مودرن دبلوماسي | هل كازاخستان على أعتاب منافسة جيوستراتيجية أم واقع جيوسياسي؟

بسام عباس

رؤية

ترجمة – بسام عباس

تحولت موجة الاحتجاجات التي اجتاحت كازاخستان منذ الأيام الأولى من يناير 2022 إلى أعمال شغب وتدمير لا يمكن السيطرة عليها. وهناك انطباع بأن كل هذا يحدث وفقًا لسيناريو جاهز ومخطط له من قبل. وعلى الرغم من أن الأحداث في كازاخستان فريدة من نوعها من حيث الشكل، إلا أنها تذكّرنا – إلى حد ما – بالأحداث التي وقعت في جورجيا وسوريا وأذربيجان وأوكرانيا وبيلاروسيا، والتي وقعت في سنوات مختلفة. قمع أعمال الشغب المصطنعة، وتحييد الجماعات “الإرهابية” وقمع الثورات المناهضة للحكومة، أو، على العكس من ذلك، نشر مهمة “حفظ السلام” للإطاحة بالمعارضة و”حماية الحكومة أو الشعب”، واتبعت جميع الحالات نفس السيناريو تقريبًا.

أما في اشتباكات يناير، لم يتم استبعاد دور العديد من الجهات الفاعلة. فقد أدى انتشار المظاهرات السلمية في منطقة مانجيستاو إلى المدن الكبرى في كازاخستان، بمساعدة بعض العصابات المدربة، إلى حدوث أعمال شغب ونهب وقتل. وابتعد الاحتجاج عن المطالب الأولية بتخفيض أسعار الوقود، واستمر في المطالبة باستقالة الرئيس والحكومة، وتنفيذ الإصلاحات السياسية، والاعتراف بتجريم إدارة الاتحاد السوفياتي، وما إلى ذلك. وأعطى انتهاك “الخط الأحمر للأمن” لحكومة كازاخستان فرصة سانحة لنشر قوات حفظ السلام التابعة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي. وعلى الرغم من عدم وجود تهديد خارجي لسلامة كازاخستان، فإن إدخال قوات الحلفاء تجاوز توقعات دول الغرب ودول المنطقة أيضًا. كما أن إقالة “نور سلطان نزارباييف” من منصب رئيس مجلس الأمن، وتدمير تمثاله النصفي، وإقالة أتباعه، ورفع قضايا جنائية ضد شركائه، يأتي ضمن حملة “التطهير” التي ينفذها توكاييف والتي– بلا شك – انطلاقًا مدروسًا جيدًا يهدف إلى إنهاء حقبة نزارباييف السياسية وبداية حقبة جديدة بقيادة توكاييف المتعاطف مع روسيا.

كان “قاسم جومارت توكاييف”، الذي تولى منصبه في عام 2019، يعمل لسنوات عديدة في ظل نزارباييف، الذي كان يتمتع بالسلطة القانونية. وتخرج توكاييف من جامعة موسكو الحكومية، وعمل لسنوات عديدة في وزارة خارجية الاتحاد السوفياتي. بالإضافة إلى ذلك، شغل منصب نائب الأمين العام للأمم المتحدة، ورئيس مجلسي وزراء خارجية رابطة الدول المستقلة ومنظمة شنغهاي للتعاون. لذلك، ليس من الصعب فهم ولاء توكاييف لروسيا ودعوته الفورية لها لتقديم “الإسعافات الأولية” خلال اضطرابات يناير.

إن مزاعم توكاييف بأن القوات الأجنبية المدربة هي التي دبرت أعمال الشغب ومحاولات تبرير إرسال قوات منظمة معاهدة الأمن الجماعي تبدو زائفة ومضللة. فقد نشر توكاييف عبر حسابه على تويتر معلومات، قام بمحوها على الفور، حول سلسلة من الهجمات الإرهابية في كازاخستان وتعبئة حوالي 20 ألف إرهابي. كما ظهرت على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو مزيفة لنداءات متشددين يرتدون زي تنظيم داعش، تدعو إلى الجهاد المقدس ضد روسيا ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي. في الواقع، إنها محاولة عقيمة لإيجاد انطباع بأن كازاخستان تعرضت لاستهداف الإرهابيين وهجماتهم. وعلى خلفية ملصق للمتظاهرين يقول “لا تقتلونا؛ نحن لسنا إرهابيين!” تأتي تصريحات الرئيس الكازاخستاني “أطلقوا النار على المتظاهرين غير السلميين” قاسية وعنيفة. وبشكل مفاجئ، اعتقل أكثر من 10 آلاف شخص بوصفهم “إرهابيين” خلال ما يسمى بعملية “التطهير”.

ولأن توكاييف، مثل بشار الأسد تمامًا، مستعد لنحر رؤوس شعبه من أجل حماية سلطته، فإن مصالح روسيا أوسع، حيث يحاول بوتين تأكيد هيمنته السياسية والعسكرية في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي من خلال إعادة إحياء الاتحاد السوفيتي. وقد بدأ تنفيذ هذه الخطة في التسعينيات من القرن الماضي. وقد بدأت خطوات بوتين الأولى لاستعادة الإمبراطورية العظمى لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية من أبخازيا وأوسيتيا. بعد ذلك، شملت هذه الخطة شبه جزيرة القرم ودونباس، والتي أعطتها روسيا أولوية جيوستراتيجية على الحدود الجنوبية الغربية للوصول إلى البحر الأسود. ثم أبرم اتفاقًا مع بيلاروسيا حول إنشاء دولة اتحاد، كما جرى نشر وحدة حفظ سلام في كاراباخ. وكان ينفذ السيناريو نفسه في جميع دول ما بعد الاتحاد السوفيتي، حشود ساخطة؛ نشر وحدة عسكرية روسية؛ ثم توسيع النفوذ الروسي في المنطقة، والاتحاد مع روسيا بناءً على طلب السكان الناطقين بالروسية.

لم تأت تصريحات بعض نواب مجلس الدوما الروسي بشأن ضم المنطقة الناطقة بالروسية من كازاخستان إلى روسيا، وفقًا للسيناريو نفسه كما في شبه جزيرة القرم، من فراغ، كما لم يكن من قبيل المصادفة أن ينتقل مركز الاحتجاجات إلى آلماتي، حيث يتركز أكبر الشتات الناطق بالروسية، إذ يشكّل الروس 26٪ من تعداد السكان البالغ مليوني نسمة. وتشترك المقاطعة في الحدود مع الصين وقيرغيزستان، والتي فعليًّا تقع تحت سيطرة روسيا.

وتأتي أهمية كازاخستان لروسيا؛ لأنها ثاني أكبر دولة مصدرة للنفط في الاتحاد السوفيتي السابق، حيث تنتج 1.6 مليون برميل يوميًّا. بالإضافة إلى ذلك، هناك رواسب غنية من الهيدروكربونات والمعادن. والمنطقة مفيدة جغرافيًّا وإحدى نقاط العبور المركزية على طريق الحرير العظيم.

ومن وجهة نظر استراتيجية، لديها منفذ عبر بحر قزوين إلى إيران وأوروبا وتركيا وروسيا والصين، كما تتمتع كازاخستان، التي تضع نفسها على أنها الرابط الأساسي في مشروع “حزام واحد، طريق واحد”، بعلاقات اقتصادية وتجارية وثيقة مع الصين المجاورة. بالإضافة إلى أنها أكبر مركز اقتصادي في آسيا الوسطى. واستثمرت الصين في البداية 40 مليار دولار في مشروع “حزام واحد، طريق واحد”، وهي تعتبر بيلاروسيا وكازاخستان محوري عبور؛ إذ إن كازاخستان هي نقطة الانطلاق للبضائع الصينية إلى الأسواق الأوروبية الآسيوية، وبيلاروسيا هي النقطة الأخيرة. وباعتبارها أكبر مركز عبور، فإن هذه المناطق ليست نقطة إعادة شحن، فقط ولكنها مركز استثماري رئيسي، وبهذا المعنى، فإن نفوذ روسيا في بيلاروسيا وكازاخستان مدفوع بأهداف سياسية ومصالح اقتصادية.

على وجه الخصوص، فإن الواقع الجيوستراتيجي الجديد في المنطقة بعد حرب كاراباخ، وتكامل دول آسيا الوسطى مع تركيا من خلال ممر قزوين وممر زانجيزور، والتحضير لإدخال التجارة الحرة والتعريفات الموحدة للنقل المشترك، تكشف بوضوح أن اتحاد الدول الناطقة بالتركية سيوسع آفاقه قريبًا، ليس فقط في المشاريع والاستثمارات التعاونية، ولكن أيضًا في التعاون العسكري السياسي. ويمكن اعتبار إعلان “شوشة” المشترك بشأن علاقات الحلفاء، الموقع بين أذربيجان وتركيا في 15 يونيو 2021، أول إنذار من هذا النوع. ولذلك فإن روسيا تخشى من انتشار فكرة “توران العظيم” من كازاخستان إلى دول آسيا الوسطى الأخرى. وبهذا المعنى، فإن قرارات نزارباييف لصالح الاتحاد التركي ستكون عقبة كأداء لروسيا. ولذا فليس من قبيل المصادفة أن نزارباييف جاء بفكرة اتحاد الدول التركية. فعلى عكس توكاييف، اتبع نزارباييف سياسة أكثر توازنًا مع الغرب وروسيا والعالم التركي، ما سمح له بالتنوع بين القوى الكبرى وتنفيذ المشاريع الكبرى.

تذكرنا الأحداث في كازاخستان بأحداث ديسمبر 1986 في ألما-آتا، والمعروفة أيضًا باسم جيلتوكسان (أعمال شغب ديسمبر)، والتي اتخذت شكل احتجاجات جماهيرية وانتفاضات شعبية ضد الحكومة الشيوعية. وفي عام 1985، وضعت وزارة الشؤون الداخلية في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية “خطة تنفيذية خاصة لتفريق المتظاهرين”، أطلق عليها اسم “عاصفة الثلج 1986″، حيث أعدت خطة خاصة مطورة مسبقًا لتوجيه إجراءات وكالات إنفاذ القانون، بالسماح للأحداث بالتصاعد، ثم استخدام قوى غير ضئيلة لقمعها، وإثارة المشاعر، وعندها فقط يتم تطبيق أقسى الإجراءات، سواء ضد المذنبين بانتهاك الأوامر أو الأبرياء، مما يساهم في تفاقم الوضع بشكل أكبر. وبحسب البيانات المنشورة، فقد اعتُقل 8.5 ألف شخص في عملية “القمع”.

وتتبع مظاهرات يناير 2022 نفس السيناريو. على الرغم من أن توكاييف يعلن بحزم أن قوات حفظ السلام لن تبقى في البلاد، إلا أن “إيغور بانارين”، مستشار إدارة التعاون السياسي في الأمانة العامة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي، قال إنه في حالة حدوث “أزمة”، سيتم مراجعة تفويض منظمة معاهدة الأمن الجماعي.

وليس من المستبعد محاولة خلق موجة من الاحتجاجات في الدول المجاورة عقب الأحداث في كازاخستان، وبالتالي، على جميع دول ما بعد الاتحاد السوفيتي أن تكون في حالة تأهب من عدم وجود أي دولة محصنة ضد آلة الزمن المستنفذة لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، إذ تميل النزعة الروسية إلى امتصاص الوعي القومي.

اندلعت احتجاجات حاشدة في كازاخستان في 2 يناير 2022، ضد ارتفاع أسعار الغاز. ونتيجة لذلك، انتشرت قوات حفظ السلام التابعة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي في البلاد؛ بقيادة قائد القوات المحمولة جوًّا الروسية، ومن هنا تم إعلان 10 يناير يوم حداد وطني.

لقراءة النص الأصلي.. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا