في الذكرى 73 لهزيمة 1948.. نكبة الشعب الفلسطيني تنقلب على الناكب

محمود

محمد عبد الكريم

القدس المحتلة – في كل عام ومع حلول ذكرى نكبة الشعب الفلسطيني في شهر مايو من عام 1948، يتبجح قادة الكيان الصهيوني، بأن دولتهم هي الأقوى وسط بحر من العرب والمسلمين، وأنها “باقية بل ولربما ستتمدد” بحسب الخرافات والأساطير التوارتية التي تعد بها من “النيل إلى الفرات”، إلا أن هذه الذكرى الـ73 اختلفت المعادلة.

لم تتغير معادلة القوة فلا يزال المحيط العربي_الإسلامي غارقا في أزماته، ولم تزل إسرائيل دولة نووية بجيش قوي، إلا أنه لم يستطع فرض شرط الساسة في كيان الاحتلال مع استمرار الصمود الأسطوري للمقاومة في غزة التي طالت صواريخها عصر اليوم السبت، مستوطنات الضفة الغربية قرب نابلس وقلقيلية، شمال الضفة الغربية، ومع تفجر الأوضاع في مختلف مدن وبلدات الداخل الفلسطيني عام 48، ومع تصاعد حدة ووتيرة المقاومة في الضفة الغربية لتبلغ بالأمس 250 نقطة مواجهة مع قوات الاحتلال، ومع استمرار فرض معادلة الصمود والثبات في العاصمة الفلسطينية القدس، فالأول مرة منذ عام 1948، باتت كل بقعة من مساحة فلسطين التاريخية هي نقطة مواجهة مع المحتل.

ومع بروز ملامح عدة مبادرات من بين غبار المعارك، أبرزها الدور المصري، للوصول إلى تهدئة توقف النار أعلنت حماس أنها أبلغت الوسطاء بأن مطلبها لوقف القتال هو وقف اعتداءات قوات الاحتلال الإسرائيلي في المسجد الأقصى، وألّا يُطرد أي فلسطيني من منزله، في حي الشيخ جراح، في مدينة القدس المحتلة.

وأشارت المقاومة إلى أنها  قادرةُ على الصمود في المعركة، والقتال لشهور طويلة، وبزخم أكبر من أي وقت مضى وإنّ بُنية المقاومة في غزة مُصمّمة لتصمد طويلاً في المعركة، ولتتجاوز نقاط القوة لدى الاحتلال.

يأتي ذلك بعد وقت قليل من استمرار المقاومة الفلسطينية في تثبيت معادلات ردع جديدة إزاء العدو، حيث أطلقت مئات الصواريخ على عمق الكيان الإسرائيلي، وصلت بعضها إلى اللد ومطار بن غوريون، وتل أبيب ونتانيا، وغوش دان، وعسقلان وأسدود وقواعد عسكرية في النقب.

من جهة ثانية، استمرت الغارات الإسرائيلية العدوانية على القطاع، ولا سيما في استهداف الأبراج السكنية والعمارات الشاهقة.

عودة المقاومة تنبض بالضفة

وشهدت مدن وبلدات الضفة الغربية المحتلة، صباح اليوم السبت، مسيرات واحتجاجات عقب تشييع جثامين 11 شهيدا ارتقوا بالأمس في المواجهات مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، في اكثر من 250 نقطة مواجهة في الضفة الغربية المحتلة.

وسجل إصابة أكثر من 1300 إصابة في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس (يشمل العدد الإصابات التي تم التعامل معها ميدانيا والتي نقلت لمراكز العلاج المختلفة).

أحد مقاطع الفيديو في جنين مجموعة مكونة من أربعة مقاومين على الأقل تطلق النار بكثافة صوب آليات العدو، فيما يوثق مقطع آخر مقاوماً يتمركز بوضعية «ركبة ونصف» ويطلق النار بوضع الإطلاق الفردي صوب جيش العدو. واللافت أن الاشتباكات الأخيرة فجر الأربعاء في المدينة توسعت إلى أحياء أخرى وطالت زمنياً حتى ساعات الصباح الأولى وليس فجراً وليلاً فقط. يقول مصدر لـ«الأخبار» إنه في جنين لم تتوقف الاشتباكات خلال أوقات الهدوء النسبي في فلسطين، إذ تشهد المدينة ومخيمها بين شهر وآخر إطلاق نار صوب جيش العدو خلال الاقتحامات والمداهمات الليلية. في هذه الأوساط، تشير التقديرات والأرقام إلى أن الضفة ستشهد تصاعداً وتوسعاً في نطاق المواجهات وعددها مع جيش العدو ومستوطنيه، وهذا يرتبط بمدى تصاعد العدوان وجولة التصعيد في غزة والأحداث في القدس والداخل المحتل. لكن القلق من ملاحقة السلطة والاحتلال المزدوجة يجعل كسر حاجز الخوف عند الجيل الشاب الجديد لا يأتي مرة واحدة بل تدريجياً.

القفزة الكبيرة في عدد نقاط المواجهة بين يومين وعمليات إطلاق النار الأكثر عدداً في ليلة واحدة منذ سنوات الانتفاضة الثانية جاءت نتيجة تصاعد ذروة ضربات المقاومة وصواريخها التي أدت إلى دعم معنوي لجيل الشباب بعكس التوقعات، إذ كان يتوقع بعض الناشطين وأنصار خيار المقاومة أن تتقلص رقعة المواجهات في فلسطين كلها ويندفع المشهد نحو خوض غزة حرباً منفردة، أي إن يدفع دخول السلاح وراجمات الصواريخ على خط النار إلى انحسار موجة الغضب والمواجهة الجماهيرية، لكن هذا التحليل جاء عكس الواقع. ففي الحروب السابقة على غزة، استغرقت الضفة وقتاً أكبر للتفاعل مع الحدث بجماهيرية واسعة بعكس جولة التصعيد الجارية.

الداخل المحتل

المشهد لم يكن حكراً على الضفة فقط، الداخل الفلسطيني والأراضي المحتلة منذ العام 1948 لا تزال مشتعلة منذ خمسة أيام. الفلسطينيون يهاجمون اليهود في المدن المختلطة، بسبب القمع الذي رأوه ضد سكان القدس والجرائم المرتكبة بحق أهل غزة، إضافة لإلى تواطىء الشرطة مع المستوطنين وحمايتهم في هجماتهم التي شنوها ضد الفلسطينيين في يافا وعكا وحيفا واللد والرملة.

لعل أبلغ فعل أقدم عليه فلسطينيو الـ 48 إلى اللحظة تجسّد في فهمهم قدرتهم الهائلة على «حرق الدولة»، وهذا المصطلح ليس بمعنى إضرام النيران في الحيّز العام بكل ما يحويه من «ممتلكات ومؤسسات عامة» ورموز كرّستها المؤسسة الصهيونية التي تحتل أرضهم فحسب، وإنما بمعنى حرق المشروع الذي تحاول إرساءه المؤسسة منذ سنوات، القائم على مفاهيم «التعايش والسلم الأهلي والاندماج والأسرلة»، وأيضاً بمعنى إثبات القدرة على فهم الصراع بوضوح مهما بلغت محاولات حرفه.

ما حدث خلال اليومين الماضيين في المواجهات التي اندلعت في أكثر من مدينة وقرية عربية من جليل فلسطين المحتل شمالاً إلى جنوبها، ملتحماً مع الصواريخ التي أطلقتها المقاومة من غزة، يحمل دلالات مهمة وأعمق من تلك التي تبعت أحداث الانتفاضة الثانية عام 2000. فماذا يعني أن يهرب المحتلون الصهاينة من اللد خوفاً على حياتهم جراء استشراس قلة من المناضلين من الأهالي في الدفاع عن مدينتهم ضد المستوطنين؟ وماذا تعني مشاهد إطلاق النار على شرطة العدو في رهط وشقيب السلام؟ ماذا يعني أن يتحول السلاح الذي يزهق أرواح فلسطيني الـ 48 يومياً بجرائم العنف إلى رؤوس الذين يسلّمونه لأيدي القتلة، وهذا ما نبّه إليه أمس المراسل العسكري للقناة الـ 13 ألون بن دافيد، حين تحدث عن أن الجيش رفع درجة الجهوزية في المعسكرات القريبة من المدن والبلدات الفلسطينية تحسباً من عمليات إطلاق نار ينفذها فلسطينيون في حوزتهم أسلحة!

الأهم من ذلك كله: ماذا يعني إعلان حالة الطوارئ الخاصة في اللد وغيرها من المدن أو البلدات المحتلة واستقدام فرق «حرس الحدود» من الضفة المحتلة بسبب إعلان الشرطة فقدانها السيطرة على الوضع، ثم اضطرار رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، نفسه إلى الحضور شخصياً إلى اللد وعكا، فيما غزة تسطر بطولات جديدة وتذلّ جيشه؟ لعل هذا كله يعني أن أكبر أنظمة العالم وأشدها تماسكاً وقوة قد تتفكك في لحظة واحدة بسبب «برغي» صغير انحل من عقدته، وأن جبلاً هائلاً قد ينهار بسبب حصى صغيرة ترقد أسفله. كما يعني ما قاله الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، ذات يوم في بنت جبيل، «إن إسرائيل هذه أوهن من بيت العنكبوت»، القول الذي يعيد تذكّره الفلسطينيون الآن.

أما الأخطر، فهو كيف انقلب «تطويع وترويض» الداخل المحتل إلى أولوية للمؤسسة الأمنية والعسكرية والسياسيّة في إسرائيل، كما تحوّل ترميم عمقها المهشم إلى مسألة لا تقلّ إلحاحاً من البحث في محاولات ترميم صورتها التي مزقتها صواريخ غزة المحاصرة. فنتنياهو الذي وصل فجر أمس إلى اللد، وبعد ساعات من ذلك إلى عكا، كان واضحاً في تصريحه: «الوضع غير مقبول بتاتاً». ولعل ما كان أوضح ملامحه الخائبة المهزومة اليائسة التي تذكّر بملامح وجه سلفه، إيهود أولمرت، أيام حرب تموز 2006!

إذاً، استطاع فلسطينيو الـ 48 تنظيم قواعدهم، وهم الذين أعلنوا بوضوح قبل شهرين أنهم خارج المعركة الخائبة في أروقة الكنيست، عندما قررت الغالبية العظمى منهم مقاطعة الانتخابات والمعركة التي لم تجلب لهم سوى مزيد من الذل لسنوات! ولئن كانوا يخوضون الآن حرباً ضد محتلّيهم، فقد يضطرّون مع تطور الأوضاع إلى خوض حرب ضد من زعّموا أنفسهم قادة عليهم، أولئك المهزومين الذين يحاولون اليوم رمي مكعبات الثلج على حريق هائل، كمنصور عباس، وأولئك المنشغلين في قضايا مثل بضعة براميل زبالة وأعمدة كهرباء مكسّرة والدعوة إلى الحفاظ على البيئة من الدواليب المحترقة!

لعل هؤلاء غاب عنهم أن جيلاً كاملاً ينشأ بعيداً من دعواتهم، وفي قلب أزقّة الفقر المهمّشة والغيتوات المكتظّة وبين رصاص منظمات الجريمة، ويكبر على أصوات قنابل الصوت والهلع ومشاهد القتل وأخذ الثأر وجمع الخوات، وفي قلب منظومة إسرائيلية تقوم على طحنهم وإذلالهم يومياً. لعل هؤلاء غاب عنهم أن منصات مثل «تيك توك» قادرة على التحشيد وتنظيم الناس أكثر منهم! قد يفيد تذكير هؤلاء بأنه قبل أيام من هذا كله، كانت إسرائيل تخطط للبدء في أكبر مناورة عسكرية في تاريخها، «عربات النار»، تلك التي كان من المفترض أن تستمر شهراً للتدرب على كيفية التعامل مع الحرب على جبهات متعددة، وأنه قبل أن تبدأ المناورة وجدت إسرائيل نفسها أمام الخلاصة التي قالها يوماً الشهيد غسان كنفاني: «الحرب هي أن تتوقع كل شيء وألا تجعل عدوك يتوقع شيئاً». لقد حدث ذلك، ولم تتصور تلك القيادة أن قدرتها عاجزة إلى هذا الحد إزاء التعامل مع جبهة ونصف جبهة: غزة تمطرها بالصواريخ في العمق، والفلسطينيون الأحرار يمزقون بأظفارهم وجهها القاسي.

كل ذلك دفع الحكومة إلى الاستعانة بـ«اليد اليمنى للدولة»: عصابات «تدفيع الثمن»، و«ليهافا» و«شبيبة التلال» و«لافاميليا» وغيرها من العصابات الصهيونية والتنظيمات التي تتدرب منذ سنوات على قتل وترويع وترهيب الفلسطينيين في الضفة والقدس والأرض المحتلة عام 1948، وترتكب بحقهم أنواعاً مختلفة من الاعتداءات. ففي ساعات المساء أمس، هاجمت هذه التنظيمات محالّ الفلسطينيين في يافا واللد والرملة وعكا وحيفا مستخدمة السكاكين والأسلحة النارية، ومستعينة بـ«الممتلكات العامة» لتخريب ممتلكات الفلسطينيين، وهي مشاهد عنيفة لم يسبق أن حدثت بهذا الزخم. أما الفلسطينيون، فتصدّوا ببسالة بصدورهم العارية وأجبروا الشرطة والمستوطنين على التراجع.

الأقصى والقدس

لا تزال المواجهات مع شرطة العدو ومستوطنيه مستمرة في القدس المحتلة والمسجد الأقصى، فرغم إفشال المقاومة والمرابطين «مسيرة الأعلام» الإسرائيلية والاقتحام الكبير للأقصى في الـ28 من رمضان، يشهد المسجد توترات يومية ومواجهات كر وفر، إذ يقتحم عناصر شرطة العدو الأقصى بصورة محدودة ولمدة قصيرة ومرة واحدة خلال اليوم، فتندلع مواجهات يتصدى فيها المرابطون للاقتحام ثم يواصلون التحصن في المسجد القبلي.

ولوحظ أنه تقلص عدد المرابطين خلال الأيام الأخيرة عقب إفشال اقتحام المستوطنين لكن بقيت المسيرات العفوية داخل الأقصى والهتافات والتكبيرات المؤكدة قدسية المكان والاستعداد للتضحية من أجله. ووفق مصادر مطلعة فإن عدداً كبيراً من المرابطين عادوا إلى محافظاتهم في الضفة وضواحي القدس وقد فوجئوا برسائل تهديد عبر هواتفهم المحمولة من مخابرات العدو تحمل هذا النص: «مرحباً! تم تشخيصك كمشارك في أعمال عنف بالمسجد الأقصى. سوف نقوم بمحاسبتك… المخابرات الإسرائيلية».

أما خارج أسوار الأقصى، فتستمر المواجهات في عدد من النقاط والبلدات والأحياء لكن على نحو أخف من الأسابيع السابقة. ويرى مراقبون أن انخفاض عدد نقاط المواجهة يعود إلى نجاح الهبة الجارية في إفشال المشاريع الإسرائيلية من مثل الإخلاء الفوري لمنازل حي الشيخ جراح، و«مسيرة الأعلام» بثلاثين ألف مستوطن من باب العمود وصولاً إلى القدس القديمة، واقتحام عشرات آلاف المستوطنين للأقصى في 28 رمضان.

دول الطوق

هذا المشهد امتد إلى خارج الفلسطين، ودول الطوق عادت إلى الواجهة، إذ توجّه عشرات الشبان من لبنان إلى الحدود الفلسطينية. قطعوا السياج الفاصل ودخلوا إلى الأراضي المحتلة قبل أن يطلق العدو عليهم النار ويصيب شاباً في بطنه. أمّا في الأردن فتوجّه المئات إلى الحدود. الجيش الأردني حاول صدّهم بإطلاق النار في الهواء. هكذا كان المشهد اليوم في فلسطين ومحيطها، كما سقطت عدة قذائق من جانب الحدود السورية على فلسطين المحتلة أيضا.

ربما يعجبك أيضا