مستقبل العلاقات الأمريكية التركية.. جفاء متبادل أم تهدئة لتغيير المسار!

أميرة رضا

كتبت – أميرة رضا

وجهة جديدة، وفرصة جادة لتغيير المسار، تحاول الحكومة التركية استغلالها على الوجه الأمثل لتهدئة أوضاعها الدولية، خاصة فيما يخص سياستها الخارجية الأمريكية في ظل عهد الرئيس الجديد جو بايدن، إذ يعد الأمر واحدًا من أهم القضايا بالنسبة لأنقرة في الوقت الحالي.

فعلى مدار أربع سنوات تولى فيها الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، مقاليد الحكم في الولايات المتحدة، تدهورت العلاقات بين أنقرة وواشنطن، وواجهت أزمات عميقة في عدة ملفات، ولكن قد تتغير الأوضاع الآن مع رحيل ترامب، وقدوم العهد الرئاسي الجديد، مما طرح التساؤلات حول ما إذا كانت تلك العلاقات ستشهد مزيدًا من الجفاء أم زخمًا قويًا على جميع المستويات من أجل حل تلك الملفات العالقة، والاستفادة بشكل أفضل من الفرص المتاحة، لفرض تهدئة جديدة قد يكون من شأنها تغيير المسار؟!

ملفات خلافية.. وطريق تصادمي

اختلافات أيديولوجية وحزبية، تشهدها الولايات المتحدة الأمريكية مع قدوم سياسات الرئيس الديمقراطي الجديد جو بايدن، مقارنة بسالفه الجمهوري دونالد ترامب، الأمر الذي سيترتب عليه بالطبع تحديد آلية عمل الإدارة الأمريكية الجديدة.

لذا، فإن سياسة بايدن قد تعيد النظر في إدارة العلاقات التركية من جديد وفق مصالح الدولتين، ليكون ذلك مفتاح أحد أهم ملفات الشرق الأوسط لواشنطن، الذي تحتل فيه تركيا مكانة استراتيجية كبيرة، ومن ثم يجب عليها معالجته.

وفي التفاصيل، نجد أن الملفات الخلافية بين أنقرة وواشنطن، التي تغاضى عنها ترامب، طوال فترة حكمه، وسمح من خلالها لنظيره التركي رجب طيب أردوغان بالتمدد عسكريًا في عدد من الدول العربية، قد أدت إلى توسع النفوذ التركي في المنطقة، ومن ثم استقلالية سياسته الخارجية، وتجاهل مصالح حلفاء أنقرة في حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي.

وأدت هذه الخلافات بالطبع إلى توتر العلاقات بين البلدين، الأمر الذي ترتب عليه اتهامات متبادلة هددت بزعزعة استقرار ووحدة الدول الأعضاء في حلف الناتو، لاسيما وأن الجيشين الأمريكي والتركي هما أكبر الجيوش في التحالف.

وتشترك الدولتان في عضوية “حلف شمال الأطلسي – الناتو” منذ نحو 70 عامًا، ولكن هذه الشراكة تراجعت بشكل تدريجي منذ “الربيع العربي” الذي بدأت تركيا بعده بدعم سياسات الإسلام السياسي بشكل علني في العديد من الدول العربية، مما أدى إلى حدوث فجوة كبيرة بين واشنطن وأنقرة.

فمن جانب، تدهورت العلاقات الأمريكية التركية، في السنوات الأخيرة، بعد رفض واشنطن تسليم فتح الله جولن – وهو واعظ إسلامي تركي مقيم في الولايات المتحدة- وتتهمه أنقرة بتنظيم الانقلاب الفاشل في عام 2016 ضد أردوغان.

كذلك حل قرار الولايات المتحدة بدعم القوات الكردية بسوريا في حربها ضد التنظيم الإرهابي “داعش” كالصاعقة على تركيا، حيث وجدت أنقرة أن وحدات حماية الشعب الكردية تابعة لحزب العمل الكردستاني الذي يعارض النظام التركي، مما أثار حفيظة حكومة أردوغان.

ومن جانب آخر تعقدت الأمور، بعد اتهام واشنطن لتركيا بدعم متشددين على علاقة بتنظيم “القاعدة” في سوريا، وإنها منحت أولويةً لإقامة علاقات جيدة مع روسيا وإيران في جهودها الدبلوماسية، وذلك بعد دخول حكومة أردوغان في تحالف مع روسيا بالفعل، بشراء النظام الدفاعي الصاروخي “أس-400”.

وحينها، هددت تركيا بإغلاق قاعدتين أمريكيتين ردًا على العقوبات المقترحة من الجانب الأمريكي على أنقرة بسبب شرائها أنظمة دفاع وأسلحة روسية.

وفي هذا السياق، كانت لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي حينها، قد وافقت على مشروع قانون يسعى لفرض عقوبات على تركيا، بسبب شراء “أس-400″، والعدوان على سوريا، لكن أنقرة صممت على المضي قدمًا في الصفقة، وحتى شراء طائرة روسية متقدمة إذا لم تقدم الولايات المتحدة طائرات F-35.

وفي أعقاب ذلك، زاد التدهور السريع في العلاقات بين واشنطن وأنقرة، حيث أشارت الولايات المتحدة إلى مخاوف بشأن تجسس روسيا على قدرات طائرة أمريكية مقاتلة.

تفعيل آليات الحوار

ورغم التوتر الملحوظ الذي تشهده العلاقات الأمريكية التركية، إلا أن البلدان قد يستغلان “مائدة بايدن” لتفعيل آليات الحوار الثنائية من أجل عودة قوية لتعزيز التعاون والدبلوماسية بين الطرفين.

لكن، من الجانب الأمريكي، وفي ظل إدارة بايدن الجديدة، تنقسم الرؤية حول هذا الشأن، فهناك من يدعو إلى انخراط قوي مع تركيا، بحجة أنها دولة رئيسة محورية والدولة الإسلامية الوحيدة العضو في “الناتو”.

ويعلل أصحاب هذا الرأي، بأن أردوغان وبالرغم من كل أخطائه، لا يزال يقود دولة تستطيع مساعدة واشنطن في احتواء توسع روسيا في مناطق البحر الأسود والقوقاز وآسيا الوسطى وسوريا.

في المقابل، يرى آخرون أن تركيا تعاني من أوهام العظمة، وإنها لا تشاطر أمريكا بمصالحها في الشرق الأوسط أو في شرق المتوسط، وإنها دخلت بالفعل فيما يقترب من شراكة استراتيجية مع إيران وروسيا، لذلك أصبحت تركيا دولة يجب احتواؤها من خلال دبلوماسية الإكراه، وليست دولة يجب استقطابها من خلال الانخراط القوي.

وعلى الجانب التركي، ورغم كل هذه التوترات إلا إنه من الواضح على الحكومة التركية إنها تريد الانخراط السياسي بتوطيد علاقتها مع واشنطن، متأملة بفتح صفحة جديدة مع الولايات المتحدة في ظل إدارة بايدن.

الانخراط أم العزلة!

وعلى ذكر تفعيل آليات الحوار، وانقسام الإدارة الأمريكية، حول مصير تركيا في أجندة سياستها الخارجية القادمة، وما إذا كانت ستنخرط معها سياسيًا، أم ستزيد من حدة العقوبات عليها، أدلى المرشح لمنصب وزير الخارجية الأمريكي الجديد، أنطوني بلينكن، بتصريح غير مسبوق ضد تركيا، يوم الثلاثاء الماضي، بقوله “إن أفعالها كعضو في حلف شمال الأطلسي غير مقبولة.. وأن واشنطن سترى ما إذا كان يتعين عليها القيام بالمزيد فيما يتعلق بالعقوبات”.

وفي هذا السياق، أجاب بلينكن على سؤال من السناتور ليندسي جراهام بشأن شراء تركيا لنظام أس-400 الدفاعي روسي الصنع، قائلًا: “إن الفكرة القائلة بأن شريكًا استراتيجيًا لنا -ما يعتقد أنه استراتيجي- سيكون متناغمًا مع أحد أكبر منافسينا الاستراتيجيين في روسيا هو أمر غير مقبول”.

وفي سياق متصل، نقل بول أنتونوبولوس في صحيفة “غريك سيتي تايمز” الإلكترونية اليونانية، اليوم الأحد، وصف العضو البارز في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، بوب مينينديز، لتصرفات أنقرة في سوريا واليونان وقبرص ودعمها للغزو الآذري في إقليم ناجورنو كاراباخ بأنها “مزعزعة للاستقرار”.

ويرى أنتونوبولوس أن الإجابة التي قدمها بلينكن على سؤال مينينديز حول ما إذا كانت “نظرتهم واضحة بشأن تركيا في عهد أردوغان” هي التي أعطت أكبر نظرة ثاقبة لسياسة الإدارة الجديدة تجاه تركيا.

إذ ذكر أن بلينكن أجاب قائلًا: “المحصلة النهائية تركيا حليف.. لا تتصرف من نواحٍ عديدة كحليف”، وتابع ضاحكًا “تحدٍ كبير جدًا جدًا بالنسبة لنا ونظرتنا واضحة جدًا بشأن ذلك”.

مع نظرة بلينكين ومينينديز “الواضحة” بشأن أردوغان، يبدو أنه ستكون سابقة منذ أن أصبحت تركيا عضوًا في الحلف الأطلسي، بعدم استمرار السماح بجو التهدئة مع العدوان التركي.

في المقابل، يرى مراد جوزال، وهو قيادي أمريكي من أصل تركي، أن علاقات أنقرة وواشنطن ستتحسن مع الوقت، إن لم تتطور سريعًا في بداية عهد بايدن.

وقال جوزال: إن الولايات المتحدة شهدت في 3 نوفمبر الماضي انتخابات رئاسية تاريخية أظهرت أن علم الاجتماع السياسي في البلاد بدأ يتغير، ويجب قراءة هذا التغير جيدًا بالنسبة للعلاقات التركية الأمريكية، مشيرًا إلى أن “تركيا دولة عريقة لها تأثير مهم في الشرق الأوسط، ولذلك علاقاتها مع الولايات المتحدة مرتبطة بعملها مع المؤسسات الأمريكية، التي تساهم في رسم السياسات الخارجية الأمريكية، وليس الرئيس وحده”، على حد قوله.

وجوزال، هو أول سياسي ورجل أعمال من أصل تركي يرتقي إلى عضوية “اللجنة الوطنية الديمقراطية” (DNC)، وهي أعلى هيئة إدارية في الحزب الديمقراطي، المنتمي إليه بايدن، يتمتع بمكانة مؤثرة في المجتمع التركي بالولايات المتحدة.

إدارة العلاقات وفق مصالح مشتركة

في نهاية الأمر، يعد قرار الانخراط السياسي، أم فرض مزيد من التوترات على العلاقات التركية الأمريكية، قد يتوقف على منح البلدين فرصة جديدة من أجل إعادة ضبط العلاقات المشروطة، التي تعتمد على المصداقية في الأساس.

لذلك نجد أن بايدن ليس من المتوقع أن ينقلب تمامًا على كل إرث سالفه ترامب، فمنه من يتطابق مع مصالح بلاده ومنه ما يصعب التفكير فيه من الأساس.

فالرئيس بايدن يضع أولوية التصرف كرجل دولة، وإعادة الثقة بالمؤسسات الأمريكية، ومحو الانطباع الذي رسخه ترامب حول الارتجال والتفرد بالقرارات، نصب أعينيه في الفترة المقبلة، لذلك سيتعين عليه الموازنة في اتخاذ القرارات اللازمة فيما يخص علاقته بأنقرة.

وبكل تأكيد، سيحاول أردوغان توجيه بلاده أكثر نحو روسيا رداً على الضغط الأمريكي المتزايد، وقد تسمح موسكو لذلك إلى حد ما من أجل التسبب في مزيد من الانقسام داخل حلف شمال الأطلسي، لكن سيكون لها أيضًا حدود في التسامح مع تصرفات أردوغان.

وبصرف النظر عن تصريحات “بايدن” خلال مقابلة في ديسمبر 2019، مع صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية بأن “واشنطن يجب أن تتبع نهجًا مختلفًا تجاه الرئيس التركي”، مؤكدًا حال فوزه بمقعد الرئاسة على إنه سيقدم الدعم للمعارضة التركية للإطاحة بـ”أردوغان” عبر الانتخابات وليس عبر انقلاب، إلا أنه الحديث على أرض الواقع الآن كرئيس للدولة قد يختلف كثيرًا.

إذ جاءت تلك التصريحات في إطار الخطاب المحلي خلال الحملات الانتخابية، وسيكون من الصعب تنفيذ الكثير من هذه التعهدات نظرًا لتنوع المصالح التركية الأمريكية التي ستسعى إدارة “بايدن” للحفاظ عليها.

ومن جانبه، استبق الرئيس التركي قدوم “بايدن” للبيت الأبيض، بتبني خطاب “تصالح” في السياسة الخارجية وقام ببعض الخطوات لإرضاءه، فسره البعض على إنه “تودد علني”.

وما بين هذا وذاك وللخروج من هذه الأزمة، قد تتبنى إدارة بايدن بمشاركة أردوغان إعادة إدارة العلاقات وفق مصالح مشتركة، والتي يتصدرها الخلاف الذي يدور حول منظومة الدفاع الصاروخية الروسية، والتواجد العسكري التركي بسوريا، فضلًا عن ملف تسليم “فتح الله كولن”، والتوترات بشرق المتوسط، وغيرها.

ولكن الأزمة الحقيقة، تمكن في بقاء وجود تركيا في حلف الناتو -وليس هناك أي خبير يقول إنها ستغادر في أي وقت قريب- الذي سيوثق العلاقات بين تركيا وروسيا أكثر فأكثر، الأمر الذي سيؤدي بطبيعة الحال إلى توتر علاقات أنقرة مع حلفائها، وخاصة الولايات المتحدة.

مع كل هذه التطورات، وفي ظل وجود إدارة بايدن الجديدة، هل من الممكن أن تشهد الساحة الأمريكية التركية توافق جديد لاحتواء الخلافات بينهما؟ أم ستشتعل التوترات مع زيادة التصعيد من جديد؟

ربما يعجبك أيضا