فورين بوليسي | سلباً وإيجاباً.. ما هو تقييم الدبلوماسيين والخبراء بالشأن الإيراني لمحمد جواد ظريف؟

بسام عباس

ترجمة بواسطة – بسام عباس


مايكل هيرش: مراسل الشؤون الخارجية بصحيفة فورين بوليسي

محمد جواد ظريف، المسؤول المتفانٍ والمخلص للجمهورية الإسلامية، الذي كان كل من الغرب والمتشددين الإيرانيين ينظرون له بعين من الشك.   

لظريف الكثير من الأصدقاء خارج إيران.و كان الرجل ذائع الصيت، متقناً للإنجليزية، براعته  في اللغة اكتسبها حينما كان يدرس الدراسات العليا في كلية كوربل جوزيف للدراسات الدولية في جامعة دنفر. كان شديد الترحاب، وكثيرًا ما كان يدعو المحاورين والصحفيين الغربيين إلى مكتبه الفسيح في الأمم المتحدة، ليقدّم لهم الشاي الحلو والفستق الإيراني. 

كان ظريف أيضًا دبلوماسيًّا بارعًا، رجل يعرف كيف يستغل كل فرصة لصالح بلده المعزول، ومع ذلك، وجد نفسه مهزومًا في النهاية، ليس على يد مواطنيه، بل على يد أولئك الغربيين ممن ليس لديهم البصيرة النافذة لإيجاد حل وسط معه. ولم يجرحه شيء أكثر من الاتفاق النووي الذي جرى التوصل إليه في عام 2015، والذي كان أحد مهندسيه، حيث توصل إلى وعد للإيرانيين بإيجاد مخرج من العقوبات الغربية الساحقة، الاتفاق الذى سُحق في النهاية.

وعلى مدى ما يقرب من عشرين عامًا، كان ظريف، البالغ من العمر 59 عامًا، نائبًا لوزير الخارجية، ثم سفيرًا لبلاده في الأمم المتحدة، وأخيرًا وزيرًا للخارجية، وقد لعب دورًا مركزيًّا في محاولات إيران الرامية إلى تحقيق تسوية مع الغرب، وفي كل مرة تبوء جهوده بالفشل أمام واشنطن، وقد تأتي الضربة القاصمة من اقتصاد إيران المتدهور، الذي أصبح يعاني بسبب الضغوط الأمريكية المتجددة.

بالنسبة لأولئك الدبلوماسيين الأمريكيين الذين تعاملوا مع ظريف ويعرفون تاريخه، فإن رحيله عن المشهد يشير إلى أنه بعد عام تقريبًا من انسحاب الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” المفاجئ من الاتفاق النووي الإيراني، فإن العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران على وشك أن تأخذ منعطفًا مأساويًّا نحو الأسوأ.

يقول “جيمس دوبينز”، وهو دبلوماسي أمريكي سابق عمل عن كثب مع “ظريف” في أعقاب أحداث 11 سبتمبر: “لقد كان حاسمًا في إبقاء إيران في اتفاق خطة العمل المشتركة الشاملة (JCPOA) [الاسم الرسمي للاتفاق النووي الإيراني]”. وأضاف أنه إذا تغير الوضع، فسوف نواجه أزمة جديدة في المنطقة. واستطرد قائلاً: “إنه دبلوماسي ماهر، ومحاور موثوق به، ورفيق جيد. وهو للأسف، ما لم تكن الإدارة الأمريكية الحالية تبحث عنه، ورحيله لا يبشّر بخير”.

فيما يرى آخرون ممن كانوا يتشككون في الاتفاق النووي الإيراني، أن استقالة “ظريف” قد تشير إلى نهاية التزام طهران بالاتفاق – وهو الموقف الذي أكده مؤخرًا مسئولون أمريكيون بارزون مثل مدير الاستخبارات الوطنية “دان كوتس” – ردًّا على الانسحاب الأمريكي؛ ومن ثم إعادة فرض العقوبات الأمريكية.

من جهته، قال “مارك دوبويتز”، رئيس مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات: “كان ظريف مفاوضًا للجنة التنسيق المشتركة الذي خدع وزير الخارجية آنذاك جون كيري، كما كان أيضًا الشخص الذي أقنع الغرب بأن خطة العمل المشتركة الشاملة (JCPOA) تسد الطريق على الوصول للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية العابرة للقارات”. وأضاف: “سيكون من الحكمة أن يلتزم المرشد الأعلى الإيراني “علي خامنئي” بهذه الرواية، رغم أن آخرين داخل إيران لن يكون لديهم ذلك الصبر للسير في ذات المسارات الطويلة للأسلحة النووية التي جرى التفاوض عليها من قبل ظريف، ونفاد صبرهم هذا قد يكون ضربة قاتلة لخطة العمل المشتركة”.

فيما ذهب خبراء آخرون في المنطقة إلى أن “ظريف” لم ينجح في النهاية في التوفيق بين الخلافات الأساسية بين العالم الغربي والنظام الذي ظل غير راغب في العمل مع النظام الدولي، وتجاهل تهديداته المستمرة لإسرائيل، فضلاً عن دعمه للرئيس السوري بشار الأسد وحزب الله.

حيث قالت “سوزان مالوني”، الباحثة في معهد بروكينجز: “ظريف ربما كان ساحرًا وفعالاً جدًا مع الجماهير الغربية، لكنه لم يفعل أي شيء في حياته المهنية؛ مما جعله على خلاف مع استمرار نظام شديد الاستبداد في إيران، أو على الأقل كشف معارضة للسياسات الإيرانية في جميع أنحاء المنطقة”.

إن السبب الحقيقي لاستقالة ظريف المفاجئة غير واضح، وردًّا على سؤال حول هذا الشأن، أشار مصدر في الحكومة الإيرانية إلى أن الرئيس حسن روحاني “لم يقبلها حتى الآن”. وبعد إلحاح شديد، أشار المصدر في تصريح لموقع “المونيتور” إلى أن ظريف “أعرب عن استيائه من عدم إبلاغ وزارته” بالزيارة الأخيرة التي قام بها الأسد، وأن ظريف “استُبعد من لقاء روحاني مع الرئيس السوري”. ونقل “المونيتو”ر تصريحًا لظريف في موقع “انتخاب” الفارسي قائلاً إنه: “لم يعد لديه مصداقية في العالم”.

وبناءً على الأحداث الأخيرة، من الممكن جدًا أن يشعر ظريف بهذا، ففي الوقت الذي عززت فيه طهران علاقتها مع الأسد – وهو منبوذ دولي آخر – جدّدت عداءها مع واشنطن، حيث لم يعد هناك مجال للتفاوض، على الرغم من جهود “ظريف” الحثيثة في أواخر العام الماضي لإبعاد أوروبا عن الولايات المتحدة، وإيجاد مصدر تمويل بديل لبلاده في مواجهة الجهود التي بذلتها إدارة ترامب مؤخرًا لعزل النظام الإيراني مرة أخرى.

في سبتمبر الماضي، أبلغ الرئيس الأمريكي الجمعية العامة للأمم المتحدة الصامتة بأنه لن يقتل الاتفاق النووي الإيراني “الفظيع” فحسب، بل سيفرض أيضًا عقوبات جديدة من جانب واحد تبدو وكأنها مصممة لإحداث انهيار للنظام الإيراني. وفي كلمته، وصف الرئيس الأمريكي القادة الإيرانيين بأنهم غير شرعيين، قائلاً إنهم لا يفعلون شيئًا سوى زرع الفوضى والموت والدمار”.

وقال ترامب في خطابه: “نطلب من جميع الدول عزل النظام الإيراني” ومنع “الأموال التي يحتاجها لتمويل أعماله الدموية”. أما بالنسبة لـ “ظريف”، فقد كانت النهاية مفاجئة لخمس سنوات من الجهد الدبلوماسي، و كان من المناسب بشكل ما أن يعلن استقالته بطريقة غربية للغاية، حيث كتب على صفحته على موقع “انستجرام”: “شكرًا جزيلاً لكرم الشعب الشجاع في إيران وحكومته على الـ 67 شهرًا الماضية. أعتذر بصدق عن عدم القدرة على الاستمرار في الخدمة، وعن جميع أوجه القصور أثناء الخدمة.. أتمنى لكم السعادة والجدارة”.

وتعود جهود “ظريف” للعمل مع الغرب إلى الأيام الأولى بعد 11 سبتمبر عندما كان نائبًا لوزير الخارجية الإيراني، وشارك في مؤتمر أواخر 2001 في بون حول حكم أفغانستان في مرحلة ما بعد طالبان، كما التقى بانتظام مع المندوب الأمريكي “دوبينز” الذي ذكر في وقت لاحق أن “ظريف” قدم بعض الاقتراحات المدهشة خلال الاجتماعات.

وأخبرني “دوبينز” في مقابلة أجريت معه في منتصف العقد الأول من القرن الحالي: “ذات مرة، في أواخر نوفمبر، كنا نتناول القهوة في إحدى غرف الجلوس بعد أن قام ممثل الأمم المتحدة بتوزيع مسودة الاتفاق الذي يشرح فيها نظام الحكومة الأفغانية الجديدة .. قال ظريف، وعينه تلمع: “لا أعتقد أن هناك أي شيء فيها يذكر الديمقراطية. ألا تعتقد أنه يمكن أن يكون هناك التزام بالتحول إلى الديمقراطية؟ كان هذا قبل أن تكتشف إدارة بوش أن “الديمقراطية” هي دواء الشرق الأوسط.  قلت: “هذه فكرة جيدة”. وأضاف الأمريكيون هذا إلى النص. ثم قال: “كما أنها لا تذكر الإرهاب الدولي.. ألا نعتقد أن الحكومة الأفغانية الجديدة يجب أن تلتزم بمكافحة الإرهاب الدولي؟” وعلى حد علمي، تم وضع ذلك أيضًا.

وأخبرني “ظريف” في مقابلات معه فيما بعد، أنه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر كان المعتدلون داخل النظام الشيعي في طهران  يسعون إلى إيجاد أرضية مشتركة مع واشنطن. وأكدت مصادر إيرانية أخرى هذا الرأي في ذلك الوقت، ثم أصدر الرئيس الإيراني “محمد خاتمي”، الذي كان يعد مُصلحًا، بيانًا بهذا المعنى. وقال “محمد حسين عديلي”، نائب في وزارة الخارجية الإيرانية، لمجلة “نيوزويك” في عام 2003: “لقد أصررنا على أن الرئيس يجب أن يدين الهجمات بأسرع ما يمكن”.

وكان المرشد الأعلى “خامنئي” متشككًا من الولايات المتحدة، ولكنه وافق على ذلك، حتى أن بعض المسئولين الأمريكيين أسعدتهم مفاجأة التواصل مع طهران. وقال لي وزير الخارجية السابق “كولن باول” في مقابلة بعد أن ترك منصبه: “كنا نقيم اتصالات جيدة مع الإيرانيين في الفترة من عام 2001 وحتى عام 2002”.

لكن كل تلك الآمال تلاشت في خطاب (محور الشر) المشين الذي ألقاه الرئيس الأمريكي “جورج بوش” في أواخر يناير 2002، عندما جمع الرئيس الأمريكي إيران مع العراق وكوريا الشمالية في سلة واحدة، قائلاً: “مثل هذه الدول وحلفائها الإرهابيين يشكّلون محور الشر الذي يتسلح لتهديد السلام العالمي”.

وكما وصفه “ظريف” في مقابلة لاحقة معي، كان الخطاب بمثابة ضربة قاتلة للمعتدلين في طهران. وقال: “لقد دمر موقف من يعتقدون أن مساعدة الولايات المتحدة ستؤتي ثمارها”.

ومع ذلك، لعب “ظريف” دورًا محوريًا في محاولة سرية في ربيع عام 2003، مستخدمًا السفير السويسري في طهران كقناة خلفية لبدء محادثات واسعة النطاق مع الولايات المتحدة حول القضايا الرئيسية المعلقة، بما في ذلك برنامج إيران النووي الوليد آنذاك، والدعم الإيراني لحزب الله. لم تبرح المحادثات مكانها – فقد رفضتها إدارة بوش – ولكنها وضعت في نهاية المطاف الأساس لمحاولات “ظريف” بعد عشر سنوات للتفاوض على تسوية الأزمة النووية.

هذه الاتفاقية، التي أشاد بها بعض خبراء الأمن الإسرائيليين كجهد جاد لوقف برنامج إيران النووي – والتي سمحت للمفتشين الدوليين بالتحقق من وقف برنامج إيران لتخصيب اليورانيوم – كانت النقطة البارزة في مسار “ظريف” الدبلوماسي، وربما كانت أيضًا بداية النهاية بالنسبة له؛ لأنه عندما انسحب “ترامب”  في العام الماضي، زاعمًا أن دعم إيران المستمر للأسد وحزب الله يعني أنه يجب هزيمة النظام وليس التفاوض معه، كان ذلك إشارة أخرى للمتشددين داخل طهران بأن الغرب لا يمكن الوثوق به أبدًا.

ولكن بالنسبة للصقور في واشنطن، فإن خروج “ظريف” من المشهد ليس سوى دليل آخر على أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية لا يمكن الوثوق بها أبدًا. أما وزير الخارجية “مايك بومبيو”، الذي كان إلى جانب مستشار الأمن القومي “جون بولتون” في إدارة الجهود الرامية إلى عزل إيران،  فكتب تغريدة يوم الاثنين قال فيها: “إن ظريف والرئيس روحاني ليسا سوى واجهة لمافيا دينية فاسدة”.

وبالنسبة للعديد من الصقور في واشنطن، من المحتمل أن يكون هذا هو آخر مرثية دبلوماسية لجواد ظريف، ولن ينوحوا عليه. حيث قال “رويل مارك جيريخت”، [ خبير الشرق الأوسط وكبير أعضاء مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات]  ذو المواقف المعادية لإيران: “أفضل خبر سمعته منذ وقت طويل.. لم تنتج الجمهورية الإسلامية مسئول أكثر كذبًا ولا سخرية من الغربيين – خاصة جون كيري– بشكل فعّال أكثر منه، وفي النهاية، سحب المرشد الأعلى منه نعمائه وحمايته”.

ولكن بالنسبة لآخرين، فإن استقالة “ظريف” هي أمر محزن ومؤشر خطير للغاية، حيث قالت مالوني، الباحثة في بروكينجز: “كان ظريف شخصًا مفيدًا لسببين: الأول معرفته بالنظام الأمريكي، والثاني: مهاراته في التفاوض؛ ما يعني أن رحيله سيكون خسارة كبيرة للجانبين”.

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا