لماذا يجد الباحثون صعوبة في دراسة منطقة الشرق الأوسط؟

ترجمات رؤية

ترجمة بواسطة – شهاب ممدوح

تتميز منطقة الشرق الأوسط بتنوعها الثقافي والسياسي والتاريخي، ما جعل من الصعب على الباحثين فهم تلك المنطقة الغامضة. يعود هذا الأمر بشكل رئيس لتعقيدات الماضي والحاضر في المنطقة نفسها، ويعود أيضًا للصورة الغامضة التي رسمتها المنهجيات التي استخدمها الباحثون في الماضي. وبالرغم من وجود مشاكل كثيرة، غير أنني سأوضح عددًا من تلك المشاكل الرئيسية، أي التاريخ والمسائل التعريفية والإسلام والمجال الخاضع لسيطرة الغرب والاستشراق وغياب التركيز النظري، تُبرز هذه الورقة التعقيدات التي واجهها باحثو الشؤون الدولية وعلماء الأنثروبولوجيا على حدٍّ سواء.

التاريخ
يمتلك الشرق الأوسط تاريخًا عميقًا وغنيًا يضمّ حضارات وإمبراطوريات قديمة، فضلًا عن دول وطنية مختلفة في العقود الحديثة نسبيًا. وبالرغم من وجود العديد من الأحداث التي شكّلت المنطقة، إلا انني بدأت دراستي من الإمبراطورية العثمانية. في عام 1299، وُلدت الإمبراطورية العثمانية، وفي السنوات التالية، صعد نجمها بسرعة هائلة؛ ما ألقى بظلال قوية على العالم. سيطرت الإمبراطورية العثمانية في ذروة قوتها على جزء كبير من شرق أوروبا والشرق الأوسط. 

لكن بالرغم من أن صعود الإمبراطورية العثمانية وتزايد هيمنتها غيّرا المشهد الجغرافي والسياسي – الاجتماعي في المنطقة، إلا أن انحدارها وانهيارها ربما ساهما في حدوث تغييرات أكبر. إن اضمحلال تلك الإمبراطورية حدث في فترة اكتسبت فيها النزعة القومية شعبية، وفي وقت أصبحت فيه الصهيونية والإمبريالية البريطانية – الفرنسية جهات فاعلة رئيسية في المنطقة. أنشأت بريطانيا وفرنسا مناطق انتداب تابعة لهما في الأقاليم غير التركية عقب حلّ الإمبراطورية العثمانية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. 

في عِقدي الأربعينيات والخمسينيات، تحديدًا عقب الحرب العالمية الثانية، أصبحت العديد من مستعمرات الشرق الأوسط، مثل الأردن وتونس والعراق، دولاً وطنية مستقلة، فيما نالت إسرائيل – أول دولة يهودية من نوعها- استقلالها. مع ذلك، لابد من الإشارة إلى أن الطريقة التي رسم بها البريطانيون والفرنسيون الحدود، والطريقة التي نصّبوا بها أنظمة موالية لهما، لا تزال تلقي بتداعياتها على المنطقة حتى اليوم. 

وقد فشلت الدول الوطنية الشرق أوسطية في بناء هوية وطنية في مرحلة ما بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، يُعزي البروفيسور "بي. آر. كومرسوامي" في مقالة له هذا الأمر إلى الإمبريالية البريطانية – الفرنسية، قائلاً إنه تحت حكمهما، إما أن المجتمعات الوطنية المتجانسة قد قُسِّمت لدول مختلفة، أو أن المجتمعات الوطنية المختلفة قد جرى ضمّها لبعضها لتشكيل دولة واحدة. بالتالي، أُنشِئت الدول الوطنية بالفعل، لكنها كانت مليئة بالمشاكل نتيجة لنشأتها غير العضوية والإشكالية. 

في الأزمنة المعاصرة، كانت هناك حروب وثورات وانقلابات وديكتاتوريات وحركات علمنة وانتفاضات إسلامية ونشاطات مطالبة بحقوق المرأة، فضلًا عن "الربيع العربي"، فيما تعاني المنطقة من انقسام شيعي – سُنّي ومن صراع عربي -إسرائيلي. لقد شهد الشرق الأوسط تاريخًا عميقًا من التسييس، وكان عرضة لنفوذ وتدخل خارجي كثيفين، وبالرغم من أن التركيز ينصبّ على المسلمين والإسلام، بيد أن المنطقة تحتضن أيضًا طائفة متنوعة من العرقيات والأديان، بداية من الأقباط المسيحيين في مصر وليبيا والسودان، وصولًا للكرد في تركيا وسوريا وإيران. 
 
إن العرب في السعودية والإمارات وبقية دول الخليج، يقابلهم سكان غير عرب يعيشون في إيران وتركيا. ويُنظر إلى هذه المنطقة بوصفها كتلة واحدة يُطلق عليها اسم "الشرق الأوسط"، لكن تلك المنطقة مليئة بالتعقيدات التاريخية والثقافية والسياسية تعيش وسطها العديد من الدول الوطنية المتنوعة، وقد شهدت هذه المنطقة – وما تزال – حالة عدم استقرار، وتاريخها -القديم والمعاصر- يثبت ذلك. 

مسائل تعريفية
إن تسمية "الشرق الأوسط" هي اختراع أوروبي، وهي محمّلة بالمعضلات التعريفية، ولا يوجد اتفاق عام بشأن الدول التي تتضمنها منطقة الشرق الأوسط، حيث تضم بعض التعريفات باكستان وأفغانستان للمنطقة، فيما لا تضمهما تعريفات أخرى. بالمثل، تضم تعريفات تركيا للمنطقة، بينما تستثنيها تعريفات أخرى. إن منطقة "الشرق الأوسط" ليست فقط اختراعًا أوروبيًّا، ولكنها لا تتضمن حدودًا ثابتة وواضحة. 

كما أن عدم امتلاكك لفكرة مسبقة عما يعنيه مصطلح "الشرق الأوسط" يزيد من صعوبة دراسة الحقائق على الأرض، إذ إن التعريفات المختلفة تزيد أو تقلل من الثقافات والعرقيات والأديان والظروف الاجتماعية والسياسية المختلفة التي تجري دراستها والتعميم عليها. إن عدم معرفة "الجهات الخارجية" بهويّات الناس في المنطقة هو أمر إشكالي، كما أن أسئلة من قبيل: "هل جميعهم عرب؟" و"هل جميعهم مسلمون"؟، توضح عقلية الأنغلو – أمريكيين، وكيف أن الدراسة الأكاديمية لم تعلّمهم بشكل فعّال.

الإسلام
أصبح مصطلح "الشرق الأوسط" مرتبطًا بالإسلام بالنسبة لغالبية العالم، والأمر ذاته ينطبق على المناقشات الأكاديمية المتعلقة بالمنطقة، ويشير العديد من الأكاديميين الغربيين إلى أن الإسلام هوالسبب وراء تخلف هذه المنطقة وانتشار الإرهاب والمشاعر المعادية للغرب فيها. إن هذه التعميمات قديمة للغاية، ويبدو أنها تصاعدت في الوقت الحاضر، ليس فقط في النقاشات الأكاديمية، ولكن أيضًا في وسائل الإعلام الرئيسية، كما أن تصاعد كراهية الأجانب والإسلامفوبيا في أمريكا (خاصة بعد انتخاب ترامب) وفي أوروبا، هو دليل على هذا الأمر. 

وينظر الخطاب والمجتمع الغربيان للإسلام بوصفه نقيضًا لوجودهما، وهذا لا يعني أن كل الكتّاب الأكاديميين نظروا إلى كيان كبير مثل الإسلام من منظور منحاز. إن قيام علماء الأنثربولوجيا بدراسة مجتمع محدد، ثم قيامهم بتعميم استنتاجاتهم على مناطق بأكملها، هو أمر يمثل إشكالية، ولا شك أن هذا الأمر يقوّض تنوّع الدين. كما يجب التشديد أيضًا على أن المجتمعات العرقية والدينية الأخرى في المنطقة جرى تهميشها لتركيز الباحثين حصريًّا على الإسلام.

ولا يعطي الباحثون أهمية لعلم الأجناس والعلاقات بين الأديان؛ لهذا أصبحت دراسة اليهودية والمسيحية في الشرق الأوسط قاصرة، كما أثارت دراسة الحركات الإسلامية الجدل في السنوات الماضية: أولاً، دراسة الحركات الإسلامية يعتريها نقص شديد من ناحية النقاشات الأكاديمية. لقد استُخدمت "نظرية الحركة الاجتماعية" غالبًا في الأمريكتين وأوروبا، لكن الأمر ليس كذلك فيما يتعلق بالحركات الشرق أوسطية. عندما تجري دراسة هذه الحركات، فإن تلك الدراسات يتفشّى فيها أحيانًا نقاش العلماني مقابل الديني، حيث يُعد الأول منطقيًّا وعقلانيًّا ومعاصرًا، بينما يُنظر للأخير باعتباره نقيض الأول. 
 
بالتالي، يُعدّ أعضاء الحركات الإسلامية "غير معاصرين" وأصوليين غير عقلانيين يستغلون الدين لخدمة أهدافهم. وفي سياق مسألة العلمانية والدين، تختلف الباحثة "أنابيل سربيرني" مع الطريقة التي يُدرس بها الإسلام، والتي تغفل السياسات العلمانية للمنطقة أو الأصوات المختلفة داخل الدين ذاته؛ حيث تقترح أن يستخدم التحليل أدلة تاريخية ملموسة وقائمة بالفعل.

مجال خاضع لسيطرة الغرب
إن مجال علم الأنثربولوجيا والعلاقات الدولية ليس له جذور غربية فحسب، لكنه يخضع أيضًا لسيطرة الباحثين الغربيين الذي يدرسون الغرب بصورة أساسية. لقد اخترع الباحثون الغربيون في دولهم نظرية العلاقات الدولية من أجل الجمهور الغربي، ويثير هذا الأمر بعض المشاكل بفضل خضوع هذه المجالات لهيمنة قلة قليلة. إن باحثي العلاقات الدولية لم يهملوا الشرق الأوسط فحسب عندما يتعلق الأمر بتطوير النظرية، لكن بعض الباحثين يذكرون أن هذه المنطقة فيما يبدو لا تتماشى مع نظريات العلاقات الدولية. وقد أسفر ذلك عن حالة عدم اهتمام تجاه الشرق الأوسط، مقارنة مع مناطق أخرى، لا سيما الغرب.
 
كما لم تهتم النظريات والنُهج الغربية بوجهات نظر المناطق المختلفة، لذا فإن ما يُسمى بالنظريات العامة لا يمكن تطبيقها على مناطق أخرى في العالم. ومن الواضح، حتى يومنا هذا، أن الاستعمار ومرحلة ما بعد الاستعمار أخضعا معظم العالم لعقائد وممارسات ونظريات وإطارات عمل صاغتها القوى الاستعمارية، فضلا عن أن العمليات العابرة للحدود الوطنية مثل التجارة والعمل ورأس المال بين دول المنطقة، لم تلق أيضًا اهتمامًا كافيًا. 

يجب أن يتزايد إدراج الشرق الأوسط في دراسات العلاقات الدولية، وتدريس هذه المنطقة في الكليات والجامعات. ولتصحيح النظريات المنحازة والعمومية، فإنه ينبغي إما العمل على صياغة نظرية عامة، أو تبنّي نهجي تعددي في النظريات الخاصة بالشؤون العالمية، وإذا لم تُصحح هذه المسألة، فإن الصورة المرسومة للشرق الأوسط والمناطق الممثلة تمثيلاً ناقصًا  ستكون مشوّهة نتيجة لكون نقاط البداية – أي النظريات والمنهجيات والنماذج وإطارت العمل – غير مناسبة للمناطق المختلفة.
 
ويعود استمرار الهيمنة الغربية أيضًا للقيود على الباحثين المحليين في الشرق الأوسط، تشتهر بعض بلدانه بقمعها للحريات الفردية وحقوق أفرادها، ويشمل هذا الحدّ من النقاشات الأكاديمية التي تعدّ غير مقبولة من وجه نظر النظام الحاكم، وهذه البيئة غير مواتية لتشجيع الباحثين المحليين المستقلين. 
 
الاستشراق
إن وضع قائمة بمجموعة المشاكل المتعلقة بدراسة الشرق الأوسط لن يكون كاملاً من دون الاستشهاد بكتاب إدوارد سعيد الكلاسيكي "الاستشراق" الصادر عام 1978. يجادل "سعيد" أن المنظور أو إطار العمل المستخدم لدراسة الشرق أو العالم الشرقي، الذي يتضمن الشرق الأوسط، ملوّث، ويقدم للمشاهد حقيقة خاطئة بشأن ما يتضمنه الشرق الأوسط بالفعل.

يقول "سعيد" إن هؤلاء الأكاديميين والفنانين استخدموا الانقسام بين الشرق والغرب كـ "نقطة بداية" لأعمالهم؛ وبالتالي، فإن أعمال المستشرقين الماضية ليست فاسدة فحسب، لكنها تستمر في كونها أساسًا مزيفًا لأي أكاديمي يرغب في الاستفادة منها. نتيجة لعوامل مثل حديث "سعيد" عن "الاستشراق، اضطر علماء الأنثربولجيا لإعادة التفكير في كيفية دراسة الشرق الأوسط. لسوء الحظ، لا توجد حتى الآن طريقة سليمة أو عامة لدراسة الشرق الأوسط. 
 
ووفقًا لإدوارد سعيد، فإن الاستشراق والاستعمار يسيران جنبًا إلى جنب، ويجادل أن الاستشراق هو أكثر من مجرد تحريف لحقيقة الشرق، فالأمر يعود أيضًا لموقف الغرب المتعالي، إذ يَعتبر نفسه معاصرًا ومُصيبًا، بينما يصوّر الشرق بوصفه متخلفًا. لهذا السبب برّر البريطانيون والفرنسيون، ولاحقًا الأمريكيون في القرن العشرين، احتلال الشرق الأوسط ماديًا، واحتلاله لاحقًا بطريقة غير مادية في مرحلة ما بعد الاستعمار. 

لقد ترك الاستعمار خلفه إرثًا سلبيًّا للغاية في المناطق المُستعمرة: إنشاء دول وطنية جديدة لديها مشاكل حدودية فيما بينها، وتنصيب حكومات أو ملكيات موالية للإمبريالية لحماية مصالحها. وللأسف فإن الاستشراق ومرحلة ما بعد الاستعمار هما حقيقتان على الأرض اليوم، إذ يجري تصوير العرب بوصفهم إرهابيين وأصوليين في هوليوود ووسائل الإعلام؛ وهذا يعني أن الشرق الأوسط الحقيقي وشعبه لا يزالان لغزًا غامضًا بالنسبة للجمهور الأنغلو – أمريكي.
 
غياب التركيز النظري
هناك أيضًا انتقاد، خاصة في مجال دراسة الأنثربولوجيا، مفاده أن هناك غيابًا للنظرية أو التركيز النظري في دراسة المنطقة، وقد ورد ذكر هذه المشكلة على لسان عدد غير قليل من الأكاديميين، ويبدو أنها واسعة الانتشار في الدراسات الشرق أوسطية.

 إن الأبحاث الأنثربولوجية الشرق أوسطية، خالية، إلى حدٍّ ما، من قضايا نظرية فيما يخص علم الأجناس. وقد تعرّض الباحثون لانتقادات بسبب عدم تركيزهم بما يكفي على الشواغل النظرية، وقولهم إن هذه المنطقة فريدة للغاية، لدرجة أنه لا يمكن تطبيق نظرية عليها. علاوة على هذا، أحجم معظم الكتّاب عن وضع نظريات جديدة، وركّزوا بدلًا من ذلك على مؤلفات موجودة بالفعل.

ومن دون صياغة نظريات جديدة، سيبقى الشرق الأوسط أكاديميًّا في الظلام، إنْ جاز التعبير، ولا ريب أن التركيز النظري وصياغة نظريات انطلاقًا من منطقة الشرق الأوسط، هما أمران ضروريان، ليس فقط للباحثين، ولكن للجمهور العام، خاصة في الغرب، إذ سيحقق هذا فهمًا أفضل لمنطقة يُساء فهمها للغاية في الوقت الحالي.

في الختام، إن دراسة الشرق الأوسط محفوفة بتعقيدات تجعل من الصعب للغاية دراستها، ولا شك أن كل المشاكل التي جرى نقاشها تلعب دورًا رئيسيًا في شرح سبب صعوبة دراسة تلك المنطقة. وبالرغم من أن قائمة القضايا التي جرى ذكرها ليست شاملة، بيد أن الورقة البحثية تَعتبر أن هذه القضايا هي الأكثر إلحاحًا. 

أخيرًا، لا ينبغي أن تمنع تلك المشاكل الباحثين من دراسة الشرق الأوسط، ولكن ينبغي أن تكون دليلاً لمساعدتهم على تجنب الأخطاء التي ارتُكبت في الماضي، كما ينبغي أن تقوّي فهمهم للمنطقة. ولو كانت دراسة الشرق الأوسط في مهدها، فإنها ستُزهر بمرور الوقت، لكن يجب أن يكون الاجتهاد والاستعداد للمشاركة موجودين لدى جميع الأطراف المعنية، سواء الأكاديميين أو الجمهور.   

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا