ناشيونال إنترست | الحروب المضللة.. الكذب ليس المشكلة الرئيسية

ترجمات رؤية

ترجمة بواسطة – شهاب ممدوح

خصّصت صحيفة واشنطن بوست في الأيام الماضية حيّزًا واسعًا لنشر سلسلة تحقيقات عن حرب أفغانستان – بالرغم من تنافس الصحف فيما بينها لتغطية أخبار عزل ترامب – وذلك بناءً على سجلات مقابلات رسمية حصلت عليها الصحيفة بموجب قانون حرية الحصول على المعلومات. يحب الصحفيون والصحف التي يعملون فيها تصوير هذه التحقيقات الصحفية البارزة باعتبارها معلومات جديدة كان من الممكن إخفاؤها لولا وجودها. لكن المكتب الحكومي الذي أجرى هذه المقابلات والمعروف باسم "المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان" لم يكن متورطًا في إخفاء الحقائق.

تأسس مكتب "المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان" من جانب الكونغرس عام 2008، وهو يعمل بحرية وعلانية، وكان قد نشر قائمة طويلة من التقارير أثناء فترة وجوده الممتدة لعقدة من الزمان. أخذ صحفيو واشنطن بوست نصوص وسجلات هذه المقابلات التي شكّلت أساس بعض تلك التقارير، وسلّطت الصحيفة الضوء على بعض التعليقات فيها، فضلًا عن بعض أسماء الأشخاص الذين تمت مقابلتهم وأخفى مكتب المفتش العام هويتهم لأن المقابلات تمت على أساس عدم نسبها إلى أصحابها.

مع هذا، وصفت الواشنطن بوست سلسلة تحقيقاتها بأنها كشْفٌ للأكاذيب والحقائق المخفية. كان عنوان الجزء الأول لهذه السلسلة هو "حرب على الحقيقة"، وتعلن الجملة الافتتاحية لهذا الجزء أن الوثائق التي استخلصها صحفيوها "تكشف أن مسئولين أمريكيين كبارًا لم يقولوا الحقيقة بشأن الحرب في أفغانستان أثناء هذه الحرب الممتدة منذ 18 عامًا، مُقدمين تصريحات وردية كانوا يعلمون أنها كاذبة، وتخفي دليلاً لا جدال فيه أن هذه الحرب من المستحيل الفوز بها".

بالتأكيد شهدت حرب أفغانستان إطلاق العديد من التوقعات الرسمية التي ثبت مع مرور الزمن أنها كانت مفرطة في التفاؤل وغير متوافقة مع التقييمات الأكثر واقعة التي أجراها المسئولون خلف الأبواب المغلقة.
لكن مشاكل الحملة الأمريكية في أفغانستان، كما وثقها مكتب المفتش العام لإعادة إعمار أفغانستان والآن صحيفة الواشنطن بوست، لم تكن تتعلق بصورة رئيسية بإطلاق قادة سياسيين أو مسئولين حكوميين أكاذيب أو إخفاء الحقائق.
إن الأكاذيب والخداع لم تكن السبب وراء التدخل العسكري الأمريكي في أفغانستان أو تحول هذه الحملة العسكرية لأطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة.

تدخلت الولايات المتحدة في أفغانستان وبقيت متورطة هناك لأسباب تتعلق بمخاوف وضغوط سياسية عامة. لم يكن هناك شك عقب الحادث الأليم الذي أصاب الأمة الأمريكية في الحادي عشر من سبتمبر، أن القوات الأمريكية ستدخل أفغانستان لاقتلاع الجماعة المسئولة عن الهجوم، أي تنظيم القاعدة الذي أسس قواعد له في ذلك البلد.
كان يجب إيجاد مخرج عقب اقتلاع القاعدة والإطاحة بحكم حركة طالبان التي استضافت ذلك التنظيم، لكن بالنسبة للعديد من الإدارات الأمريكية المتعاقبة، كان من الصعب سياسيًّا إيجاد مخرج لمشكلة أفغانستان. كان هناك خوف كامن من التداعيات السياسية لهذا القرار، فلو انسحبت الولايات المتحدة من أفغانستان، ووقع هجوم إرهابي في الولايات المتحدة له علاقة بأفغانستان، فسيقع اللوم حتمًا على عملية الانسحاب من ذلك البلد.
فيتنام

ثمة ملاحظات مماثلة تتعلق بالأدوار النسبية للأكاذيب والديناميات السياسية، يمكن تقديمها بشأن حروب أمريكية أخرى فاشلة في نصف القرن الماضي. وهذا يشمل حرب فيتنام، والتي تطرقت إليها صحيفة واشنطن عبر الربط بين تحقيقها الصحفي المسمى (أوراق أفغانستان) و"أوراق البنتاغون" التي تروي التاريخ السري لوزارة الدفاع للجزء الأول لحرب فيتنام.
نعم، تورّط صُنّاع تلك الحرب في الخداع، مثل تصوير حادثة "خليج تونكين" عام1964 بوصفها هجومًا في المحيط المفتوح من جانب فيتنام الشمالية، ولاحقًا التلاعب بقوة أعداد العدو، لكي يبدو الأمر وكأن الولايات المتحدة نجحت في استنزاف القوات الفيتنامية الشيوعية. لكن الولايات المتحدة كانت ستخوض حرب فيتنام حتى من دون اللجوء لتلك الخُدَع.
إن قصة "أوراق البنتاغون" لا تتعلق بمسألة الخداع، بقدر ما تتعلق بصنّاع قرار كانوا يؤمنون -بالرغم من تشاؤمهم بشأن تحقيق "نصر" في فيتنام – أن عليهم بذل جهد للمحافظة على مصداقية الولايات المتحدة ومنع سقوط دول آسيوية أخرى أمام الشيوعية مثل قطع الدومينو.    

ربما تبدو تلك المعتقدات خاطئة اليوم، لكنها كانت واسعة الانتشار في ستينيات القرن الماضي، بما في ذلك وسط الصحفيين الأمريكيين. في عام 1969، نشر"ديفيد هالبيرستام" كتابًا بعنوان: "الأفضل والأذكى" يذكر فيه كيف يمكن للأذكياء أن يتورطوا في صراع غبي، لكنه كان قد ألّف كتابًا في عام 1965- بالتزامن تقريبًا مع إطلاق الولايات المتحدة حملتها البرية في فيتنام – ذكر فيه أن أي انحساب أمريكي من فيتنام سيعني أن "مكانة الولايات المتحدة ستتدنى في العالم، وسيعني أن ضغط الشيوعية على بقية جنوب شرق آسيا سيشتدّ".
وقال "هالبيرستام" إن فيتنام: "ربما تكون واحدة من خمس أو ست دول في العالم فقط تمثل أهمية حيوية للمصالح الأمريكية".

هناك صحفي آخر في صحيفة نيويورك تايمز وهو "نيل شيهان"، والذي عمل كحلقة اتصال لنشر "أوراق البنتاغون"، والذي نال المديح بسبب تغطيته الناقدة للحرب، كما فعل في كتابه "كذبة مشرقة وساطعة".
إذ عبّر ذلك الصحفي في وقت سابق عن آراء مماثلة في بداية حرب فيتنام. ففي مقالة تحليلية طويلة في نيويرك تايمز في أغسطس عام 1964، كتب أن هناك حاجة "لكي نثبت لسائر العالم أن هذا البلد لديه الرغبة والقدرة على هزيمة الاستراتيجية التوسّعية للشيوعية". وتطرق "شيهان" لنظرية قطع الدومينو، مُعلنًا أن هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام "سترقى لكونها كارثة استراتيجية من الدرجة الأولى". 

لقد شهدت آراء الصحافة والجمهور والسياسيين الأمريكيين بخصوص فيتنام تغيرًا هائلاً في فترة زمينة مدتها ثلاث سنوات، بسبب صعوبات الحرب وتكاليفها الهائلة من دون تحقيق إنجاز على الأرض. لم تتغير الآراء بسبب الكشف عن بعض الحقائق المخفية.
إن "أوراق البنتاغون" هي مصدر رائع للمؤرّخين ومحللي السياسات، لكن نشرها لم يغيّر مسار الحرب. عندما سُربت تلك الأوراق في عام 1971، كان قد مضى عامان على قرار إدارة نيكسون تخفيض عدد القوات الأمريكية في فيتنام.
العراق

كانت الأسباب التي سيقت لتبرير حرب العراق عام 2003 أكثر هشاشة من حرب فيتنام، وكانت تلك الحرب تحظى بقاعدة دعم أضيق، وقادها المحافظون الجدد الذين سعوا طويلًا للإطاحة بالنظام العراقي.
لقد كان "التحالف" الخرافي بين تنظيم القاعدة والنظام العراقي والذي روّج له صنّاع تلك الحرب كاذبًا تمامًا – خلافًا للمبرر الرئيسي الآخر للحرب وهو أسلحة الدمار الشامل- ومتناقضًا مع آراء مجتمع الاستخبارات الأمريكي، لكن حتى فيما يتعلق باستخدام الإدارة الأمريكية لمبرر مختلق للربط بين صدام والإرهابيين، لم تعتمد حملة الإدارة الترويجية لحرب العراق على أكاذيب محددة، بقدر ما كانت تعتمد على خطاب حربي دعائي أكثر غموضًا ربط باستمرار بين العراق وأحداث الحادي عشر من سبتمبر، مستغلاً المزاج العسكري الذي ساد وسط الشعب الأمريكي عقب أحداث سبتمبر.

ومدعومةً بهذا الخطاب الحربي الدعائي، حصلت حرب العراق على دعم واسع تجاوز المحافظون الجدد الذي روّجوا لها في البداية. في البيئة التي سادت عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، كان للجمهوريين والعديد من الديمقراطيين أسبابهم السياسية المنفصلة لدعم الحرب، وكما هو الحال مع حرب فيتنام، تلاشى الدعم للحرب بمرور الوقت، ليس بسبب الكشف المثير عن بعض الحقائق المخفية، ولكن بسبب فشل الحرب وتكاليفها الباهظة من دون تحقيق إنجاز كبير على الأرض.

مرة أخرى، كان الصحفيون جزءًا من موجة المشاعر الجماهيرية المتذبذبة الأوسع نطاقا. بعد فشل الحروب وتدنّي دعمها، لجأ الصحفيون فيما يبدو للافتراض أنه لابد أن هناك بعض الأسرار، التي وإن كُشِفَ النقاب عنها في وقت سابق، لكان من الممكن منع كل هذه الفوضى. نشر الصحفي السابق في واشنطن بوست "ريتشارد كوهين" تحقيقًا مسرّبًا مثل هذا في فبراير 2006، يشكو من "صمت" ضباط استخبارات أمريكيين تجاه إساءة استخدام إدارة بوش للمعلومات الاستخبارية.

كتب الصحفي "كوهين" عمودًا صحفيًّا قبل ثلاث سنوات من نشر تحقيقه، وقبل أسبوع من غزو العراق، قال فيه: "في الفترة التي تسبق هذه الحرب، تعثرت إدارة بوش وسقطت على وجهها. لقد قدمت الإدارة حججًا غير مثبتة ولا سند لها، كما تذبذب موقفها من نزع سلاح النظام العراقي، إلى تغيير النظام وجلب الديمقراطية للوطن العربي، وربطت الإدارة بين صدام حسين بالقاعدة في حين أنه لا توجد أصلًا علاقة بين الطرفين، كما حذرت من برنامج نووي عراقي وشيك، في حين بدا أن هذا ليس صحيحًا".

إن وصف "كوهين" كان دقيقًا، ومن الواضح أنه لم يُخدع بخطاب الإدارة المؤيد للحرب، كما لم تكن هناك حقيقة مخفية كان الكشف عنها ربما سيغير تصورات الناس، لكن "كوهين" دعم الحرب، على أية حال، زاعمًا أنه "أحيانًا لا يكون السلام هو الخيار الأفضل، لا سيما لو كان كل ما يفعله هذا السلام هو تأجيل الحرب". إن الأمر الوحيد الذي غيّر رأي "كوهين" كان التكاليف المرتفعة للحرب.

تحمّل المسئولية

إن سلسلة تحقيقات صحيفة واشنطن بوست عن أفغانستان، تقدّم مادة مفيدة للنقاش والتأمل بشأن هذه الحرب والتحديات التي قد تواجها تدخلات أمريكية مماثلة في المستقبل. لكن تصوير الفشل في هذه الحرب بأنه نتيجة لإخفاء الحكومة للحقائق ونشرها للأكاذيب، هو أمر مغلوط.

إن هذا التوصيف المغلوط للحرب لا يراعي الحساسية المتعلقة بمشاعر ومخاوف الجماهير وبالحكمة التقليدية، والتي تميل لإنتاج حروب سيئة. ومثال على هذا القضايا الراهنة المتعلقة بسوريا (حيث دعمت واشنطن بوست في مقالاتها الافتتاحية باستمرار التدخل الأمريكي في هذا البلد).
إن الخطاب الداعي لضرورة اتباع الولايات المتحدة نهجًا صارمًا في سوريا بسبب المخططات الإيرانية والروسية المزعومة الساعية للسيطرة على المنطقة، هو بمثابة تكرار لنظرية قِطع الدومينو.
كما تلعب العواطف السياسية المحلية دورًا أيضا؛ حيث إن بعض الأشخاص الذين يفضلون إبقاء القوات الأمريكية في سوريا يبدو وكأنهم يفعلون هذا فقط لأن ترامب يفضّل سحبها من هناك.

إن نسْب الحروب السيئة إلى افتقار الحكومة للشفافية هو تهرّب من المسؤولية، وهو طريقة لتحميل الكاذبين وكاتمي الأسرار المفترضين في الحكومة مسئولية بعض المآسي التي تسبب فيها عدد كبير من الأمريكيين – الجمهور والصحافة والكونغرس- والذين سمحوا لأنفسهم لأن ينجرفوا وراء مشاعر وافتراضات محددة، ولم يطرح هؤلاء الأمريكيون أسئلة جادة بشأن هذه الافتراضات، أو يفكروا مليًّا في المسار الذي تتجه إليه البلاد بسبب هذه العواطف. إن توجيه تلك الأسئلة الجادة والتفكير بإمعان، بالإضافة إلى إجراء نقدي ذاتي، كلها أمور ضرورية لتقليل إمكانية تورّط الولايات المتحدة في المستقبل في المزيد من الحروب السيئة.  

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا