قاعدة منع الغناء في السعودية كسرتها “توحة” وأنهتها إطلالة “الست”

هالة عبدالرحمن

كتب – هالة عبدالرحمن
شهدت المملكة العربية السعودية تاريخًا طويلًا من السجال والصراع حول موضوع الموسيقى والأغاني منذ عقود طويلة مع بداية انطلاق الأغنية السعودية الحديثة، وظهور وسائل الإعلام.

وعلى الرغم من كل التحريمات التي استمرت لعقود إلا أن الإنتاج الغنائي في السعودية قدم قامات فنية رفيعة على مستوى العالم العربي على رأسهم فنان العرب محمد عبده والفنان الراحل “صوت الأرض” طلال مداح والذي أثار ضجة كبيرة ببثه أول أغنية وطنية في تاريخ المملكة بالإذاعة الرسمية وهو ما فتح بابا كبيرًا أمام المؤيدين والمعارضين للغناء في السعودية وأصبحت مسألة رأي عام تدخل فيها التيار الديني بشدة والذي عارض الأمر بحجة فتح الطريق لبث الخلاعة والمجون بين المواطنين، ونشطت الكثير من المجلات والصحف على رأسها مجلة “راية الإسلام” لمواجهة صنيع الإذاعة الرسمية للبلاد بالعديد من المقالات التي تحرم الغناء.

وبدأت أولى جولات السجال حول تحريم الغناء وإباحته في السعودية قبل أكثر من 55 عاما، على صفحات مجلة “الرائد” عام 1381، بعد أن كتب الشيخ أبوتراب الظاهري سلسلة مقالات حول مسألة الغناء، تحت عنوان “الكتاب والسنة لم يحرّما الغناء ولا استعمال المعازف والمزامير والاستماع إليها”، حيث ذكر في تحقيق المسألة أن الغناء وآلاته والاستماع إليه مباح ولم يرد في الشريعة التي جاء بها صلى الله عليه وسلم نص ثابت في تحريمه البتة.

بينما رد عليه الشيخ عبدالعزيز بن باز في مقال طويل بعنوان “الأدلة من الكتاب والسنة تحرم الأغاني والملاهي وتحذر منها”، وبدأه بالتعجب من جرأة أبي تراب الشديدة تبعا لإمامه أبي محمد على القول بتضعيف جميع ما ورد من الأحاديث في تحريم الغناء وآلات الملاهي وتأويل الآيات الواردة في ذلك على غير تأويلها.

ثم انطلق السجال الثاني في الثمانينيات الميلادية، على خلفية ما ذكره الشيخ محمد الغزالي حول القضية في كتابه “السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث” عندما قال إن الأحاديث التي وردت في ليلة النصف أقوى من الأحاديث التي وردت في تحريم الغناء، ثم استشهاده بمذكره ابن حزم الأندلسي.

وفي عام 1431 تجدد السجال بعد فتوى الشيخ عادل الكلباني الذي قال “الذي أدينُ الله به هو أن الغناء حلال كله ولا دليل يحرمه من الكتاب والسنة، وأن كل حديث استدل به المحرمون إما صحيح غير صريح أو صريح غير صحيح، ولا بد من اجتماع الصحة والتصريح لنقول بالتحريم، بينما وصف الشيخ الدكتور سعد الدريهم، فتوى الكلباني وقتها بأنها من شذوذ القول، وقال: الصحابة متفقون، وكذلك التابعون والأئمة الأربعة من بعدهم، على حرمة الغناء، وليس لمن بعدهم أن يخرق هذا الإجماع.

وبغض النظر عن المؤيدين والمعارضين، فإن الواقع فرض نفسه منذ زمن بعيد، لأن تاريخ الغناء في المملكة العربية السعودية يحفل بأسماء مطربين وملحنين كبار حملوا على عاتقهم مهمة صعبة في وسط اجتماعي محافظ ومقيد بألف قيد وقيد، فنجحوا بشق الأنفس في المحافظة على التراث الشعبي الغنائي في الحجاز ونجد والإحساء وتهامة، وتطويره ونشره محليا وخليجيا وعربيا. الأسماء الأولى التي لعبت دورا في هذه العملية الشاقة كثيرة يأتي على رأسها طارق عبدالحكيم، ومحمد علي سندي، وفوزي محسون، وعمر كدرس، وجميل محمود، وغازي علي، وطلال مداح، وعبدالقادر حلواني، وعبدالله محمد، وسلامة العبدالله، ومطلق الذيابي، وسعد إبراهيم، وغيرهم.

واستطاعت “توحة” أنْ تكسر القاعدة، فعُـدّت بذلك أول مطربة وملحنة سعودية على الإطلاق. وتوحة هي الإسم الفني لـ �فتحية يحيى حسن� التي ولدت في الأحساء في عام 1934 لأسرة حجازية محبة للفن والأدب والتراث والغناء، وقدمتْ توحة في بداية مشوارها ثلاث أغنيات هي: “دعاني مرة وقالي”، و”راعيني ولا تكابر”، و”صحيح مني انتهيت”، وكلها من كلمات ثريا قابل وألحان فوزي محسون. لكن الأغنية التي كانت سببا في شهرتها وانطلاقتها هي أغنية “أشر لي بالمنديل” التي ترسخت في أذهان محبي الطرب.

ومر الغناء في السعودية بأربع مراحل وثقها كتاب “الفنون الشعبية في المملكة العربية السعودية” للمؤلف محمد بن أحمد الثميري برواية محمد بن عيد الضويحي والذي أصدره عام 1972.

ونشأت في المرحلة الأولى إذاعات أهلية لعل أشهرها “إذاعة طامي” في الرياض لصاحبها عبدالله الطامي (1921- 2000م)، وإذاعة في الدمام لعبدالله الشعلان، وعلى الرغم من أن إذاعة جدة قد أسّست عام 1949م إلا أن �إذاعة طامي� تمكّنت من نقل الأخبار السياسية والاجتماعية، وبث الأغنيات، وبخاصة تسجيلات الأسطوانات رغم منعها من البث في الإذاعة الرسمية قبل افتتاح إذاعة الرياض (1964م).

وشهدت المرحلة الثانية انطلاق الفنانين والإذاعة الرسمية، حيث أتيح وقتها جهاز الغرامافون (أو صندوق الغناء) نهاية الأربعينيات تهريبًا إلا أنه لم يسمح به رسميًّا حتى عام 1961م، فيما كان إنشاء وزارة الدفاع السعودية لمدرسة موسيقات الجيش العربي السعودي عام 1953م حدثًا بارزًا حين عاد من دراسته في القاهرة وترأسها طارق عبدالحكيم والذي عرف مغنيًا وملحنًا للكثير من نجوم الغناء في العالم العربي وقتها، وانطلقت خلال هذه الحقبة أصوات كثيرة بعضها لأول مرة يظهر مثل غازي علي وطلال مداح وجميل محمود.

وكرست المرحلة الثالثة تكريس انطلاقة الأغنية الجديدة من بعد المسرح والأسطوانات حين أسّس طلال مداح ولطفي زيني والشاعر المنتظر شركة “رياض فون” مطلع الستينيات، واستطاع مداح أن يقدم تجربة ملفتة في تطوير الأغنية السعودية، ووضعها على قدم المساواة والغناء العربي آنذاك في منافسة قوية في القاهرة وبيروت والكويت من خلال نقلات مهمة في تجربته “وردك يا زارع الورد” عام1960م.

وبدأت بوادر المرحلة الرابعة في النصف الثاني من التسعينيات (نهاية القرن العشرين)؛ إذ دخلت صناعة الكاسيت مرحلة النهاية بظهور الشبكة الإلكترونية، وخدمة تحميل وتداول الأعمال الفنية رقميًّا بوصفها مادة إعلامية بالرغم من ظهور صناعة الأسطوانة الرقمية إلا أنها لم تستطع أن تصمد.

غير أن الفضائيات شكلت فرصة كبيرة لتحقيق الانتشار لأي مغنٍّ أو مغنية، وأسهم تصوير الأغنيات أو نقل بث الحفلات في تكريس الأسماء الجديدة وإعادة تلميع الأسماء المخضرمة، وقد استطاع موقع اليوتيوب وما يماثله أو يعتمد على خدمته من مواقع أخرى أن يكسر سلطة جهاز التحكم عن بعد وسلطة نظام برامج الفضائيات وعناء الانتظار والتوقع، وظهرت في هذه الحقبة أسماء جديدة مثل: راشد الماجد، وراشد الفارس، ووعد، وجواد العلي، وعباس إبراهيم، وأسيل العمران، ودعمت حناجر عربية في هذه المرحلة وبرز منهن أنغام وذكرى وأصالة ويارا ومنى أمرشة.

وبعد عقود من من المنع، عاد التلفزيون السعودي الرسمي لبثّ أغاني أم كلثوم؛ الشهيرة بـ “كوكب الشرق”، عقب توقف استمر أكثر من 3 عقود من بثّ الأغاني النسائية على الشاشات السعودية الرسمية.

واختار التلفزيون السعودي عبر قناته “الثقافية” عرض أغاني الفنانة أم كلثوم؛ لأسباب عديدة، منها: عدم احتواء عديد من أغانيها أيّ كلمات أو جمل خادشة للحياء، كما أنها لا تحمل أيّ صور من المشاهد المخلة، كما هو في بعض الأغاني والفيديو كليبات الحديثة.

وعلى الغرار نفسه ستنطلق القناة الثقافية السعودية بعرض أغاني فيروز ونجاة الصغيرة وأخريات ولاسيما مَن عاصروا ظهور التلفزيون السعودي في بداياته، مع مراعاة الذوق العام في كل ما يُعرض سواءً للأصوات الرجالية أو النسائية.

ربما يعجبك أيضا