ما هى الثغرات فى برنامج فرنسا لمكافحة الإرهاب؟

أميرة رضا

ترجمة بواسطة – بسام عباس

لم يمض وقت طويل على بلوغه سن التاسعة عشر، إلا وكان ديفيد فالات، المواطن الفرنسي المولود لعائلة علمانية، قد اعتنق الإسلام. وقال إنه كان يواجه "أزمة وجودية"، وساعده إيمانه الجديد في كبح "سلوكه السيئ". وكان اعتناقه للإسلام بعد انضمامه للجيش الفرنسي في عام 1992، حيث قال: إن الجيش يحمي المسلمين البوسنيين في يوغوسلافيا. في وذلك الوقت، تم إرسال القوات الفرنسية إلى البلقان كقوات حفظ سلام تابعة للناتو، وانتهز فالات الفرصة للانضمام. 

وهناك التقى فالات بمقاتلين سعوديين وقطريين على خط المواجهة. كان لديهم "الزخم" الذي يعجبه، والشجاعة التي ينشدها. علموه أنه إذا أصبح مسلما حقيقيا، فلا يهم بعدها إذا عاش أو قتل في الحرب؛ فالله ينتظره في الجنة. وقد اكتسب صداقة العديد من أعضاء الجماعة الإسلامية المسلحة، التي سعت لتصدير الحرب الأهلية الجزائرية إلى الأراضي الفرنسية. وقالوا له إنه إذا أراد أن يكون شهيدا حقيقيا، فإنه يحتاج إلى "تدريب". (أدين اثنان ممن عرفهم، وهما خالد كلكال وأبو عالم بن سعيد، بتدبير تفجيرات باريس عام 1995).

عندما عاد فالات إلى فرنسا في عام 1994، بدأ التردد على مسجد السلفي الذي أوصى به أصدقاء الجزائريين. وفي المسجد، قيل له: إن الإسلام المعاصر هو نتاج استعماري، وإن الإسلام الحقيقي هو الجهاد والتضحيات والدماء. وإنه يجب القضاء على أي شخص يعارض الجهاديين. ثم تلا القرآن وبدأ يتعلم اللغة العربية.

وبعد عدة أشهر غادر فالات فرنسا للالتحاق بمعسكر القاعدة في الأراضي الخاضعة لسيطرة طالبان في أفغانستان حيث تدرب مع المقاتلين الصينيين والإنجليز واليمنيين والماليين والأتراك والتونسيين والجزائريين والفلبينيين في "الغرب المتوحش " كما وصفها، فلا توجد دولة ولا قوانين، فقط الدبابات والبنادق والمتفجرات. وقال فالات: "إنهم يفكرون فقط في الموت – كيف يقتلون ومن سيقتلون".

وبعد 10 أشهر من التدريب، عاد فالات البالغ من العمر 22 عاما إلى فرنسا للبقاء مع صديق جزائري التقى به في خلية سلفية في شاس-سور-رون، وهي بلدة صغيرة خارج مسقط رأسه ليون. وعمل قائدًا ناشطًا للقاعدة، وكان مستعدًا للعودة إلى البوسنة كموزع أسلحة ويموت في سبيل الله "مثل الأمريكيين في نورماندي". ولكن في 29 أغسطس 1995، بعد شهر فقط من انفجار قنبلة داخل مترو باريس ثمانية وأصيب 100، قامت السلطات الفرنسية بمهاجمة الخلية واعتقلت فالات. وحكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات لتورطه في أنشطة إرهابية.

في البداية، غضب فالات، واعتبر نفسه ضحية للنظام الاستعماري الفرنسي المناهض للإسلام. ولكنه، وفي عزلة عن الدعاية الجهادية وشبكة أصدقائه، أجبر على مراجعة أيديولوجيته. وبدأ يقرأ كتابين في الأسبوع ويسجل في المقررات الجامعية ويدرس الأدب الفرنسي والتاريخ والجغرافيا والفلسفة والكلاسيكية اليونانية. وقرأ ماكيافيلي وروسو مما أعطاه فكرة سياسية جديدة – فيما وصفه فيما بعد بأنه "هدية الإنسانية"، حيث تعتبر إمكانات الخير البشري قوة أكثر أهمية من أي شيء إلهي.

والآن، وبعد أن بلغ سن الأربعين، أصبح "مبرمجا تماما". مؤكدًا أنه لن يعود إلى الجهاد أبدًا، ولا يوجد دليل على ذلك. ولذلك أصدر متطرفو الجماعة الإسلامية فتوى ضده في عام 1995 عندما بدأ يهاجمهم؛ وفي العام الماضي، أصدر تنظيم داعش الفتوى الثانية عبر الفيسبوك.

وعلى الرغم من أن فالات ينتمي إلى جيل قديم من الجهاديين، إلا أنه يصر على أن التطرف لا يزال كما هو اليوم. بل وتزداد المشكلة سوءًا، فهناك حاليا 350 "إرهابيا إسلاميا" في السجون الفرنسية؛ و 5800 يخضعون لمراقبة الشرطة، فيما تم تصنيف 17000 شخص آخر بأنه تهديد محتمل.

وأعلن رئيس الوزراء الفرنسي السابق مانويل فالس أن الحرب ضد التطرف هي "أهم التحديات التي يواجهها جيلنا". وكرر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تصريح فالس في مؤتمر صحفي عقده في أغسطس الماضي بأن أن الحرب ضد الإرهاب الإسلامي هي "الأولوية القصوى لفرنسا".

ومنذ عام 2015، لقى أكثر من 240 شخصا حتفه جراء الإرهاب، فيما تراوحت الأماكن المستهدفة من مجلة شارلي إيبدو، إلى سوق كوشير، إلى مدرسة يهودية خارج تولوز، إلى قاعة باتاكلان الموسيقية إلى رصيف في مدينة نيس يوم الباستيل.

وبعد عام من الارهاب الذي لم يتوقف، خاطب فالس، الذى يبدو أنه لم ينم منذ أشهر، مجلس الشيوخ الفرنسي في اجتماع طارئ عقد في مايو العام الماضي، وقال "إن تطرف شبابنا هو نموذج اجتماعي مميت .. هذا هو أخطر تحد واجهنا منذ الحرب العالمية الثانية لأنه يضر بعمق الميثاق الجمهوري". واقترح خطة بنحو 80 مليون يورو لمكافحة الإرهاب من 80 نقطة لمواجهة تهديد فرنسا الرئيسي، والمتمثل في التطرف الداخلي، أو تجنيد داعش للشباب والفتيات على الأرض الفرنسية.

وأخبرتني موظفة حكومية في اللجنة المشتركة بين الوزارات المعنية بدرء الجنوح والتطرف (سيبرد): "أدركت الحكومة أنها لم تعد قادرة على انتظار عودة المتطرفين من العراق أو سوريا" عندما تحدثنا في مكتبها في باريس. وأضافت "كان علينا أن نخلق شيئا من شأنه أن سجدي نفعًا مع المتطرفين في فرنسا".

وكانت الخطة تهدف إلى فتح "مركز للوقاية والتكامل والمواطنة"  . وتمت دعوة رجال ونساء متشددون تم الإبلاغ عنهم من قبل المحافظات المحلية للدخول طواعية في برنامج لتطوير العقول المتطرفة وتعليم المواطنة المناسبة والقيم الجمهورية" وفقا لميثاقها. وإذا سارت الأمور على ما يرام، ستفتح الحكومة 12 مركزا إضافيا – مركزا في كل مقاطعة فرنسية.
 
وفي سبتمبر الماضي، ظهر تسعة أفراد في كنيسة قديمة في بلدة بونتورني، الواقعة في وادي لوار الفرنسي، والتي كانت مقر برنامج الحكومة التجريبي. وقام فريق مكون من 25 شخص من الأخصائيين الاجتماعيين وعلماء النفس والمعلمين، وشيخ مسلم، باستقبالهم لما كان متوقعا أن يكون برنامجًا مدته 10 أشهر. (كان المركز يتوقع قدوم ثلاثة أضعاف العدد).

وقد تلقى الأفراد الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و 30 عامًا، والذين جاءوا من جميع أنحاء فرنسا، دروسًا في التاريخ الفرنسي والفلسفة والأدب والإعلام والدين، وذلك بهدف تعليمهم " تقوية أجهزة المناعة الفكرية لديهم"، كما وصفها جيرالد برونر، وهو عالم اجتماع فرنسي عمل في مركز بونتورني. كما شاركوا في فصول العلاج اليومي والفنون والموسيقى. وركزت المحادثات الجماعية على الديمقراطية والدين والعلمانية، وهو المفهوم الفرنسي الذي يعود إلى عام 1905 والذي يدعو إلى فصل الدين عن السياسة.

لم يكن المركز يعتزم تدريس دروس في الدين، ولكن تم جلب شيخ مسلم للقاء كل مقيم على حدة. في البداية، لم يتكلم معه أحد؛ لأنهم اعتبروه غير مخلص ولا يحافظ على الحلال ويعمل مع الحكومة الفرنسية. لكنه قرر البقاء في المركز. التقى الشيخ مع هؤلاء الأشخاص منفردين ومجموعات، وقدم حلقتي عمل: الأولى كانت باللغة العربية حتى يتمكنوا من "إتقان لغة القرآن بشكل أفضل"، والثاني درسا عن تاريخ الحضارة الإسلامية. وقالت اللجنة ان "العلمانية في فرنسا لا تعني رفض الديانات"، بل على العكس من ذلك، تضمن حرية الاعتقاد والعبادة للفرد".

بعد بضعة أشهر، كان هؤلاء الأشخاص يأكلون الطعام غير الحلال. كما تلقوا تدريبا صارما في القومية الفرنسية، حيث طلب منهم ارتداء الزي الموحد وغناء المارسيليز، النشيد الوطني الفرنسي، كل صباح.

ولكن عندما طرحت هذه الأسئلة على أعضاء اللجنة، اعترفوا أنهم لا يزالون يعملون على البرنامج. وأوضحوا أن "التطرف" هو "العملية التي يتبنى فيها فرد أو مجموعة شكلا عنيفا من أعمال ترتبط مباشرة بأيديولوجية متطرفة ذات محتوى سياسي أو اجتماعي أو ديني يخالف النظام السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي". ولذلك فمن الصعوبة، على الرغم من ذلك، خلق برنامج يتجنب تصنيف زائف للمسلمين المحافظين وليس متطرفين. في حين أن الاستخبارات الفرنسية تراقب المساجد والأحياء والأنشطة عبر الإنترنت، وفي كثير من الأحيان لا توجد وسيلة لمعرفة ما إذا كان أحد الأشخاص قد اعتنق الفكر الجهادي قبل فوات الأوان. 

كما أن نموذج التطرف الفرنسي كان عكس أي نموذج آخر. وقد وضعت ألمانيا وبريطانيا وبلجيكا برامج تركز على دمج المتطرفين في مجتمعهم. وفي المقابل، تركز السعودية على إيجاد فرص عمل وزوجات للجهاديين المجندين. ولكن في فرنسا كانت الفكرة هي إخراج المتطرفين من بيئتهم المتطرفة.

 وبالنسبة لفالات، فمشكلة برنامج التطرف، خاصة إذا ما تم تنفيذه بشكل جماعي، هو غموض المصطلحات. فـ "الراديكالية" ذاتية. ولكنها ليست مرضًا أو إدمانًا. والفكرة القائلة بأن شخصا ما يستطيع أن يمتلك الإيديولوجية الراديكالية "الخاطئة" حيث يفترض وجود بعض "القيم الصحيحة". وادعت اللجنة أنها تعالج هذه المشكلة باستخدام مصطلح "فك الارتباط" بدلا من التطرف. وقال جيرالد برونر في رسالة الكترونية "إن اجتثاث التطرف يعني أننا سنتخلى عن معتقدات الروح.. وهذا ليس حقا هدف المركز. فلكل شخص الحق في اعتقاد ما يريده. وبدلا من ذلك، نريد مساعدة هؤلاء الشباب المتطرفين على إصدار إعلان الاستقلال العقلي للتحكم بشكل أفضل في بعض عمليات التفكير الخادع مثل نظريات المؤامرة ".

وأوضح برونر أنه وزملاؤه في اللجنة كونوا فريقا مستقلا من علماء النفس ، بما في ذلك عالم الاجتماع فرهاد خوسروخافار، لإنشاء "اختبار نفسية" لقياس مدى تغير وجهات نظر المجموعة. وقد تم اختبار قدرتهم على تحديد نظريات المؤامرة، وأجبروا على دراسة كيفية معرفة ما إذا تعرضوا لنظرية تآمر. وقد أوضح برونر أن العديد من أدواته تم تصميمها على غرار برنامج مؤسسة الدمج في العمل (EPIDE) الذي صممته الحكومة الفرنسية والموجه للشباب المحرومين من أجل دمجهم بشكل أفضل في المجتمع الفرنسي. ولكن الطرق كانت مثيرة للجدل.
غير أن مسألة المصطلحات لا تزال تمثل مشكلة. لدفع مصطلح "فك الارتباط" على "التطرف" كما يفعل برنامج (سيبرد) لا يزال يفترض أن بعض الأفكار أكثر أمنا من غيرها. ويبدو أن رفض المصطلحات تماما تعني الاعتراف باستحالة التطرف.
 
وبعد بضعة أشهر من بدء البرنامج، تجمع المتظاهرون المحليون خارج مقر المركز، يحملون لافتات كتب عليها "بونتورني في خطر" و "الخطر الجهادي". وطالبوا الحكومة بإغلاق المركز خشية أن يجلب الإرهاب مباشرة إلى مدينتهم . وقال جان لوك دوبونت، عمدة شينون، المدينة المجاورة لبونتورني التي يبلغ عدد سكانها ما يقرب من 8500 نسمة: "تخيل أن أقول لسكان المدينة إن الأفراد المتطرفين سيعيشون بجوارهم وأن أخبرهم بأن ذلك لا يهم ".

وبحلول فبراير، غادرت المجموعة المركز، ويرجع ذلك إلى ضغوط المتظاهرين، كما أوضح الأخصائي الاجتماعي. ووصفت وسائل الإعلام البرنامج بأنه "فاشل". ولكن المركز، وفقا للجنة سيبرد، لم يكن فاشلاً تمامًا. حيث قالت اللجنة: "لقد بدأنا حقا في رؤية تطور في تفكيرهم، ولكن لم يكن لدينا الوقت الكافي".

في الوقت الراهن، أغلق مركز بونتورني إلى أجل غير مسمى. وقالت اللجنة إنها تعمل على تطوير أساليب جديدة وستطلق خطة في العام القادم. ولكن مع الجدل الدائر في فرنسا حول وضع برنامج جديد، فإن التطرف لا يزال يشكل تهديدًا وجوديًّا لفرنسا. ويتطلب الفهم الأفضل للمشكلة من الفرنسيين أن ينظروا إلى الداخل في مجموعة من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والعنصرية المعقدة، وهو ما يبدو أن فالس لم يرغب في القيام به عندما أعلن للصحافة في نوفمبر 2015 أنه قد سئم من "الأعذار الثقافية والاجتماعية والثقافية " لتفسير الجهاد. وقال "إن البحث عن التفسير هو لإيجاد العذر".

 ولكن حتى النهج الأكثر حساسية، سيتعين عليه أن يعالج أسئلة معقدة حول أين يمكن رسم الخط الفاصل بين المتطرفين وغير المتطرفين. هل من يرفض مبادئ العلمانية متطرف بطبعه، حتى ولو لم يكن عنيفًا؟ وحتى بالنسبة لماكرون، الرئيس الفرنسي الجديد، يبدو أن الغموض لا يهم. فقد قال في مؤتمر صحفي عقده في نهاية أغسطس إنه " لا مكان للسذاجة بعد الآن" ولن يكون هناك خوف من الإسلام في خلط واضح بين الإسلاموي والإسلامي". وفى كلمته أمام الأمم المتحدة في نيويورك الأسبوع الماضي، أكد ماكرون اهتمامه بالحفاظ على "العلاقات النموذجية" الفرنسية الأمريكية "لمكافحة الارهاب في افريقيا والشرق الاوسط". بيد أنه لم يقرر بعد كيف ومتى سيحدث هذا. ستجتمع الجمعية الوطنية هذا الأسبوع لاتخاذ قرار بشأن القانون الجديد لمجلس الشيوخ الفرنسي، "لتعزيز الأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب" وفى نوفمبر المقبل تخطط الحكومة الفرنسية لعقد اجتماع لمناقشة خطة جديدة حول برنامج "فك الارتباط". ومع ذلك، لا يبدو أن أحدا قادر على الإجابة على سؤال ما هو التطرف الفعلي.

حتى فالات، الذي لا يزال مسلمًا ولديه زوجة وابنة، لا يمتلك الإجابة. وقال لي عبر البريد الإلكتروني: "لا يزال هناك دائما شيء من المسار الذي أنشأه التطرف .. على سبيل المثال، أنا لا أذهب أبدًا إلى مكان آمن من دون تخيل كيفية اقتحامه. عندما أرى مجموعة من الجنود أو رجال الشرطة في الشارع، لا يسعني إلا أن أفكر كيف أحيدهم. وأنا أعلم اليوم أنني لن أفعل ذلك أبدا، ولكن هذه الفكرة لا تزال قائمة".

المصدر – ذى أتلانتك

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا