأ نفسه.

هذا التعليق الغريب حل مشكلة – لم أتلق دعوات لتلك المحاضرة والعشاء بعد ذلك. لكنه خلق نوعًا من الهوس. أمضيتُ عقدين في محاولة دحض هذا التحليل الكسول, وخاصة بالنسبة إلى الشرق الأوسط, عن طريق الحتمية الاقتصادية. برغم تلال الأدلة, إلا أن فكرة أن الناس – سواء في مصر, أو إسرائيل, أو تركيا, أو تونس, أو الولايات المتحدة – يحددون اختياراتهم فقط على أساس ما في جيوبهم لن تختفي.

مؤخرًا فقط اكتشف روبرت صامويلسون, الذي يكتب عن الاقتصاد في واشنطن بوست, أنه عندما يتعلق الأمر بصعود السياسة المناهضة للمؤسسة, "فإنه ليس الاقتصاد, أيها الأغبياء!" كان من المبهج قراءة شيء يثبت صحة ادعائي, لكن مع هذا, عنوان مقال صامويلسون لم يصف الموضوع على النحو الصحيح. ينبغي أن يكون مقال صامويلسون – وأية مناقشة لثورات العالم العربي – بعنوان: "إنه ليس الاقتصاد فقط, أيها الأغبياء."

ليس من الصعب ملاحظة التشابه بين المطلب الشهير "عيش, حرية, عدالة اجتماعية," الذي نادى به المصريون في ثورة 2011 ونقد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للنظام السياسي المزيف الذي قوّض الحياة الثقافية والاقتصادية الأمريكية. أنا لا أقول إن المطالب المصرية بمجتمع أكثر عدالة وشمولًا وانفتاحًا هي نفس الشيء مثل النقد الغاضب الذي وجهه الرئيس للمؤسسة الأمريكية. لكن إشراقة ما أراد متظاهرو التحرير بناءه وظلام أهداف أتباع ترامب لتمزيق الأشياء مرتبطون في أنهم يربطون الكرامة, والسياسة, والاقتصاد بطريقة لا يمكن فصلها بسهولة.

مع هذا, يبدو أن مجتمع السياسة الأمريكي كان بطيئًا بشكل عام في إدراك أوجه قصور السياسات المبنية على حتمية اقتصادية غير مدروسة جيدًا. إن أسباب ذلك واضحة جدًا (هناك حاجة ماسة للتنمية الاقتصادية في الشرق الأوسط) و(مسئولو العلاقات الخارجية لديهم قدر بسيط من الإحساس بما يحتاجون لفعله من أجل مساعدة الدول على تنمية اقتصاداتها). ثم تأتي مسألة الاستقرار. كرّس المسئولون الأمريكيون الموارد للتنمية الاقتصادية في الدول الصديقة في المنطقة ليس بالضرورة بدافع الإيثار ولكن لأنهم يتجهون للإيمان بنظرية "الرضا" السياسية. إذا استفاد الناس من النظام, فمن غير المرجح أنهم سيثورون ضده. لكن هذا ليس صحيحًا دائمًا. تونس, ومصر, وليبيا, وسوريا هي أمثلة لدول شهدت نموًا اقتصاديًا (متفاوتًا) وأصبحت غير مستقرة.

أصبح المسئولون يدركون أن الافتراض الضمني بـ"إنه الاقتصاد" خطأ. لكن الانحياز في أوساط صُناع السياسة لا يزال قائمًا. على سبيل المثال, حالة تركيا تحت حكم حزب العدالة والتنمية. كان الرئيس رجب طيب أردوغان ناجحًا لفترة طويلة لأنه, مثل ترامب, لديه رؤية تشمل مجموعة أوسع من القضايا بالإضافة إلى الازدهار. وبالطبع, ساعده أن تركيا شهدت نموًا اقتصاديًا مرتفعًا في جزء كبير من العقد 2000. لكن العناصر الأخرى لأجندة حزب العدالة والتنمية التحولية – السماح للناس بممارسة حريتهم الدينية بحرية أكبر, وترسيخ تركيا كقوة إقليمية بطموحات أوسع, والقومية العنيدة, من ضمن أمور أخرى – كانت ناقدة أيضًا لنجاح الحزب الذي امتد طويلًا. على الرغم من هذا, تميل واشنطن لرؤية أن اقتصاد تركيا هو أساس هيمنة أردوغان. تذكر تقارير متعاقبة من جهاز الأبحاث التابع للكونجرس الأمريكي النمو الاقتصادي كسبب رئيسي لنجاح حزب العدالة والتنمية.

بينما تداعى الاقتصاد التركي في 2018, فكر الصحفيون والمحللون في احتمالية أن أردوغان سيتلقى ضربة سياسية في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في يونيو الماضي, لكنه ربح بنسبة 52,6%. عندما تحول هبوط الليرة إلى انهيار في شهر أغسطس, لم تتراخى قبضة أردوغان على البلاد. بدلًا من هذا, ناشد بنجاح الهوية, والدين, والكرامة الوطنية لإبطال منطق السوق وإبعاد المسئولية عن الفوضى. لا يزال خصوم أردوغان في تركيا يتنبأون بأن الاقتصاد سيُسقط القائد التركي, وعندما هبطت الليرة خلال الصيف, كان هناك قلق في واشنطن, وفي وول ستريت, وفي الصحافة من أن سوء الإدارة الاقتصادي الأخير سيتسبب في عدم استقرار بتركيا وما وراءها. إنه مثال كلاسيكي على عدم تقدير مؤيدي الحتمية الاقتصادية لقوة الأفكار.

المثال المضاد لتركيا هو مصر تحت حكم حسني مبارك. لقد شهد تجاوزات كل من جمال عبد الناصر وأنور السادات, لذلك نجح في الوصول إلى حل وسط. خلال عقده الأخير في السلطة, دعا مبارك المصريين إلى حماية "الاستقرار من أجل التنمية." من وجهة نظر صُناع السياسة الأمريكيين في ذلك الوقت, حقيقة أن مبارك عيّن فريقًا معنيًا بالسياسة الاقتصادية مكونًا من إصلاحيين تم تمكينهم لاتّباع سياسات نيوليبرالية كانت تطورًا إيجابيًا والذي سيضع مصر أخيرًا على مسار النمو المستدام والاستقرار. ربما كان هذا مُرضيًا من الناحية المادية لمن استفادوا من الخصخصة, وسعر الصرف الأكثر مرونة, وبيئة الاستثمار الأكثر تساهلًا, لكن لم يكن هناك شيء مُرضٍ من الناحية المعنوية في الدعوة للاستقرار. إن فشل مبارك في التعبير عن مستقبل إيجابي وراق يؤمن به المصريون أوضح أنه كان من الصعب حشد أي شخص للدفاع عنه عند أول علامة على المشاكل. إن الأشخاص الذين يخبرونك بأن الاقتصاد له أهمية قصوى كانوا سيتوقعون نتيجة مختلفة.

إن كل الأشخاص الذين أعرفهم تقريبًا في مجتمع الباحثين يوافقون عندما يقول أحد إن "الأفكار مهمة," لكن هذا الإجماع لا يُترجم إلى سياسة بسهولة. كيف تخبر موظفًا في الخارجية أن يشجع الكرامة والرؤية الإيجابية للمستقبل؟ بالنسبة لمجموعة موهوبة مثل الدبلوماسيين الأمريكيين, هذا شيء ليسوا مجهزين لفعله. إنه ليس مكانهم حتى لفعله. مع هذا, الفهم الأفضل للتفاعل الديناميكي بين الاقتصاد, ونوعية السياسة, والكرامة سيخدم الجميع. بتلك الطريقة, في المرة المقبلة التي يثور فيها العرب ويطالبون بـ"العيش, والحرية, والعدالة الاجتماعية," سوف نعرف أن التنمية الاقتصادية ليست الشيء الوحيد الذي يريدونه.

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا