فورين بوليسي | تداخل المفاهيم.. كيف أصبحت القوة الناعمة امتداداً للقوة الصلبة؟

ترجمات رؤية

ترجمة بواسطة – شهاب ممدوح

منذ ثلاثة عقود تقريبا، طرح العالم السياسي الأمريكي والمسؤول السابق في إدارة كلينتون "جوزيف ناي" فكرة على صفحات مجلة "فورين بوليسي". أطلق عليها اسم "القوة الناعمة"، وهو المفهوم الذى انتشر  انتشارًا واسعًا، وبات سمة مميزة لفترة ما بعد الحرب الباردة.   

لقد جادل "ناي" أنه بالرغم من أن الولايات المتحدة كانت تبدو أضعف نسبيًا عما كانت عليه عند نهاية الحرب العالمية الثانية، إلا أنها مازالت تملك مصدرًا فريدًا للقوة يمكنها الاستفادة منه. بعيدًا عن استخدام القوة العسكرية "لفعل الأشياء والتحكم في الآخرين"،حيث قال "ولجعل الآخرين يفعلون أمورًا لا يريدون فعلها"، فانه يمكن للولايات المتحدة الاستفادة من قوتها الناعمة –قوتها غير القسرية- لتعزيز موقعها القيادي في العالم.

لقد كان من السهل، طبعًا، قياس القوة الصلبة. فنحن يمكننا إحصاء عدد الصواريخ والدبابات والقوات. (وحسب السؤال الشهير الذي قيل أن جوزيف ستالين طرحه ذات مرة: "كم عدد الفرق العسكرية التي يملكها البابا؟") لكن ماذا كان مضمون قوة أمريكا الناعمة؟

لقد صنّفها "ناي" في ثلاث فئات: ثقافية وإيديولوجية ومؤسساتية. إن العالم يرغب في أن يكون مثل الولايات المتحدة في هذه المجالات. وهذا الانجذاب، بدوره، سيساعد الولايات المتحدة على تشكيل العالم. يقول "ناي" إنه "لو استطاعت دولة ما أن تجعل قوتها تبدو شرعية في أعين الآخرين، فإنها ستواجه مقاومة أقل ضد أمنياتها" أي أنه، حسب كلام "ناي"، "لو كانت ثقافة الدولة وأيدولوجيتها جذابة، فإن الآخرين سيتبعونها بكامل إرادتهم". بالنسبة ل "ناي"، فإن القوة الناعمة الأمريكية تقوم على أساس السياسات الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق الحر والقيم الأساسية مثل حقوق الإنسان، أي الليبرالية من ناحية الجوهر.

في الربع قرن الذي أعقب مفهوم "ناي" عن القوة الناعمة، توالت فصول الشؤون العالمية ضمن الخطوط العريضة لتوقعات "ناي". فعقب انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة، حظيت الليبرالية الأمريكية بجاذبية لا مثيل لها حول العالم. فالكل كان يرغب في التصويت، والكل كان يرغب في ارتداء الجينز، والكل أراد حرية التعبير- لدرجة ان المنظّر السياسي "فرانسيس فوكياما" صاغ عبارة "نهاية التاريخ" لتوضيح فكرة ان العالم كله كان يجنح بسرعة نحو نقطة نهاية سياسية وصلها الغرب بالفعل.

في العقود الممتدة بين الثمانينيات والعقد الثاني للألفية الجديدة، نما عدد الديمقراطيات الليبرالية  من 100 إلى 150. كما زاد عدد اقتصاديات السوق الرأسمالية الحرة، بناءً على تصنيفات نشرتها صحيفة "وول ستريت جرنال" و "مؤسسة هيرتيدج"، من 40 إلى ما يقرب من 100. لم يحدث من قبل في تاريخ الإنسانية أن تخلى هذا العدد الكبير من الدول عن العديد من الأفكار السياسية والاقتصادية القديمة من أجل تبنّي نظام جديد. ربما أطلق "ناي" على ذلك اسم "القوة الناعمة"، لكنني أطلق عليها اسم التحول العظيم.

وفي مجال العلاقات الدولية، وكما دعا "ناي"، تزعمت الولايات المتحدة تحركًا لتأسيس وتوسيع مؤسسات دولية ستدعم نظامها الجديد، مثل منظمة التجارة العالمية، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي. كما وسّعت أمريكا من نطاق تحالفاتها من أجل ضمّ منافسيها السابقين إلى صفّها.

لقد تطورت الأمور بصورة مماثلة في أوربا، إذ لعب الاتحاد الأوربي دورًا مماثلاً لدور الولايات المتحدة. لجيل كامل، راقب العالم بذهول كيف تخلت عشرات الدول طوعًا عن جزء كبير من سيادتها لكي تكون خاضعة لمجموعة مشتركة من القواعد المستندة إلى القيم الليبرالية ذاتها. لقد كان اقتراح الاتحاد الأوربي متوافقا بشكل تام مع مفهوم "ناي" عن القوة الناعمة، إذ كانت كل الدول الأعضاء والمحتمل انضمامها للاتحاد تريد ما يريده غرب أوربا. وهذا كان ينطبق أيضا على تركيا، ذلك البلد الإسلامي الكبير الذي يملك ثقافة وقيمًا مختلفة تماما، وكذلك أوكرانيا التي خاطرت بدخول حرب مع روسيا من اجل الانضمام للاتحاد الأوربي.

لقد سارت العديد من الأمور بصورة خاطئة. أولاً، المنتجات لم تكن في الواقع تليق بالزبائن. فبداية من ديمقراطيات "الموجة الثالثة" في عقدي السبعينيات والثمانينيات، مرورًا بدول شرق أوربا التي سارعت للانضمام للاتحاد الأوربي وحلف الناتو بعد الحرب الباردة، وصولاً إلى الدول التي خاضت تجربة الربيع العربي مؤخرًا، واجهت الديمقراطية الليبرالية وقتًا صعبًا في الثبات في موقعها. وفي حالات كثيرة، أسفرت هذه الديمقراطية عن نتائج كارثية للشعوب التي خاضت غمارها.

هناك نظرية تفسر لماذا أدّت الثورة الاقتصادية النيوليبرالية، والتي كانت جزءًا لا يتجزأ من عصر القوة الناعمة، لإضعاف الدول بدلاً من تقويتها. فالسوق لم يكن مطلقا قوة موحِّدة- إن فكرة أن السوق يمكن أن يكون آلية جامعة تحقق النمو والحكم الرشيد والرفاهية المجتمعية، كانت مجرد وهم منذ البداية.

لقد تناول عالم الاجتماع الألماني "ولفغانغ ستريك" بالتفصيل هذه الفكرة أثناء مؤتمر في تايوان هذا الصيف. إذ حذر هذا العالم من أن القوة الناعمة المعولمة ببساطة "تتجاوز قدرة المجتمعات الوطنية والمنظمات الدولية على بناء مؤسسات اقتصادية وسياسية فعّالة". وفي المقابل تؤدي "زيادة الديون وتصاعد اللامساواة وعدم استقرار النمو" لحدوث "أزمة عامة في إمكانية الحكم السياسي-الاقتصادي". وقد أسفرت هذه الأزمة عن ثورات محلية ضد المعقل الأصلي للقوة الناعمة. .يطلق "ستريك" على ذلك اسم "استعادة السيطرة". وربما نسميه نحن صعود نجم دونالد ترامب في أمريكا، وفيكتور كوربان في المجر، وحركة خمس نجوم وحزب الرابطة في إيطاليا.

حتى الآن، أسفرت هذه الثورات عن ظهور أغلبيات حاكمة معادية لليبرالية في النمسا والتشيك والمجر وإيطاليا وبولندا والولايات المتحدة. لقد وصلت الليبرالية لحالة مؤسفة لدرجة أنها باتت تكافح للبقاء حتى في أماكن كان المفترض أن تزدهر فيها.

ثانيًا، كانت الولايات المتحدة، وبالتبعية أوربا، واثقتين للغاية من فعالية قوتهما الناعمة لدرجة أنهما أفرطتا في دعوة بقية دول العالم لاعتناق أنظمتهما. وكما قال "أنطوني لايك"-الذي شغل منصب مستشار الامن القومي في إدارة أول رئيس أمريكي بعد الحرب الباردة، بيل كلينتون- فإن رخاء أميركا في المستقبل يعتمد على "الترويج للديمقراطية في الخارج". لقد أصبحت تلك الفكرة أكثر تطرفًا عندما صرّح الرئيس "جورج بوش" الابن بمقولته الشهيرة بإن الولايات المتحدة "أمة أخلاقية" وقال إن "الحقيقة الأخلاقية هي ذاتها في كل ثقافة وفي كل زمان وفي كل مكان". لقد كانت تلك قوة ناعمة تغلب عليها روح المغالاة.

في كتابه الذي صدر مؤخرًا "Has the West Lost It?" يصف "كيشور ماهبوباني"، وهو أكاديمي سنغافوري ودبلوماسي سابق، كل هذا بأنه غطرسة غربية. في الواقع، ربما تكون كلمة غطرسة هي الكلمة المناسبة لما حدث. إن الثقة الغربية في فعالية وشرعية القوة الناعمة كانت كبيرة لدرجة ان الغرب استخدم قوة صلبة هائلة باسم القوة الناعمة. إن حرب العراق هي أبرز مثال على هذا. وكان التدخل في ليبيا، بدعم أوربي، هو آخر مثال على هذا. وفي كلا الحالتين، تُركت الولايات المتحدة وأوربا في وضع أسوأ.

ثالثا، إن غطرسة القوة الناعمة خلقت وهمًا مفاده أن القوة الناعمة يمكنها البقاء مستقلة. لكن حتى "ناي" نفسه لم يقل ذلك. في الحقيقة، فإن القوة الناعمة هي امتداد للقوة الصلبة وستبقى دومًا كذلك. تخيلوا لو أصبحت الولايات المتحدة فقيرة ومشرّدة وضعيفة مثل العديد من الديمقراطيات الجديدة حول العالم، لكنها احتفظت في الوقت ذاته بقيمها ومؤسساتها الليبرالية. حينها سيرغب عدد قليل فقط من الدول في أن يكون مثلها. إن فكرة أن القوة الناعمة ربما تستطيع أن تكون فعّالة بمفردها، هي الأساس الذي بُني عليه الاعتقاد الخاطئ للغاية بأن العراق سيصبح تلقائيًا ديمقراطية ليبرالية بعد الإطاحة بصدام حسين.

لقد بُني مشروع الاتحاد الأوربي، ربما أكثر من غيرة، على فهم خاطئ للقوة الناعمة. لعقود طويلة، كانت أوربا بصورة أساسية منتفعة بالمجان في لعبة القوة الناعمة، إذ ضمنت الولايات المتحدة أمنها، وكانت رفاهيتها الاقتصادية معتمدة على النظام الاقتصادي العالمي بقيادة الولايات المتحدة. ونظرًا لان الولايات المتحدة باتت اليوم أقل اهتمامًا بتوفير هاتين الميزتين- فضلا عن تزايد تركيزها على القوة الصلبة- باتت أوربا اليوم تواجه تحديات حقيقية.

المشكلة الرابعة هي أن القوة الناعمة هي في الحقيقة هشّة للغاية ومن السهل الانقلاب عليها. لمدة عقدين، بدت القوة الناعمة، مدعومة بالإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وكأنها قوة كاسحة يتعذر وقفها. إذا وقفت القوة الناعمة خلف العديد من الثورات الملونة التي أطاحت بحكومات وقطعت أوصال دول. لقد هلل الغرب عندما نشر الفيسبوك وغوغل نيران الثورة في ميدان التحرير في القاهرة وفي "ميدان" في كييف. لكن الغرب لم يكن سعيدًا عندما استخدمت روسيا الأسلوب ذاته لتقويض الأوضاع السياسية في الغرب.

عندما كان الغرب واثقا من قوته الناعمة، فإنه كان يؤمن باعتقاد مفاده أنه كلما زاد انفتاح المجتمع، كان الوضع أفضل. لكن الآن، باتت تُسمع دعوات بصورة روتينية في وسائل الإعلام والغرف التشريعية تنادي بفرض رقابة على أجزاء من الإنترنت. تخضع شركات الإنترنت العملاقة اليوم لضغوط سياسية واجتماعية هائلة لفرض رقابة ذاتية على محتواها. والعديد من هذه الشركات، من بينها فيسبوك وغوغل ويوتيوب، باتت تفعل هذا بالفعل.

اليوم، باتت القوة الصلبة في كل مكان. والولايات المتحدة بلا شك هي أكبر لاعب في هذه اللعبة: نار وغضب ضد كوريا الشمالية، وحروب تجارية ضد الجميع، وتقويض لمنظمة التجارة العالمية، واستخدام قوانين محلية لمعاقبة شركات أجنبية على ممارستها التجارة مع دولة ثالثة. من جانبها، تبدو أوربا مرتبكة وعاجزة عن التفكير. إذ يدعو بعض الساسة الأوربيين، من بينهم المستشارة الالمانية أنغيلا ميركل، للوقوف بحزم ضد ترامب، بينما يدعو آخرون، من بينهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، للسلام.

وبالطبع هناك روسيا. فبفضل استخدامها البارع لقوتها الصلبة المحدودة لكن التي ماتزال ضخمة، استطاعت روسيا تحقيق أهم مكسب على الأرض عبر القوة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وذلك بانتزاعها جزيرة القرم من أوكرانيا, في غضون ذلك، غيّرت تحركات روسيا العسكرية في سوريا من مسار الحرب الأهلية هناك لصالحها.

هناك أيضا قوى صلبة صغيرة. أبرزها كوريا الشمالية، التي التقى زعيمها "كيم يونغ أون" بـ ترامب كشريك مساوٍ في الصيف الماضي، وذلك بالرغم من شيطنته لوقت طويل من جانب العالم الغربي. ما كان للزعيم "كيم" أن يحقق هذا الإنجاز لو لم يتمكّن من تصنيع أسلحة نووية. حتى الآن، كان لقوة "كيم" الصلبة مردود ممتاز.

ما من شك في أن عصر القوة الناعمة قد تراجع لحساب عصر القوة الصلبة، وهذا أمر خطير. لقرون عديدة، أسفرت سياسات القوة الصلبة عن معاناة إنسانية لا حدود لها. في القرن العشرين لوحده، تسببت القوة الصلبة في حربين عالميتين وحرب باردة طويلة هددت بإفناء البشرية.
من الممكن أن نتطلع لشيء أفضل هذه المرة. وهنا يأتي دور الصين. في مقالة "ناي" الأصلية عن القوة الناعمة، نادرًا ما ذُكر اسم الصين. وعندما كان يُذكر اسمها، كان يتم ربطها بالاتحاد السوفيتي، او يتم تجاهلها بوصفها بلدًا يفتقد لأي قدرة، سواء كانت صلبة أو ناعمة، لتحدّي الهيمنة الغربية.

بعد مرور ثلاثين عامًا، يبدو تجاهل "ناي" للصين أمرًا غريبًا. ففي عصر القوة الناعمة، كانت الصين البلد الرئيسي الوحيد الذي خالف الاتجاه السائد. لقد دمجت الصين نفسها في النظام الدولي الذي تشكّل عقب الحرب العالمية الثانية، عبر إقامة علاقات ثقافية واقتصادية عميقة وواسعة مع كل البلدان تقريبا في العالم. وهي الآن أكبر بلد تجاري في العالم وفي التاريخ. لكنها رفضت بثبات أن تصبح زبونًا مفتونًا بالقوة الناعمة الغربية. لقد هندست الصين بمفردها عملية انتقالها المعقدة للغاية من اقتصاد مخطط مركزيًا إلى اقتصاد حر، لكنها رفضت السماح للسوق بأن يسمو فوق الدولة. وقد رفضت التعريفات الغربية للديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، واحتفظت وعززت من نظامها السياسي القائم على الحزب الواحد.

والنتيجة؟ خلافا لمعظم الدول التي مرّت بعملية التحول العظيم للديمقراطية، نجحت الصين بسرعة وبمدى لم يسبق لهما مثيل في التاريخ البشري. لقد تحولت الصين من بلد زراعي فقير إلى أكبر اقتصاد صناعي في العالم من حيث تعادل القوة الشرائية. وأثناء عملية الانتقال هذه، انتشلت الصين 700 مليون إنسان من الفقر. يُطلق "جراهام أليسون"، الأستاذ في جامعة هارفارد، على هذه المعجزة اسم "هرم الفقر". منذ أربعين سنة مضت، كان تسعة من أصل عشرة صينيين يعيشون تحت "خط الفقر المدفع" الذي حدده البنك الدولي. اليوم، انقلب هذا الهرم، إذ يعيش عشرة بالمائة فقط من الصينيين تحت هذا الخط.

إن هذه الإنجازات يمكن أن تكون نتيجة لنوع جديد من القوة الناعمة.

منذ عقدين تقريبا، صاغ الخبير الاستراتيجي الصيني الكبير "جينغ بيجان" المصطلح التالي "الصعود السلمي" للتعبير عن الطموحات التي رسمتها الصين لنفسها. على مدار السنين، واجهت فكرة الصعود السلمي الكثير من التشكيك. يشير المنتقدون، على سبيل المثال، إلى التوترات في بحر الصين الجنوبي لإثبات أن نوايا الصين ليس في الواقع سلمية. كما حذر "أليسون" أن الولايات المتحدة والصين، بغض النظر عن نواياهما، قد يسقطان فيما يسمى بفخ ثيوسيديس، إذ يؤدي تصاعد قوة بلد ما لبث الخوف في القوة المهيمنة الأخرى (الولايات المتحدة)، ما يسفر عن اندلاع حرب بينهما. في كتابه الأخير "Destined for War"، أشار أليسون إلى أن معظم الحالات الستة عشر التي صعد فيها نجم قوة جديدة، انتهت بحرب دموية.

إن صعود الصين السلمي بات حقيقة على الأرض، كما هو واضح من اقتصادها وتجارتها الهائلة، وقوتها العسكرية المتزايدة. وبالمقارنة مع صعود القوى العظمى الأخرى في التاريخ- إمبراطورية أثينا، والإمبراطورية الرومانية، والإمبراطورية البريطانية، وتوسع الهيمنة الأمريكية، وألمانيا وفرنسا واليابان المعاصرة، وهي الدول التي ترافق صعودها مع حدوث عنف رهيب- فإن صعود الصين حتى الآن كان أكبر وأسرع من كل هذه الدول.

مع هذا، حدث هذا الصعود الصيني بشكل سلمي. من دون غزو أو استعمار بلد آخر، ومن دون شنّ حروب.

تعمل الصين الآن على تحويل تركيزها من القوة الصلبة إلى القوة الناعمة، في وقت يبدو فيه العالم سائرًا في الاتجاه المعاكس. لقد دعا الرئيس الصيني "شي جين بينغ" مثلا لإقامة "مجتمع يجمعه مصير مشترك" يُسمح فيه للدول برسم طريقها التنموي الخاص بها، وفي الوقت ذاته تعزيز الترابط بين دول العالم. في مجال السياسة العامة، يتجسد هذا النوع من القوة الناعمة في مبادرة "الحزام والطريق"، التي تستفيد من رؤوس أموال الصين الهائلة وقدرتها على قيادة نموذج تنموي أساسه مشاريع البنى التحتية في دول أخرى، لتحفيز النمو الاقتصادي الذي ستستفيد منه الصين نفسها. إنه اقتراح جديد محتمل للقوة الناعمة: "لا يتعيّن عليكم أن تكونوا مثلنا، ولا يتعيّن عليكم أن ترغبوا فيما نرغب به، ويمكنكم المشاركة في شكل جديد للعولمة والاحتفاظ في الوقت ذاته بثقافتكم وأيدولوجيتكم ومؤسساتكم". وهذا من نواحد عديدة هو نقيض مقترح "ناي".

في عصر ما بعد الحرب الباردة، ربط الغرب بين القوة الناعمة والليبرالية، لكن ذلك الربط لم يكن ضروريًا مطلقا. في القرن التالي، ربما تكون اليد العليا للقوة الناعمة المنفصلة عن الإيديولوجيا. ليس هناك شك، على الأقل في بكين، بأن أي قوة ناعمة تحتاج إلى قوة صلبة من أجل بقائها ونجاحها. لكن اقتراح الصين هو أكثر استيعابًا للاختلاف. وبفضل حرصها على عدم إجبار الدول الأخرى على اتباع نهجها، يمكن لنسخة الصين الجديدة للقوة الناعمة أن تجعل القرن الحادي والعشرين أكثر سلمًا. لهذا، ينبغي للعالم أن يتبنّى القوة الناعمة الصينية.  

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا