نيويوركر | النتائج سلبية.. لماذا تتراجع دراسة التاريخ بالجامعات فى الولايات المتحدة الأمريكية؟

ترجمات رؤية

ترجمة بواسطة – بسام عباس

 بعد أن تجاهل الاقتصاديون، وغيرهم من العلماء، قضايا عدم المساواة الاقتصادية لعقود من الزمان، اكتشفوا أخيرًا مجموعة من التأثيرات التي تتجاوز كثيرًا حقيقة أن بعض الناس لديهم الكثير من المال، بينما الكثير لا يملكون ما يكفيهم. وعدم المساواة هذه تؤثر على صحتنا الجسدية والعقلية وقدرتنا على التوافق مع بعضنا البعض، وجعل أصواتنا مسموعة ونظامنا السياسي تحت المساءلة، وما يمكن أن نقدمه لأطفالنا في المستقبل. ومؤخرًا لاحظت مظهرًا من مظاهر عدم المساواة الاقتصادية لم تحظ بالاهتمام الذي تستحقه، أطلقت عليها اسم "عدم المساواة الفكرية".

لا أشير إلى الحقيقة الواضحة والحتمية التي تقول إن بعض الناس أذكى من الآخرين، بل إلى حقيقة أن بعض الناس لديهم الموارد اللازمة لمحاولة فهم مجتمعنا، بينما لا يملك معظم الناس ذلك. ففي أواخر العام الماضي، نشر "بنجامين شميدت"، أستاذ التاريخ في جامعة نورث إيسترن، دراسة أثبتت أن مجال دراسة التاريخ يتراجع بسرعة أكبر من أي تخصص آخر، حتى مع ذهاب المزيد والمزيد من الطلاب إلى الكلية.

ورغم وجود أكثر من 24 ألف تخصص في التاريخ الحالي، فإنه يمثل ما بين واحد إلى اثنين في المائة من درجات البكالوريوس، وهو انخفاض يبلغ نحو الثلث منذ عام 2011. ويمكن رؤية هذا التراجع لدى كل الجماعات الإثنية والعِرقية تقريبا، ولدى كل من الرجال والنساء. أما جغرافيًّا، فهو أكثر وضوحًا في الغرب الأوسط -الأمريكي-، ولكنه موجود في كل مكان تقريبًا.

ولكن هناك أمر رائع، فالتاريخ في حالة ازدهار بجامعة ييل، حيث يعد ثالث أشهر التخصصات إقبالاً، وفي كليات النخبة الأخرى، والتي تضم براون، وبرينستون، وكولومبيا، حيث لا يزال من بين أهم التخصصات المعلنة. وتعتزم إدارة قسم التاريخ في جامعة ييل تعيين أكثر من نصف أعضاء هيئة التدريس هذا العام فقط.

وفي هذه الأثناء، اقترح "بيرني باترسون"، مستشار جامعة "ويسكونسن ستيفنز بوينت"، إلغاء قسم التاريخ، وإقالة واحد من أعضاء هيئة التدريس على الأقل. بالطبع، يصبح كل شيء أكثر تعقيدًا عندما تتطلع إلى التفاصيل. حيث أخبرني "لي  ويليز"، رئيس قسم التاريخ، أن اقتراح المستشار هو مقياس لخفض الميزانية ردًّا على التراجع المستمر في عدد من التخصصات المعلنة، ولكن الأمر يتعلق حقًا بضرورة تخفيض عدد أعضاء هيئة التدريس من أربعة عشر إلى عشرة، وهذا يعني التخلص من عضو واحد على الأقل. وللقيام بذلك، فمن الضروري إلغاء القسم. (قال متحدث باسم جامعة ويسكونسن ستيفنز بوينت إن "الجامعة تدرس جميع الخيارات لتجنب استبعاد أعضاء هيئة التدريس والموظفين") وسيتم توزيع باقي الأساتذة إلى أقسام جديدة تجمع بين التاريخ وتخصصات أخرى.

لقد خرّجت جامعة ستيفنز بوينت، في نورث وودز بولاية ويسكونسن، الرعيل الأول من طلاب الجامعات، وفي الماضي، ركز قسم التاريخ على تدريب المعلمين. وأشار ويليز إلى أنه بعد أن هاجم "سكوت ووكر"، الحاكم السابق، نقابات المعلمين في الولاية وفرض فوائد، وطرد نحو 10% من مدرسي المدارس العامة خارج هذه المهنة، يبدو أن مهنة التدريس تبدو أقل جاذبية للطلاب إلى حد كبير.

وقال ويليز: "إنني أسمع الكثير مثل: ما نوع الوظيفة التي سأحصل عليها؟  طلب مني والديّ أن أحول من القسم" وأضاف: "هناك الكثير من الضغط على هذا الجيل"، لكنه لاحظ أيضًا ارتفاعًا في تخصصات التاريخ المعلنة في الفصل الدراسي الماضي من 76 إلى 120. قائلاً: "هذا التصور أحادي الاتجاه وصولاً إلى لا شيء ليس هو التصور الذي أراه".

ومن الواضح أن الانخفاض الحاد في خريجي التاريخ قد بدأ في 2011 و 2012. ومن الواضح أيضًا أنه بعد الأزمة المالية عام 2008 ، شعر الطلاب (وأولياء أمورهم) بالحاجة إلى اختيار تخصص في مجال قد يضعهم على مسار وظيفي آمن. وفي هذا الإطار يقول شميت، في دراسة سابقة: إن جميع التخصصات الرئيسية التي شهدت نموًا منذ عام 2011 هي تخصصات العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات، إضافة إلى التمريض والهندسة وعلوم الكمبيوتر والبيولوجيا. في حين يقول "آلان ميخائيل"، رئيس قسم التاريخ في جامعة ييل: إن "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وستانفورد يدفعان بقوة نحو العلوم". وقد تميل جامعات أخرى إلى محاكاة هذه الجامعات، ولا شك في أن هذا يثير قلق الممولين في هذه الأيام، ومع أموالهم تأتي المكانة التي تعطي الجامعة سمعتها الوطنية.

ويحكي "ديفيد بلايت"، أستاذ التاريخ في جامعة ييل ومدير مركز جيلدر ليرمان لدراسة الاسترقاق والمقاومة والإلغاء، قصة مماثلة عندما يتعلق الأمر بالتمويل. ففي اجتماع عُقد مؤخرًا مع عميد الجامعة، قيل له إن الممولين الفرديين كانوا يتطلعون إلى تمويل برامج العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، وكما أكد بلايت: فإن "الممولين هم من يوجهون دفة الأمور".

ومع ذلك ، لا يزال تخصص التاريخ يزدهر في جامعة ييل، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أنه قسم كبير به عدد من النجوم المعروفين على المستوى الوطني، وجميعهم من المتوقع أن يقوموا بالتدريس على مستوى جامعي، وفي جزئية أخرى، يرجع ذلك إلى أنها جامعة ييل، حيث شهادتها في العلوم الإنسانية تفتح كل الأبواب المهنية. وكما قال ميخائيل: فإن "الضغط الاقتصادي الحقيقي الذي يشعر به الطلاب اليوم يتراجع في جامعة ييل. وتؤدي عملية القبول وفق المؤهل إلى إحداث فرق كبير، إلى جانب الشعور بأن شهادة جامعة ييل في أي تخصص ستؤهلهم لأي وظيفة يرغبونها، حتى في كليات مثل جولدمان أو كلية الطب".

وقد قام قسم العلاقات العامة في الكلية مؤخرًا بعمل فيديو ترويجي حول "فرناندو روخاس"، ابن مهاجرين مكسيكيين، الذي استحوذ على  عناوين الأخبار منذ بضع سنوات عندما تم قبوله في جميع جامعات رابطة اللبلاب "Ivy League" الثمانية. حيث يعتزم روجاس، الذي وجد منزله الفكري في مركز ييل لدراسة العرق والأصالة والهجرة عبر الوطنية، متابعة شهادة الدكتوراه في التاريخ.

والسبب في أن طلاب جامعة ييل ومثلها من الجامعات المتقدمين لتخصص التاريخ يمكنهم رؤية الكلية كفرصة للتعرف على العالم خارج حدود مدنهم، ومحاولة فهم ما قد يناسبهم. وهذا أفضل ما يفعله التاريخ، إنه يحدد لنا ويساعدنا على فهم كيف وصلنا إلى هنا ولماذا تكون الأمور قد وصلت لما هي عليه. وأخبرني "لي ويليز": أن "التاريخ يغرس حس المواطنة، ويذكرك بالأسئلة التي تطرحها، خاصةً حول الأدلة". وفي رسالة إلكترونية أرسلها بعد محادثتنا، قال ميخائيل: "تُبين لنا دراسة الماضي أن الطريقة الوحيدة لفهم الحاضر هي احتضان فوضى السياسة والثقافة والاقتصاد. لا توجد أبدا إجابات سهلة للتساؤلات الملحة حول العالم والحياة العامة". أما "بروس سبرينجستين" فأسس وعيًّا سياسيًّا عميقًا بعد ما أوضحه "ألان نيفينز" و"هنري ستيل كوماينجر" في كتابهما: "تاريخ الولايات المتحدة للجيب"، والذي نُشر لأول مرة عام 1942.

وفي كتابه الأخير "عرض برودواي"، أوضح سبرينجستين: "أردت أن أعرف القصة الأمريكية بأكملها.. شعرت أنني بحاجة إلى فهم أكبر قدر ممكن منها لفهم نفسي".

وإذا ما أتينا إلى الرئيس "دونالد ترامب"، فهو ليس فقط ملك الأكاذيب ولكنه أيضًا ملك المزاعم غير التاريخية. ولذا فمن الصعب اختيار كذبة مفضلة من بين آلاف الأكاذيب التي أطلقها ترامب وهو رئيس، لكن صدمة واحدة أخيرة كانت عندما أصر– متجاهلاً  كل ما نعرفه عن سلوك الاتحاد السوفيتي غير القانوني – أن "سبب وجود روسيا في أفغانستان هو عزم الإرهابيين على الذهاب إلى روسيا". وقد اعتمد الجمهوريون، على مدى العقود القليلة الماضية، على الأمريكيين، حيث إن عدم القدرة على فهم التاريخ تساهم في عدم القدرة في الحكم على سياساتهم، فكيف يمكن إذًا تفسير حقيقة أنهم – في ظل رئاسة ترامب – نجحوا في تحويل الهجرة القانونية إلى ذريعة لجميع المساوئ التي تعاني منها البلاد، عندما يثبت أي تحليل تاريخي واضح أن هذه الهجرة كان لها نصيب الأسد من الابتكارات والإبداعات والإنتاج الاقتصادي الأمريكي؟

وفي هذا السياق، قال لي بلايت: "نعم، لدينا مسئولية في التدريب من أجل عالم التوظيف، لكننا نُعلِّم للحياة، فبدون معرفة التاريخ، لن  تكون مستعدًا للحياة". وبما أن خطابنا السياسي تهيمن عليه المصادر التي لا تهتم بشيء من الحقيقة أو المصداقية، فإننا نقترب أكثر فأكثر من الوضع الذي حذر منه "والتر ليبمان" منذ قرن مضى، في كتابه "الحرية والأخبار"، حيث قال: "إن الرجال الذين فقدوا سيطرتهم على الحقائق المتصلة ببيئتهم هم ضحايا حتميون للإثارة والدعاية. ويمكن أن تزدهر الشعوذة والدجل والعصبية القومية، حيث يتم حرمان الجمهور من الوصول الحر إلى المعلومات". إن أمة ليس لمواطنيها معرفة بالتاريخ يطلبون أن يقودهم الدجالون والمشعوذون والمتعصبون، وكما أثبت منذ أن ركز على البروز السياسي لكذبة مسقط رأس باراك أوباما، فإن ترامب يجمع بين هؤلاء الثلاثة (الدجالون والمشعوذون والمتعصبون) وبدون المزيد من التخصصات التاريخية، فمن المؤكد أننا سنكرر الأمر ذاته.

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا