ناشونال ريفيو | ما هي الدروس التى لم يتعلمها أردوغان؟

أحمد الباز

ترجمة بواسطة – شهاب ممدوح

إن رجب طيب أردوغان يتعلم درسًا كان التاريخ قد لقنه، أحيانًا بطريقة قاسية، للعديد من أمثاله في السابق: الطغاة قد يمتلكون السلطة، لكن الأسواق لديها سلطة أكبر.

لو كنتَ طاغية، فإنه يمكنك إعلان "حالة طوارئ" لكي تمنح نفسك سلطات خاصة. لقد فعلت "أنديرا غاندي" ذلك بهدف قمع المعارضين السياسيين عام 1975، كما فعل "بيرفيز مشرف" الشيء ذاته عام 2007. قرب نهاية الحرب الباردة، حاول رئيس "الكي جي بي" "فلاديمير كريتشكوف" فعل هذا الأمر بغرض عكس مسار عملية الإصلاح في الاتحاد السوفيتي. كما فعل الرئيس أردوغان ذلك لتعزيز سلطته.

ما قام به أردوغان بسلطاته الموسّعة كان متوقعًا: طَرَدَ 100 ألف مسئول عام لم يدعموه سياسيًا، وأغلق صحفًا ووسائل إعلامية معارضة له، بالإضافة إلى إغلاق مدارس ومؤسسات خيرية ومنظمات مجتمع مدني، إذ صادر أرصدتها من دون تقديم تعويض. كما اعتقل أردوغان 50 ألف شخص بتهم إرهاب ملفقة، واحتجز الكثيرين من دون محاكمة، وصادر جوازات سفر المعارضين وجمّد أرصدتهم البنكية.

لكن رأس المال في القرن الحادي والعشرين زلق ومضطرب ولن يقبل بالانتهاكات. كما أنه من الصعب مصادرته. إن قبضة الطغيان الحديدية غير فعّالة في مواجهة رأس المال في القرن الحادي والعشرين، الذي يتسرّب كالماء من بين أصابع الطغاة الصغيرة. لقد فقدت العُملة التركية "الليرا" نصف قيمتها، بعد أن اكتشف مستثمرو العالم أن استثماراتهم في هذا البلد ستكون عرضة لنزوات ديكتاتور وحشي مثل أردوغان.

هل تعلم طريقة جيدة تعرف بها مدى عدم اقتناع العالم بروايتك الاقتصادية الوطنية؟ أسواق الائتمان سترفض إقراضك بعملتك الوطنية. لقد اقترضت البنوك والمؤسسات التجارية غير المالية والحكومة والأسر المعيشية الخاصة التركية كميات كبيرة من الأموال المقوّمة بالعملات الأجنبية – وهذا دين يساوي 70 بالمائة من النتاج القومي الإجمالي. هذا بالمقارنة مع 27 بالمائة في البرازيل، و33 بالمائة في روسيا، و35 بالمائة في إندونيسيا، و50 بالمائة في جنوب إفريقيا. إن هذا الدَّين المقوّم بالعملات الأجنبية يمثّل مشكلة بالنسبة للمدينين الأتراك: هذه الديون المقوّمة بالين واليورو والدولار ستبقى كما هي. عندما تقيس تلك الديون بالليرة التركية، وهي العملة التي تتقاضى بها الشركات والأفراد في تركيا الأموال في معظم الأحيان، فإن هذه الديون ستتضاعف بالمقاييس المحلية بفضل انخفاض قيمة الليرة بمقدار النصف.

يقول المحلل الاقتصادي "جيرمي ورنر" في صحيفة التليجراف: "حتى لا تظن أن كل هذا جزءٌ من مؤامرة غربية لتحجيم حركة الأسواق الناشئة، كما يعتقد أردوغان فيما يبدو، هل ترضى باستبدال ما تملكه من دولارات ويورو وين وجنيهات إسترلينية، وتقرض بدلاً من ذلك بالليرة التركية أو البيسوس الأرجنتيني؟" بالطبع لا. ويتابع المحلل بالقول: "إنه درسٌ يجب تعلمه من جديد باستمرار. فأنت لا تستطيع السير عكس اتجاه السوق، كما قالت "مارجريت تاتشر" ذات مرة. لكن هذا لا يمنع السياسيين من المحاولة بشكل متكرر".

اقترح "بول كروجمان" وصفةً في صحيفة نيويورك تايمز قال فيها: "أوقفوا انفجار أزمة المديونية عبر مزيج من ضوابط رأس المال المؤقتة، من أجل وضع حد لهروب رأس المال الخائف، وربما التخلص من بعض الديون المقوّمة بالعملات الأجنبية. في غضون ذلك، رتبوا الأوضاع من أجل إقامة نظام مالي مستدام بمجرد انتهاء الأزمة. لو سارت الأمور بشكل جيد، فإن الثقة ستعود تدريجيًا، وستكونوا قادرين في نهاية المطاف على إزالة ضوابط رأس المال". يستشهد كلُّ من "كروجمان" و "ورنر" بحالة ماليزيا، وردّ "مهاتير محمد" على الأزمة المالية الآسيوية عام 1998.

لقد اتبع أردوغان، مثله مثل مؤيدي تشافيز في فنزويلا ومؤيدي الرئيسة "كريستينا دي كيرشنر" في الأرجنتين، سياسة اقتصادية تقوم على القومية والرفاه الشعبوي والفساد. في الأرجنتين، كان تأميم صناديق المعاشات الخاصة بمثابة اعتداء على الملكية الخاصة وعلى حكم القانون. أما الوضع في فنزويلا فهو معروف جيدًا لدرجة أنه لا يتطلب المزيد من التوضيح هنا. ألقت رئيسة الأرجنتين "كيرشنر" بلائمة الأزمة في الأرجنتين على "الإرهابيين الاقتصاديين". فيما ردّد الرئيس الفنزويلي"نيكولاس مادورو" المقولات السوفيتية البائدة، ملقيًا اللوم على "المخربين والمكتنزين". أما أردوغان وعصابته فيلومون "المضاربين" وجهة لم يُسمع بها من قبل أسماها "لوبي الفوائد المرتفعة"، الذين يدبرون مخططًا لإثراء أنفسهم "على حساب عرق الناس".

في غضون ذلك، جرى الكشف عن حصول أعضاء من جماعته على رشاوى ضخمة، لكن هذا، أيضًا، جرى وصفه بأنه مخطط من تنفيذ الانقلابيين التابعين لفتح الله غولن، وهو معارض لنظام أردوغان. من بين الذين جرى التنديد بهم باعتبارهم تابعين لرجل الدين الإسلامي "غولن"، كان "تشك شومخر" عضو مجلس الشيوخ الديمقراطي عن ولاية نيويرك، و"بريت باهارا" المدعي العام السابق في الدائرة الجنوبية في نيويورك.

يتابع "كروجمان" في مقالته: "الأرجنتين أيضًا أبلت بلاءً حسنًا عبر اتباع سياسات غير تقليدية عام 2002 وفي السنوات القليلة الأخرى التي تلت ذلك، إذْ نجحت في التخلص من ثلثي ديونها" وأضاف الكاتب: "لكن نظام الرئيسة كيرشنر لم يعرف متى يتوقف ويعود للسياسات التقليدية مجددًا، ممهدًا بذلك الطريق لعودة البلاد لحالة الأزمة".

إن المؤامرة التي هزّت الاقتصاد التركي موجودة مباشرة أمام أعيننا. هي ليست في الظل، وهي ليست سرًا، بل إنها ليست مؤامرة أصلاً. إنها مجرد عملية إعادة توازن لا نهاية لها بين العائد والمخاطر. في أعقاب الأزمة المالية عام 2008-2009، بحث المستثمرون عن العوائد، وقد أخذهم مسعاهم هذا إلى أماكن لم يذهب إليها إلا القليل منهم قبل ذلك، مثل الإقراض التجاري في تركيا. لقد ازدهر الاقتصاد التركي حينها مع تدفق رأس المالي إلى البلد. لكن القيام بأعمال تجارية مع الطغاة، أو تحت سيطرتهم، هو أمر محفوف بالمخاطر. إن مفهوم "الديكتاتور الليبرالي" الذي يفضّله خبير الاقتصاد "فردريك هايك" على الديمقراطية غير الليبرالية، موجود نظريًا فقط. أما في العالم الحقيقي، فإن السياسة الاقتصادية تعتمد بشكل قوي جدًا على الظروف السياسية. من النادر أن تتعايش حكومة غير ليبرالية مع سياسات اقتصادية ليبرالية لوقت طويل. إذ إن أحد الطرفين سيتغير.

هناك العديد من الطغاة والحكومات عديمة الكفاءة التي أشرفت على مراحل ازدهار اقتصادي قصيرة الأجل، وقد ساعدها هذا الازدهار في البقاء بالسلطة. هل تتذكرون عندما كالت رموز ديمقراطية كبيرة المديح على "هوجو تشافيز" بفضل توزيعه زيت تدفئة منخفض التكلفة على الفنزويليين؟ ما يُديم الازدهار الاقتصادي هو حقوق الملكية الآمنة، وحكم القانون والقضاء المستقل،  والعقود القابلة للتنفيذ، وأسواق العمل المرنة، والتجارة الحرة، والاستثمار، وريادة الأعمال. إن الولايات المتحدة تقوم بالعديد من الأشياء بشكل مختلف عن السويد وألمانيا وسنغافورة وسويسرا وأيسلندا واليابان، لكن العامل المشترك بين الدول التي حققت رخاءً طويل الأمد هو أكثر أهمية من معدل الضريبة القصوى على الدخل أو قوانين التأمين الصحي. هناك أشياء يمكن لكل دولة من هذه الدول أن تعمل على تحسينها: سنغافورة لديها توجهات غير ليبرالية مقلقة، والولايات المتحدة لديها مشكلة فساد.

هناك طريقة أخرى لقول هذا: في الوقت الراهن، تُعد مشاكل تركيا الاقتصادية هي الأكثر إلحاحًا. وعلى المدى الطويل، فإن مشكلة تركيا هي سياسية. قد يقضي المستثمرون وقتًا سعيدًا قصيرًا مع الطغيان، لكن علاقتهم طويلة الأمد هي مع الليبرالية – ومع الديمقراطية والملكية الخاصة وحكم القانون.

يريد أردوغان أن يقاطع شعبه أجهزة "الآي فون". لكن نظرًا إلى وضع الليرة، فإن القليل فقط من شعبه سيستطيعون شراءها.
يستطيع أردوغان أن يسجن المعارضين ويغلق الصحف، لكنه لا يستطيع أن يحبس الأسواق، كما أن الأسواق لم تعد تشتري بضاعته.  

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا