لماذا لن تنهار الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي؟

أحمد ليثي

الولايات المتحدة الأمريكية تشبه إمبراطورية من الطراز القديم، لكن دورها في العالم يتجاوز بكثير سلوكها الإمبراطوري.. فماذا لو تغير النظام العالمي؟


يعتقد كثير من الناس أن الحقبة الطويلة، التي هيمنت فيها القوة والثروة والمؤسسات والأفكار الأمريكية على النظام العالمي، في طريقها للزوال.

وحسب مقال لأستاذ العلوم السياسية الأمريكي، جون إكينبيري، تصر هذه الأصوات على أن العالم ينقاد إلى نظام ما بعد ليبرالي، تميزه منافسة القوى العظمى، والصعود الاقتصادي والجيوسياسي للصين.

الولايات المتحدة تفقد موقعها القيادي

أقر إكينبيري، في مقال نشرته مجلة “فورين أفيرز“، يوم الأربعاء 2 نوفمبر 2022، بأن الولايات المتحدة تفقد موقعها القيادي ببطء في النظام العالمي، مشيرًا إلى أن الشرق، متمثلًا في الصين والهند، ينافس الغرب في القوة الاقتصادية والثقل الجيوسياسي، وأن البلدان في الجنوب تنمو بسرعة، وتضطلع بدور أكبر على المسرح الدولي.

وسارعت الصين وروسيا إلى تحدي الهيمنة الأمريكية والليبرالية والديمقراطية، حين أصدرتا في فبراير الماضي إعلانًا مشتركًا للمبادئ، لبدء حقبة جديدة لا تقود فيها الولايات المتحدة العالم، بعدما تقوضت الشعبوية، التي قال المحلل السياسي إنها كانت تدعم قيادة الولايات المتحدة للعالم.

هل تنهار الهيمنة الأمريكية على العالم؟

جادل إكينبيري بأن الولايات المتحدة لا تنهار، مبررًا ذلك بالظروف التاريخية العميقة التي تعمل لصالحها، وترسخ وجودها المهيمن والمنظم للسياسات العالمية. ورغم تسليم الكاتب بأن المستقبل لا يملكه أحد، أشار إلى أن النظام العالمي الجديد سيتشكل من قوى سياسية معقدة ومتغيرة ويصعب فهمها، لكن ستظل قوة التأثير الأمريكي قائمة.

وشبه المحلل السياسي أمريكا بإمبراطورية من الطراز القديم، لكن دورها في العالم يتجاوز بكثير سلوكها الإمبراطوري، فهي لا تعتمد على القوة فحسب، بل الأفكار والمؤسسات والقيم المغزولة في نسيج الحداثة، على حد وصفه، ما يثبت أن النظام الذي شيدته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مترامي الأطراف ومتعدد الأوجه.

ما تدافع عنه أمريكا وما تريده الصين وروسيا

رأى إكينبيري أن الولايات المتحدة تدافع عن نظام دولي قادته على مدار  3 أرباع قرن، وهو نظام مفتوح ومتعدد الأطراف، ومرتكز على مواثيق وشراكات أمنية مع الديمقراطيات الليبرالية، في حين تسعى الصين وروسيا لتأسيس نظام دولي من دون القيم الليبرالية، على أن يكون أكثر اهتمامًا بالكتل الإقليمية الأخرى.

وأضاف أن الولايات المتحدة تدعم نظامًا دوليًّا يحمي ويدعم مصالح الدول الديمقراطية الليبرالية، في حين تأمل الصين وروسيا بناء نظام يحمي الحكم الاستبدادي من قوى الحداثة الليبرالية، وبينما تقدم الولايات المتحدة للعالم رؤية لنظام عالمي ما بعد إمبريالي، يصيغ القادة الحاليون لروسيا والصين سياسات خارجية ذات طابع إمبراطوري.

قوة لا غنى عنها في النظام العالمي

يعتبر إكينبيري هذا الصراع صدى للمنافسة الكبرى التي سادت القرن الـ20، خاصة بعدما قدمت الولايات المتحدة أجندة تقدمية للنظام العالمي، على أثر الحرب العالمية الأولى والثانية والحرب الباردة، واستند نجاح هذه الأجندة إلى القوة الفظة للولايات المتحدة، بقدراتها الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية التي لا تضاهى، على حد وصفه.

ويرى أستاذ العلوم السياسية أن الولايات المتحدة ستبقى مركز أي نظام عالمي جديد، بسبب هذه القدرات المادية، وبرر أهميتها لدول العالم بجاذبية أفكارها ومؤسساتها، وقدراتها على بناء الشراكات والتحالفات، بما يجعلها قوة لا غنى عنها في السنوات المقبلة.

كيف وضعت أمريكا النظام العالمي؟

شبه أستاذ العلوم السياسية النظام الدولي بثمرة البصل، التي تتكون من عدة طبقات، موضحًا أن الطبقة الخارجية من النظام العالمي تحمل الأفكار والمشروعات الليبرالية الدولية، التي أمنت الولايات المتحدة من خلالها طريقًا ثالثًا بين فوضى الدول المتنافسة، وبين التسلسل الهرمي الصارم للأنظمة الليبرالية.

وأشار إلى أن الولايات المتحدة استفادت من جغرافيتها ومسارها الفريد للتطور السياسي، وتكتسب نفوذًا سياسيًّا من خلال أداء دور فريد كموازن قوي عالمي بين القوى المتنافسة، وفي أعقاب الصراعات الكبرى، التي حدثت في القرن الـ20، أُتيح لها بناء تحالفات من الدول ذات التفكير المماثل، التي تشكل وترسي القواعد والمؤسسات العالمية.

أعظم نقاط قوة الولايات المتحدة

أشار إكينبيري إلى أن الحرب الروسية الأوكرانية أظهرت قدرة الولايات المتحدة على حشد التحالفات، باعتبارها إحدى المميزات التي تتمتع بها، فهي تربط بلاد العالم بشبكة نفوذ غير متوافرة للصين وروسيا وقوى أخرى، لكن إحدى أعظم نقاط قوة الولايات المتحدة، في نظر الكاتب، تتمثل في قدرتها على الفشل.

وأوضح أنه كمجتمع ليبرالي، يمكنه الاعتراف بنقاط ضعفه وأخطائه والسعي لتحسين نفسه، في حين أن خصومه غير الليبراليين لا يواجهون أنفسهم بالأزمات والنكسات. ولا تتمتع أي دولة أخرى بهذه المميزات في التعامل مع الدول الأخرى، ما جعل الولايات المتحدة تجلس على عرش النظام العالمي لفترة طويلة.

أمريكا هي الطريق الثالث

قال أستاذ العلوم السياسية، في مقاله عبر “فورين أفيرز”، إن الأممية الليبرالية سيطرت على المنطق الحديث للعلاقات الدولية، بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال بناء مؤسسات مثل الأمم المتحدة، وتحالفات مثل منظمة حلف شمال الأطلنطي (ناتو)، في حين اتجهت كل دول العالم لهذه المؤسسات لتعزيز مصالحها.

وأضاف أنه إذا سعت الصين وروسيا للدخول في نظام عالمي جديد، فعليهما تقديم شيء أفضل، وهو أمر شاق، موضحًا أن الهدف الأساسي لبناء النظام الليبرالي لم يتغير، وهو إنشاء نظام بيئي تعاوني تدير فيه الدول علاقاتها الاقتصادية والأمنية المتبادلة، وتوازن بين قيمها المتضاربة، في كثير من الأحيان، وتحمي حقوق مواطنيها وحرياتهم.

بناء نظام متماسك

حسب إكنبيري، لا تقتصر فكرة بناء نظام دولي حول القواعد والمؤسسات على الولايات المتحدة أو الليبراليين الغربيين أو العصر الحديث. لكن بناء النظام الأمريكي فريد من نوعه في وضع هذه الأفكار في قلب النظام العالمي، وما كان على الولايات المتحدة أن تقدمه هو مجموعة من الحلول لأهم مشكلات العلاقات الدولية.

ويجادل إكنبيري بأن مزايا النظام الذي تقوده الولايات المتحدة لا تكمن فقط في صنعه، ولكن في كيفية تحقيق هذا النظام، موضحًا أن الولايات المتحدة لم تصبح قوة عظمى من خلال الغزو، لكنها دخلت بانتهازية في الفراغات الجيوسياسية، التي نشأت في نهايات الحروب الكبرى لتشكيل السلام، بعد الحربين العالميتين والحرب الباردة.

ولايات كوزموبوليتانية

في رأي إكينبيري، ليست الولايات المتحدة قوة عظمى فحسب، بل إن مجتمعها بحد ذاته فريد من نوعه، فهي بلد مهاجرين، ومتعدد الثقافات والأعراق، ونتيجة لذلك، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بجميع مناطق العالم، من خلال الروابط الأسرية والعرقية والثقافية.

وحقق تقليد الهجرة في الولايات المتحدة أيضًا ثمارًا في بناء قاعدة رأس المال البشري في البلاد. ومن دون هذه الثقافة، ستكون الولايات المتحدة أقل ثراءً وتميزًا في مجالات المعرفة الرائدة، بما في ذلك الطب والعلوم والتكنولوجيا والتجارة والفنون، فبين 104 أمريكيين حصلوا على جوائز نوبل في الكيمياء والطب والفيزياء، يوجد 40 مهاجرًا.

المجتمع المدني

حسب المقال، يبني مزيج مجموعات المجتمع المدني في الولايات المتحدة، شبكة مؤثرة تمتد عبر الكرة الأرضية. وفي القرن الماضي، أصبح المجتمع المدني الأمريكي جزءًا من مجتمع مدني عالمي متوسع عابر للحدود، لكنه غالبًا ما يكون مصدرًا للتأثير الأمريكي، ما يعزز التعاون والتضامن عبر العالم الديمقراطي الليبرالي.

وفي العقود الأخيرة، تنخرط أبرز هذه المجموعات المدنية في الدعوة عبر الوطنية، التي تركز على قضايا مثل البيئة وحقوق الإنسان والمساعدة الإنسانية وحماية الأقليات، وهذا جزء من النظام الليبرالي الأمريكي لعالم ما بعد الحرب.

ربما يعجبك أيضا