كيف توقع صدام حسين فشل أمريكا فى العراق؟

أميرة رضا

ترجمة بواسطة – شهاب ممدوح

في عام 1917، وخلال الحرب العالمية الأولى, قاد جنرال بريطاني يُدعى السير "فريدريك ستانلي مود" جيشا قوامه ستون ألف جندي بريطاني وهندي من البصرة أعلى نهري دجلة والفرات باتجاه بغداد. وكان العدو هو الجيش التركي, المكوّن من خمسة وعشرين ألف جندي, والذي كان يدافع عن إقليم العراق الذي كان حينها جزءا من الإمبراطورية العثمانية المتداعية.

لم يكن الجنرال "مود" قائدا عسكريا مبدعا (لقّبه جنوده باسم "جو النظامي"), لكن غزوه للعراق لم يتطلب الكثير من القتال. حيث أبلغ الجنرال رؤساءه بأن "الجيش التركي الذي واجهناه مؤخرا" حسبما يقول الجنرال مود "لم يعد موجودا بوصفه قوة مقاتلة بسبب الإصابات في صفوفه, وأسرى الحرب, وتدهور معنوياته, وخسارته لنسبة كبيرة من مدفعيته ومخازنه". قاد الجنرال مود جيشه إلى داخل بغداد ممتطيًّا حصانة المتبختر في الحادي عشر من مارس, ثم أصدر بعدها, تمشّيا مع التقاليد البريطانية العريقة, إعلانا يقول فيه: "لقد جئناكم محررين, لا محتلين" لكن العراقيين كان لهم رأي آخر.

أطلقت العشائر العراقية في عام 1917 تمردا استمر حتى شهر أكتوبر لعام 1920. ردّ البريطانيون على التمرد بزيادة عديد قواتهم, ثم أوكلوا مهمة الحرب إلى سلاح الجو, الذي ناقش إمكانية استخدام الغاز السام ضد القرى العراقية المضطربة. لقد كان وينستون تشرشل, وزير المستعمرات في حينها, مؤيدا لهذه الفكرة. حيث قال: "أنا لا أفهم هذه الحساسية الشديدة تجاه استخدام الغاز" ومضى قائلا "أنا أؤيد بشدة استخدام الغاز ضد القبائل غير المتحضرة".

فشلت ثورة العراقيين (وبدون مساعدة الغاز السام) لكن البريطانيين تعلموا الدرس, وسلّموا إدارة البلاد إلى عميلهم العربي, فيصل بن الحسين, ثم انسحبوا بعدها. توارث حكم العراق بعد الملك فيصل مجموعة من أقربائه, لكن السلطة الحقيقة كانت في أيدي "نوري السعيد", وهو مجرم يرتدي بدلة مكونة من ثلاث قطع.

في عام 1958, أقدمت مجموعة من الضباط العراقيين على إطلاق النار على أفراد عائلة الفيصل في باحة قصرهم في بغداد, ثم طارد هؤلاء الضباط نوري السعيد (الذي فرّ من العاصمة متخفيًّا في زي امرأة) قبل أن يعدموه. أما تمثال الجنرال "مود", في بغداد, فقد تم حرقه.

في صيف عام 2002, وبينما كان فريق الجنرال الأمريكي "تومي فرانك" منهمكًا في إعداد خطة غزو العراق (التي عُرفت فيما بعد باسم عملية حرية العراق) استدعى صدام حسين الفريق الركن "رعد الحمداني" من مقرّه. كان حمداني, وهو سنّي حضري, قائد إحدى الفرق النخبوية في قوات الحرس الجمهوري التابع لصدام, وكان من بين قلة من الضباط العسكريين الذين وثق فيهم الديكتاتور صدام. لقد كسب حمداني هذه الثقة من خلال خدمته لمدة خمسة وعشرين عاما في الجيش العراقي, وقتاله في ستة من الحروب التي خاضتها بلاده, حيث أصبح معترفًا به باعتباره أحد أكثر الضباط موالاةً للنظام. لقد كان حمداني المفكر والاستراتيجي الأبرز في الجيش العراقي. وهذا ما يفسر سبب استمتاع صدام بالتحدث إليه. درس حمداني التاريخ العسكري, وكان عادة ما يخبر الديكتاتور صدام عادة بما يقرأه ومعناه.

كان حمداني في صيف عام 2002 يركّز على معركة الاستيلاء على جسر "لوديندورف" أثناء الحرب العالمية الثانية, حيث كان هذا الجسر يمرّ فوق نهر الراين في مدينة ريماجين. كان ذلك الجسر في مارس عام 1945 آخر الجسور فوق نهر الراين, وكان الحلفاء مصممين على الاستيلاء عليه كما هو دون تدميره. كان الحلفاء يدركون أنه لو دمّر الألمان الجسر, فإن الأمر قد يستغرق أسابيع لاختراق الحدود الألمانية.

كان الألمان يدركون ذلك أيضا, ولذا فإنهم كانوا يحرسون المنافذ المؤدية إلى الجسر, حيث قاتلوا بشراسة لحرمان الوحدات الأمريكية من احتلال مواقع على الضفة الأخرى للنهر. وبينما كان الأمريكيون يقتربون من الجسر, تعرّضوا لوابل من قذائف المدفعية الألمانية, التي استهدفت مواقعهم المحتشدة على الضفة الغربية للنهر. رأى الألمان أنهم في أسوأ الظروف سيدمّرون الجسر في آخر لحظة. وبالتالي يعلق الأمريكيون على الضفة الأخرى للنهر, ويتعرّضون للمزيد من قذائف المدفعية الألمانية. قام مهندسو الجيش الألماني بتفخيخ أعمدة الجسر بالمتفجرات.

روى حمداني تلك القصة لصدام حسين. وقال له إن الأمريكيين قدموا, ثم فجّر الألمان الشحنات المتفجرة المزروعة على الجسر. لكن الشحنات لم تنفجر, واقتحم الأمريكيون الجسر. وختم حمداني روايته بالقول إنه في تلك اللحظة قُضي أمر ألمانيا. استمع صدام لكل هذا, لكنه لم يفهم ما المقصود. فشرح له حمداني ما يقصده. سيأتي الأمريكيون عبر الطرق السريعة الواصلة بين الكويت والناصرية, حسبما قال حمداني, وسيستهدفون الوصول إلى الجسور على نهر الفرات. أو أنهم  سيأتون من الجنوب الغربي. لكن أيًّا كانت نقطة انطلاقهم, يضيف حمداني, سيكونون مضطرين للسيطرة على الجسور فوق نهر الفرات, ونحن سنقاتل دفاعًا عن الجسور ونُبعد الأمريكيين غربًا باتجاه الصحراء, حيث سيكون من الصعب عليهم المناورة. ويمضي حمداني قائلا "عندما سيأتون, سندمّر تلك الجسور". لكن صدام رفض ما قاله. فالأمريكيون لن يأتوا, قال صدام. وأضاف أنهم "لا يرغبون في سفك دمائهم, فقد نالوا كفايتهم منه". لقد كان صدام واثقا ومتأكدا من ذلك. حيث نصح حمداني بأن لا يقلق, لأن الحرب لن تقع. لكنه كان مخطئا.

انطلقت عملية "حرية العراق" في التاسع عشر من مارس 2003, بحملة قصف جوية استهدفت القيادة السياسية للعراق. وتلا حملة القصف تلك غزو بري للعراق في فجر العشرين من مارس.

من ناحية اليمين, تقدمت القوة الاستطلاعية البحرية الأولى نحو حقول النفط الجنوبية, كما تقدمت الفرقة الأولى المدرعة البريطانية لتأمين شبه جزيرة الفاو, في أقصى جنوب شرق العراق, في مؤخرة القوة الاستطلاعية البحرية الأولى. من ناحية اليسار, تحركت الفرقة الثالثة للمشاة (وهي جزء من الفيلق الخامس القوي بقيادة الجنرال ويليام والاس) قليلا نحو الغرب, ثم استدارت بعدها شمالاً. لكن هدفها الأساسي كان الجسور فوق نهر الفرات, تماما كما توقع حمداني.

 علم الجنرال حمداني في الثاني من إبريل أن صدام يرغب في رؤيته في بغداد. شعر حمداني بالانزعاج, فلقد كان جنوده يقاتلون ويحتاجونه إلى جانبهم. لكنه كان ضابطا جيدا ووفيًا, وصدام كان قائده الأعلى. عندما رآه, لاحظ حمداني أن صدام لم يتغير كثيرًا عما كان عليه في الصيف الماضي. لكن صدام في هذه المرة أجلس ابنه "قصي" إلى جواره, وجلس بجانبه قائد الجيش, الذي كان يرأس حمداني. طلب صدام من حمداني أن يقدم له تقريرا, فقدم حمداني ملخصًا لوضع الحرب حتى ذلك الوقت. ثم دخل بعدها في تفاصيل خطط المعركة. قال حمداني: إن الأمريكيين قادمون بسرعة من ناحية الجنوب, وإنهم يتقدمون من ناحية الغرب بوحدات عسكرية أكبر. كان حمداني يخطط للتصدي لاندفاعة الأمريكيين, ومن ثم يفجر الجسور فوق النهر, ويدكّهم بالمدفعية من الضفة الأخرى للنهر. كان العنصر الأساسي في دفاعات حمداني هو جسر القائد على نهر الفرات, في شمال غرب الناصرية. كان حمداني يؤكد على ضرورة تدمير ذلك الجسر.  

استمع صدام إليه, ثم هزّ رأسه, والتفت إلى ابنه وقائد الجيش. قال صدام: إن الأمريكيين سيندفعون بصورة رئيسية من الأردن وتركيا في الشمال, وأن تلك كانت خطتهم للاستيلاء على بغداد. أخبر صدام حمداني أن عليه أن يعيد نشر قواته, وأن يسحبها من خطوط القتال من أجل الدفاع عن بغداد من ناحية الشمال. نظر حمداني إلى قائد الجيش, لكنه لم يتفوّه بكلمة. ردّ حمداني على صدام معترضًا, وقال: إن الأمريكيين باتوا بجانبه مباشرة, وإن قواته تقاتلهم الآن. هزّ صدام رأسه, وأمر حمداني بعدم تدمير تلك الجسور, لأننا سنكون بحاجة إليها. بعدها تحدث قُصي. وقال لدينا خطط للتصدي للأمريكيين. عاد حمداني بعد ثلاث ساعات ليشرف على قيادته العسكرية, التي امتدّت لثلاثين كيلو متر من الناصرية إلى الجنوب.  

لاحقًا, وأثناء سنوات منفاه الأولى في عمّان في الأردن, يتذكر حمداني هذه المحادثة التي جرت في بغداد, حيث كان يرويها مرارًا وتكرارًا لزوراه الأمريكيين. يقول حمداني: إنه لم يحب قُصي مطلقا, لأنه كان دمويا, ويؤثر على والده. ويضيف إن عدم تدمير الجسور كانت فكرته, ما أدى في النهاية لسقوط بغداد. لكن مع مرور السنين, وبعد تفكير, أضاف حمداني خواطره الخاصة لهذه القصة. لقد فكّر حمداني كثيرا بشأن الحرب. لقد كان هناك سبب لوجود قُصي ("رحمه الله عليه" يضيف حمداني دائما عندما يذكر قصي) في ذلك الاجتماع, وكان هناك سبب لظهور صدام, حتى في مواجهة الهزيمة, واثقًا من نفسه. يقول حمداني: "اعتقد الآن أن صدام كان بالتأكيد مدركا بأن الأمريكيين سيحققون الانتصار" . ويتابع قائلا: "صدام لم يكن أحمق. وبالرغم من أنه كان يتوقع انتصارنا, وكان يردّد ذلك عادة, ويقنع العديد من الأشخاص به, إلا أنه كان يعرف الحقيقة. وهي أن الأمريكيين سيندفعون بدباباتهم نحو بغداد ويحتفلون بانتصارهم. لكن هل سينجحون؟ هم لن ينجحوا أبدا. سيفعلون كما فعل الكثيرون من قبلهم. وكما فعل الجنرال فريدريك ستانلي مود. سيكسبون ثم سيفشلون. ويختم حمداني قائلا "وقد كان محقًا في ذلك" مضيفًا "لقد انتصرتم, لكنكم فشلتم بعد ذلك".  

المصدر – strategic-culture

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا