نيويوركر | وجه آخر للفكاهة.. كيف تم استخدام شخصية دونالد دوك الكرتونية لأغراض سياسية؟

ترجمات رؤية

ترجمة بواسطة – شهاب ممدوح

في مدينة "سانتياغو"، تشيلي، في مطلع سبعينيات القرن الماضي، عمل الكاتب "آريل دورفمان" مستشارًا ثقافيًا للرئيس التشيلي "سلفادور اللندي". كانت هناك أجواء ثورية تعمّ المكان، وقد شعر "دورفمان"، كما كتب في مذكراته التي نُشرت عام 1998 بعنوان: "التوجّه نحو الجنوب، والنظر نحو الشمال"، "بحموة تلك اللحظات العظيمة القليلة في وجودك عندما تدرك أن كل شيء ممكن".

ألّف "دورفمان" كل شيء بداية من القصائد وتقارير السياسات وصولاً إلى قصص الأطفال الهزلية المصوّرة وأغاني الراديو. وكان  أشهر عمل له في تلك السنوات  عبارة عن مجلد بعنوان: "كيف تقرأ دونالد دوك: أيديولوجية إمبريالية في كتاب ديزني الهزلي" الذي شاركه في تأليفه عالِم الاجتماع البلجيكي "أرماند ماتيلارت".

اشتهرت ديزني وسط جماهير أمريكا الشمالية بأفلامها ومتنزهاتها الترفيهية، لكن في الخارج، كانت قصص ديزني الهزلية تحظى بجمهور كبير، وكان لديها فرق كبيرة من الفنانين المستقلين الذي صمموا تلك القصص الهزلية – أو أعادوا كتابتها – لكي تناسب الأذواق الدولية. في تشيلي، كان دونالد دوك هو أشهر شخصية من شخصيات ديزني إلى حد بعيد، بيد أن دورفمان وماتيلارت جادلا أن دونالد كان بوق دعاية محافظًا، يعمل على إضعاف الروح الثورية، ويتبنّى التخاذل، ويجمّل من صورة الاستعمار.

حقّق كتاب "كيف تقرأ دونالد" الذي نُشر في تشيلي عام 1971 أفضل المبيعات. لكن في عام 1973، استولى "أوغوستو بينوشيه" على السلطة من يد "الليندي" عبر انقلاب عسكري عنيف. وتحت حكم بينوشيه، حُظر الكتاب بذريعة أنه رمز للتفكير المغلوط. لقد أصبح دونالد وميكي أبطالاً للثورة المضادة، فيما رسم أحد المسؤولين وجوه تلك الشخصيات الكرتونية على جدران مكتبه، حيث كانت تُعلق في زمن سلفه شعارات اشتراكية. شاهد دورفمان على التلفاز الجنود وهم يلقون بكتابه في النار، كما صادرت قوات البحرية عشرة آلاف نسخة من الكتاب وألقتها في خليج "فالباريسو". وحاول سائق سيارة أن يدهسه في الشارع، صارخًا "تحيا البطة دونالد!"، كما اقتحم متظاهرون منزله وألقوا بالحجارة عبر نوافذ منزله.

في الخمسينيات، هربت عائلة دورفمان إلى تشيلي هربًا من الولايات المتحدة التي كانت خاضعة لسيطرة المكارثية. والآن بات عليه العودة إلى الولايات المتحدة بوصفه منفيًا من تشيلي، ولن يعود مجددًا إلا بعد عقدين تقريبًا.

في غضون ذلك، تزايد اهتمام العالم بكتاب "كيف تقرأ دونالد دوك"؛ إذ تُرجم الكتاب لعشرات اللغات، من بينها الإنجليزية، وبيعت منه نصف مليون نسخة. (أشاد الناقد الفني جون بيرغر بالكتاب ووصفه بأنه "دليل لإنهاء الاستعمار") لكن دور النشر الأمريكية خشيت من احتمال رفع ديزني دعاوى قضائية عليها. في عام 1975، تمت الموافقة على طبع عدد صغير من الكتاب يبلغ أربعة آلاف نسخة. طُبعت الكتب في المملكة المتحدة وشُحنت إلى الولايات المتحدة، لكن عند وصولها إلى نيويورك، صادرتها سلطات الجمارك، بشبهة أنها " نسخ مقرصنة".

أعادت تلك الكتب إنتاج رسومات من قصص ديزني الهزلية من دون إذن، واستدعت سلطات الجمارك محامين من الجانبين للدفاع عن قضيتهما، في حين زعمت ديزني أن الآباء ربما يشترون الكتاب بحسن نيّة معتقدين أنه أحد منشورات ديزني؛ ما يؤدي دون قصد لنقل دعايا متشددة لأطفالهم.

وقد انحازت سلطات الجمارك في نهاية المطاف لمؤلفي الكتاب، لكن هذه السلطات، مُستشهدةً ببند غامض خاص بالاستيراد من القرن التاسع عشر مُصمم للحدّ من وصول كتب مزيّفة من الخارج، لم تسمح إلا بإدخال عدد قليل من النسخ يبلغ ألف وخمسمائة نسخة للولايات المتحدة. لم تحاول دار نشر تكرار هذا الأمر إلا في الخريف الماضي. هناك نسخة جديدة، صادرة من دار "OR Books" للنشر، تقدم للأمريكيين، كما يقول مترجم الكتاب "ديفيد كنزل"، فرصة لاكتشاف "القبضة الحديدية تحت قفاز الفأر".
 
يحظى كتاب "كيف تقرأ دونالد دوك" بروح فكاهة مفعمة بالحيوية، تكمّل روحه الجدلية. تتعلق أبرز أفكار هذا الكتاب بالحياة العملية في مدينة "دوكبيرغ" (Duckburg)، تلك المدينة المزدهرة الجهنمية التي يسمّيها دونالد وأبناء شقيقه – هيوي وديوي ولوي- وطنًا. إن هذه المدينة التي تعاني من الضباب الدخاني والاختناقات المرورية، هي "عالم من الإرهاب، وهي دائمًا على حافة الانهيار، ويتطلب العيش فيها فلسفة من الاستكانة" كما يقول دورفمان وماتيلارت. يعيش دونالد في هذه المدينة عاطلاً عن العمل بشكل دائم، لكن ليس بسبب عيوب الرأسمالية البنيوية، ولكن لأنه كسول للغاية. "أنت مطرود يا دوك" يصرخ مديره في المخبز، مُسددًا له ركله في أسفل بطنه قائلاً له: "هذه هي المرة الثالثة التي تذهب فيها لتنام في خلاطة العجين!".

وبفضل صعوبة حياة المدينة، كان دونالد وأبناء شقيقه ينطلقون دائمًا نحو المناطق الغريبة، مثل "إنكا-بلينكا" و"أنستيدي ستان"، حيث "يرغب كل بلطجي في أن يكون حاكمًا" وهناك "دائمًا شخص يطلق النار على شخص آخر"، وفقًا لما يقوله هذا الكتاب الهزلي. الحرب منتشرة وتبدو بلا هدف في تلك المناطق، والسكان الأصليون هناك بربريون ساذجون وغارقون في حالة من الحيرة. لحسن الحظ، يتعامل دونالد مع تلك الاضطرابات الأهلية بكل سهولة، ويسحق حالة التمرد، مستوليًا على كنوز حيثما ذهب. يعجّ هذا العالم الثالث بكنوز، غالبًا في شكل تحف قديمة، مدفونة منذ آلاف السنين. لا يعرف أحد أو يهتم بمصدر هذه الكنوز، فهي مفيدة فقط لأنها قيّمة. عادة ما ينتهي ذلك الكنز في قبضة "سكروج ماكدوك"، عمّ دونالد، الذي لديه ولع بالغوص في تلال القطع النقدية. كان "سكروج" أقرب شيء إلى الأب بالنسبة إلى دونالد. فمدينة "دوكبيرغ" لم تكن مكانًا مناسبًا لتربية عائلة. فهي تضمّ أعمامًا وأبناء أشقاء وأبناء عمومة ومخطوبين، لكنها لم تضمّ مطلقًا أبناءً وأمهات. فباسم العفّة، تخلّت ديزني عن الأُبُوّة تمامًا، ومعها حقائق البيولوجيا والحب.

يكتب دورفمان وماتيلارت قائلين إن "عالم ديزني هو ملجأ أيتام من القرن التاسع عشر" مليء بالانضباط والطاعة لـ "سلطة العمّ" المستبدة. في إحدى القصص الهزلية، حضرت محبوبة دونالد الدائمة "دايزي دوك" حفلة رقص من دون إذن، فما كان من عمّتها الممتعضة إلا أنْ عاقبتها بحرمانها من الميراث.

لم يكن دورفمان وماتيلارت أول كاتبين يشعران بوجود شيء فاسد في ديزني لاند. إذْ وصف الكاتب "غيلبرت سيلديس" ديزني بأنها مثل "عامل مناجم جشع"، فيما احتقر الفيلسوف الألماني "ماكس هوركهايمر" النزعة التجارية لشركة ديزني، كاتبًا أن "أشعة الشمس تتوسل تقريبًا لكي تُرسم عليها اسم صابون أو معجون أسنان". أما "وولت ديزني" نفسه – الذي أشاد به البيت الأبيض باعتباره "صانعًا لتراث شعبي أمريكي" – فقد التحف رداء البراءة، واصفًا شخصية ميكي بـ "الشاب الطاهر العظيم". لكن كانت هناك دومًا شروخ في صورة ديزني الناصعة، ففي عام 1931، حظرت هيئة "منتجي وموزعي الأفلام في أمريكا" فيلمًا كرتونيًّا لديزني تظهر فيه بقرة بضرع بارز ومثير. وأثناء الحرب العالمية الثانية، قام دونالد دوك بدور البطولة في فيلم كرتون يحتفي بفرحة دفع الناس للضرائب.

يميل الجمهور اليوم للقبول بأن كل الأعمال الترفيهية لها شق سياسي، لكن تلك الفكرة كان يصعب القبول بها في عام 1971. يقول دورفمان وماتيلارت: إن "هناك تلميحًا بأن السياسة لا يمكن أن تدخل في مجالات ’الترفيه الصِرف‘" لا سيما تلك الأعمال الترفيهية الموجّهة للأطفال. ونظرًا لتطوّر "ديزني" من مجرد كونها ستوديو للأفلام المتحركة لتصبح شركة عملاقة – إذ بات لديها متنزهات ترفيهية وخطوط سفن سياحية ومحتوى يتم بثه حول العالم – يبدو كتاب "كيف تقرأ دونالد دوك" واتهامه لديزني بالإمبريالية الثقافية، صادقًا وصحيحًا الآن. في النسخ التشيلية عالية النبرة لكتب ديزني المصوّرة، أشار دورفمان وماتيلارت لاتجاه ما يزال مستمرًا حتى يومنا هذا: قيام شركة تبدو حميدة في ظاهرها، بفرض حلم أمريكي ليس فيه شاحنة فيها عمال، وليس فيه صبر للكفاح. هناك نوع من العدل في وصول هذا الكتاب متأخرًا للولايات المتحدة، وهو انقلاب التفوّق الأمريكي؛ فالبلد الذي اخترع دونالد دوك، هو آخر بلد يكتشف الجانب الساخر في شخصيته. في إحدى القصص الهزلية في الكتاب، يقول ملك إحدى الدول التي مزّقتها الحرب لـ "هيوي" و "ديوي" و"لوي": "لقد ساعدتونا في وقف الثورة، وسأكون دائمًا ممتنًا لكم. كيف يمكنني ردّ الجميل لكم؟" فيقول دونالد، الذي يراقب الأمر باعتزاز: "آمل أن يطلبوا الكثير من المال".  

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا