ناشيونال إنترست| متلازمة فيتنام..كيف يمكن فهم سياسات التدخل الأمريكي العسكري بالخارج؟

ترجمات رؤية

ترجمة بواسطة – بسام عباس

تمثل الرئاسات ذات الفترة الواحدة طرقًا مسدودة للسياسة الأمريكية. ومثل هؤلاء الرؤساء، ما إن يتم ذكر آمال الأمة حتى يتم تذكر كيفية أنهم قادوا البلاد إلى طريق لم يكن لهم أن يسلكوه. ومن بين هؤلاء الرؤساء في الفترة الأخيرة، "هربرت هوفر" و "جيمى كارتر"، اللذين أصبحا مرادفًا للفشل الرئاسي. وفي تناقض صارخ يقف آخر رئيس يحكم لفترة واحدة، "جورج بوش الأب". حيث شهد رحيله في نوفمبر الماضي بالتحية لشخصيته التي لا تضاهى وقيادته الفذة للسياسة الخارجية الأمريكية ، وتحديدًا إنجازاته في تأمين السلام في أوروبا بعد حرب باردة دامت عقدين من الزمن وقيادة ائتلاف عالمي ضد العدوان الذي حدث في الشرق الأوسط. غير أن نجاحه كقائد للقوات المسلحة في حرب الخليج قد طغت عليه وأثبتت صلابته أكثر من إنجازاته كصانع سلام في الحرب الباردة. لقد ترك بوش (الرئيس الـ 41) بالفعل "عالمًا متحولاً"، ولكن ليس بالضرورة جمهورية مهيأة للسلام.

وفي عام 1938، أذعنت الديمقراطيات الليبرالية الرائدة في العالم، بريطانيا وفرنسا، لمطالب ديكتاتور ألماني بضم دولة ذات سيادة. وبدلاً من تحقيق "السلام في عصرنا"، لم تسفر الاتفاقية إلا عن مزيد من العداء. فقد أغرقت اعتداءات ألمانيا بعد سنة واحدة القارة الأوروبية في حرب عالمية ثانية. فبعد تعرضها لدمار ومحرقة غير مسبوقين، تعهدت القوى المنتصرة على عدم استرضاء المعتدي مرة أخرى.

بعد الحرب ، قادت الولايات المتحدة – القوة العظمى الجديدة في العالم – العالم الحر في تطبيق هذه "الدروس من ميونيخ" على التحدي الذي فرضته القوة العظمى الجديدة الأخرى في العالم، والمتمثلة في الاتحاد السوفييتي.

وفي الفترة بين عامي 1945 و1960، عمل الرؤساء الأمريكيون المتعاقبون على إعادة تنظيم المؤسسة الدفاعية، وإنشاء حلف الناتو، وتقديم المساعدة إلى الدول التي تواجه التنمر الشيوعي. وعندما حاول الاتحاد السوفييتي فرض حصار على برلين الغربية، قامت أمريكا على الفور بتنسيق جسر جوي لتزويد المدينة. على عكس تشيكوسلوفاكيا، فإن الغرب لم يرضخ أبدًا أمام عدوان استبدادي.

وللتعويض عن الحرمان في القوى التقليدية، استخدم الرؤساء الأمريكيون الترسانة النووية الكبيرة في البلاد كرادع. حيث نجح التهديد النووي المدمر في إنهاء الحرب الكورية وردع الصين ضد تايوان، لكن القادة الأمريكيين كانوا يخشون بشكل مبرر من أن استخدام القوات التقليدية لن يؤدي إلا إلى زيادة إمكانية نشوب حرب– أو ما هو أسوأ من ذلك: حرب نووية– مع الاتحاد السوفيتي. وحتى عندما اندلعت الثورة في عام 1956 حيث سنحت فرصة لتحرير المجر، رفضت الولايات المتحدة التدخل.

وفي عام 1960، تولى جيل جديد من الرؤساء الأمريكيين. وللحفاظ على وعود "تحمل أي عبء"، صاغ القادة الأمريكيون مقاربة دفاعية جديدة تسمى "الاستجابة المرنة"، حيث يتم توجيه استخدام القوات التقليدية حسب الحاجة. وبدلاً من الوقوف جانبًا، كما حدث عام 1956، فإن الاستجابة المرنة ستوفر لأمريكا خيارات بخلاف سياسة حافة الهاوية النووية.

ومن عجيب المفارقات هنا أن محاولة زيادة المرونة الأمريكية كانت ملزمة للأمة فقط في تطبيق دروس ميونيخ على نطاق أوسع.
وفي النهاية، وبسبب الاستجابة المرنة تورطت أمريكا في فيتنام البعيدة. وفي تتابع سريع، تزايد الرد الذي اشتمل مبدئيًّا على 500 مستشار في عام 1961إلى 16000 بحلول عام 1963. وخوفًا من خسارة جنوب فيتنام وانضمامها للشيوعية، قام القادة الأمريكيون في النهاية بنشر حوالي خمسمائة جندي بحلول عام 1968.

وحيث أصبح من الواضح أن أي عدد من الجنود لن يهزم الشيوعيين الفيتناميين، تحولت الحرب في فيتنام بشكل مأساوي إلى مستنقع دموي. وبالعودة إلى الوطن، انكفأت الأمة على نفسها، عندما أدانت الحركة المناهضة للحرب أمريكا باعتبارها المعتدي الحقيقي، في حين رد المؤيدون بشجب الحركة وأنها تعادي أمريكا.

بعد رحيل أمريكا المهين في عام 1975، استعادت دروس فيتنام– متلازمة فيتنام– تلك التي كانت في ميونيخ.

وإثر ذلك، استنتج جيل جديد من القادة أن دروس ميونيخ لم تؤد إلا إلى كارثة. ومع المضي قدمًا، سوف ترفض أمريكا استخدام القوة تمامًا، حتى في مواجهة العدوان السوفيتي المباشر فيما نلقى من فترة السبعينيات. وفي الوقت نفسه، تحول الجيش الأمريكي إلى "قوة فارغة". فعندما احتجز الثوار رهائن أمريكيين في إيران عام 1979، امتنعت أمريكا عن استخدام القوة لأكثر من عام. عندما تدخلت أمريكا أخيرًا، انتهت العملية بكارثة مذلة.

وفي عام 1980، أدى عدم الرضا عن هذا التراجع ، في جزء منه ، إلى انتخاب رونالد ريجان. وخلال فترتي ولايته، أعاد ريجان تشكيل الجيش، وأعاد التزام الأمة باحتواء الشيوعية. ومع ذلك، فما زالت متلازمة فيتنام سائدة. ورغم أن ريجان كان معاديًا للشيوعية، إلا أنه أجاز عمليات بسيطة في جرينادا وليبيا.

وفي الفترة بين 1989 و1991، أتت سنوات الاحتواء أكلها في النهاية. فقد سقط جدار برلين، وتحولَّت الديكتاتوريات الشيوعية السابقة إلى الديمقراطية، وانهار الاتحاد السوفيتي السابق.

من الأمور الحاسمة للحفاظ على السلام خلال هذا الاضطراب، كانت قيادة نائب الرئيس ريجان، بوش الأب. فقد طمأنت نزاهة بوش القيادة السوفيتية بأن التخلي عن أقمارها الصناعية لن يؤدي إلى تحرك الناتو باتجاه الشرق. وعلى نفس القدر من الأهمية ، تحاشى "بوش الأب" إظهار التفوق، ورفض الاحتفال بتفكك الشيوعية. لقد أكدت دبلوماسية بوش البارعة أن هذا الحدث التاريخي العالمي لم يحدث فيه حرب أو فوضى.

قد تكون هذه الحادثة السلمية الهادئة اللافتة للنظر قد أثبتت صحة متلازمة فيتنام، ولكن من أجل استدعاء بوش الأب لميونيخ في حشد ائتلاف لإخراج الغزو العراقي من الكويت عام 1990. وكان الكثير من الأمريكيين قلقين من أن يؤدي العمل العسكري إلى فيتنام أخرى، لكن الجيش الأمريكي المعاد بناؤه حقق نصرًا أدهش الجميع حتى الرئيس نفسه.

بعد ذلك، أعلن بوش الأب أن "متلازمة فيتنام" "استقرت". وبالتزامن مع سقوط الاتحاد السوفيتي، لم تعد أمريكا تواجه معارضة أيديولوجية أو عسكرية، لأهداف سياستها الخارجية.

ويتطلب تدشين هذا العصر الجديد رؤية واضحة لمكانة أمريكا في العالم. ولكن بوش الأب – المنزعج من "الرؤية" بكل وضوح، أعلن فقط بشكل مبهم عن ظهور "نظام عالمي جديد" يقوم على المشاركة السلمية وتعزيز التعددية.

وهكذا تعالت أصوات أكثر طموحًا، حيث افترض العلماء نظريات مثل "نهاية التاريخ" و"لحظة أحادية القطبية" و"صراع الحضارات". ورغم اختلاف طبيعة تلك الأفكار، إلا أنها جميعًا أعطت أمريكا مهمة عالمية– لمواصلة الهيمنة، ولمعارضة الكيانات المعادية للغرب، ولنشر الديمقراطية وتحقيق العدالة.

وفي المقابل، أكد عدد قليل من الأصوات المنفردة بأن الولايات المتحدة يجب أن تصبح في النهاية "دولة طبيعية" تركز على "أمريكا أولاً" ، لكن هذه المشاعر توارت وسط نشوة "ربح" الحرب الباردة، و"الثورة في الشئون العسكرية".

وبعد رفضه لتولي فترة ثانية، لم يحظ بوش الأب بفرصة لتعريف ما يمكن أن يستتبعه "النظام العالمي الجديد"، ناهيك عن إثباته. للأسف الشديد، تم تجاهل سجل بوش الأب في الدبلوماسية المثالية وضبط النفس لصالح الوعود المثيرة التي قدمتها قوة عسكرية لم يسبق لها مثيل.
في النهاية، كان إرث "بوش الأب" هو "متلازمة ميونيخ الإمبريالية " حيث الانخراط نادرًا ما يكون سلميًّا وكان متعدد الأطراف مما يفسح المجال أمام الأحادية الصارمة والتخلف عن التدخل.

في الواقع، على مدى السنوات الأربع والعشرين القادمة، سيكون التدخل الأمريكي بلا هوادة.

فقد تدخل خليفته "كلينتون" في الصومال وهايتي والبلقان لمنع الأزمات الإنسانية. كما قام خليفة كلينتون (وابن بوش) جورج دبليو بوش الابن (الرئيس الـ 43) بغزو أفغانستان والعراق، وشن "حربًا عالمية على الإرهاب"، وتبنى دعم الديمقراطية في جميع أنحاء العالم. وقد احتفظ "باراك أوباما"، خليفة بوش الابن، بقوات أمريكية في أفغانستان، وأمر بتنفيذ هجمات بطائرات بدون طيار في باكستان، ونشر قوات في ليبيا وسوريا لمساعدة الثوار في إسقاط حكوماتهم الديكتاتورية.

تميزت هذه الفترة بتزكية شعارات مثل "أمة لا غنى عنها" و"مسئولية الحماية" وخيرية "نوع جديد من الإمبريالية".

لم تكن طريقة الحفاظ على المصلحة الوطنية الأمريكية واضحة بشكل مقنع. ولكن بشكل أكثر واقعية، استنزفت التدخلات المستمرة القوة والخزانة الأمريكية. واستنكر الحلفاء حتميتها كقوة عظمى . فيما ستتزايد التهديدات الإرهابية عائدة من بين الأموات. فيما أجبرت الفوضى في ليبيا وسوريا الملايين على الفرار، حيث اجتاحت أوروبا.

واستمرت الحرب في أفغانستان على مدار سبعة عشر عامًا، وبلغت تكلفتها تريليونات الدولارات، وما زالت مستمرة حتى يومنا هذا دون أن تلوح لها نهاية في الأفق.

ربما يكون الرئيس الحالي "دونالد ترامب" هو النقيض الكامل لبوش الأب من حيث مزاجه وخبرته، لكن نهجه "أمريكا أولا" ربما يميز أخيرًا نهاية هذه الانتكاسة المؤسفة للإمبريالية. وما زال دافعه للتدخل مستمرًا كما يدل على ذلك معارضة انسحابه المعلن من سوريا، ولكن مع صعود الصين وعودة روسيا، أصبحت المشاركة والتعددية أكثر أهمية من أي وقت مضى. ربما سيتم تحقيق إعلان بوش الأب غير المحقق لنظام عالمي جديد بالفعل على يد خليفته الأكثر استبعادًا لهذه المهمة. 

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا