نيويورك تايمز | خيانة أمريكية.. كيف تخلى الرئيس ويلسون عن وعوده لمصر بحق تقرير مصيرها؟

ترجمات رؤية

ترجمة بواسطة – بسام عباس

في نوفمبر 1918، عندما وصلت أخبار الهدنة في أوروبا إلى القاهرة، اتصل أحد أصدقاء المفكر المصري البارز "محمد حسين هيكل" به ليخبره بذلك، وصَاحَ هذا الصديق قائلاً: "تلك فرصتنا! أصبح لدينا الحق في تقرير المصير، وبالتالي فإن البريطانيين سيخرجون من مصر". وعندما سئل الصديق عن هذه الفرحة العارمة، أوضح قائلاً: "إن الولايات المتحدة هي التي انتصرت في الحرب.. إنها ليست دولة إمبريالية؛ لذلك ستفرض حق تقرير المصير وتفرض الانسحاب".

كانت نهاية الحرب العالمية الأولى فترة توقعات عظيمة، وكان الرئيس الأمريكي آنذاك "وودرو ويلسون" في مركزها، ولفترة وجيزة من الوقت، بدا ويلسون للملايين في جميع أنحاء العالم باعتباره علامة البشارة لعالم ناشئ تمنح فيه جميع الشعوب الحق في تقرير مستقبلها. لقد أطلقت على هذه الفترة، التي امتدت تقريبًا من خطاب ويلسون في 14 يناير 1918 وحتى إبرام معاهدة فرساي للسلام في يونيو 1919، "اللحظة الويلسونية"؛ لأنه جاء، أكثر من أي شخص آخر، كرمزٍ لوعودها.

في مصر، كانت اللحظة الويلسونية مؤثرة بشكل خاص. فعندما بدأت الحرب العالمية الأولى عام 1914، أعلنت بريطانيا فرض الحماية على مصر، التي كانت حتى ذلك الوقت ملكية عثمانية، وإن كانت الهيمنة البريطانية الفعلية في مصر حاضرة منذ أوائل ثمانينيات القرن الـ19، لكنها أقدمت على هذه الخطوة كإجراء مؤقت في زمن الحرب، وهي حقيقة أكدها القوميون المصريون لاحقًا؛ ومع ذلك لم تجنّب الحماية البريطانية المصريين صعوبات الحرب؛ حيث أصبحت مصر قاعدة عسكرية ضخمة وتجمع الآلاف من قوات الحلفاء على أراضيها، وعانت من التضخم والتجنيد الإلزامي والاستحواذ على (مواردها) ما جعل الحياة صعبة في زمن الحرب

في الوقت نفسه، برزت الولايات المتحدة ورئيسها كبطل للأفكار الجديدة حول النظام الدولي الذي سينشأ نتيجة لانتصار الحلفاء، حيث أقنع خطاب ويلسون في زمن الحرب، وخاصة تشجيعه القوي لمبدأ "تقرير المصير"، الكثيرين في مصر وأماكن أخرى بأن قواعد اللعبة على وشك أن تتغير.

وحتى قبل انضمام الولايات المتحدة إلى الحرب في أبريل 1917، أعلن ويلسون أن السلام يجب أن "يتقبل مبدأ أن الحكومات تستمد كل سلطاتها العادلة من موافقة المحكومين". وبعد دخول واشنطن الحرب، كان ويلسون أكثر تأكيدًا، وقال في مايو 1917: إن الولايات المتحدة وحلفاءها كانوا "يناضلون من أجل الحرية والحكم الذاتي والتطور المطلق لكافة الشعوب".

وفي الثامن من يناير 1918، ألقى ويلسون خطابًا في الكونجرس لتوضيح الرؤية الأمريكية للعالم بعد الحرب، وهو الخطاب الذي سرعان ما عُرف على مستوى العالم بـ "مبادئ ويلسون الأربعة عشر". وعلى الرغم من أن ويلسون لم يذكر مصطلح "تقرير المصير" صراحةً في خطابه، غير أنه استخدمه الشهر التالي ووصفه بأنه "مبدأ ملزم بالعمل"، وعبر عنه قائلا: إن "كل تسوية تتعلق بالأراضي التي دخلت في الحرب يجب أن تتم بما يخدم مصلحة وفائدة الشعب المعني".

وليس من المستغرب إذن، أنه عندما انتهت الحرب في نوفمبر 1918، توقع المصريون أن يعكس نظام ما بعد الحرب خطاب ويلسون، أو أنهم يتحركون بسرعة للمشاركة في النظام الجديد الناشئ. ففي 13 نوفمبر، أي بعد يومين فقط من إبرام الهدنة، دعت مجموعة من القادة المصريين من المفوض السامي البريطاني، السير "ريجينالد وينجيت" إلى إعلان رغبتهم في الاستقلال السياسي، كما طلبت السماح للسفر إلى باريس لتقديم قضية مصر بشأن حقها في تقرير المصير قبل انعقاد مؤتمر السلام هناك.

وكانت هذه المجموعة بقيادة سعد زغلول، الذي عُرف في تلك الفترة في مصر باسم "زعيم الأمة"، وقد شغل زغلول منصب وزير بين عامَي 1906 و1913، وكان يشعر باستياء من الدعم البريطاني للملكية الاستبدادية في مصر، الأمر الذي دفعه للاستقالة احتجاجًا على ذلك، ثم انتُخب لعضوية البرلمان، وبحلول عام 1918 أصبح زعيم المعارضة.

ولكن "وينجيت" ماطلهم لكسب الوقت، وطلب من زواره التحلي بالصبر، لأن "حكومة صاحب الجلالة" كانت مشغولة بأشياء أكثر إلحاحًا. وكانت بريطانيا تَعتبر مصر، وخاصة قناة السويس، شريان الحياة الاستراتيجي لإمبراطوريتها، وكانت عاقدة العزم على الاحتفاظ بالسلطة فيها، كما كان آخر ما ترغب فيه لندن هو أن تتحول المطالب المصرية إلى نقطة تفاوض في مؤتمر فرساي للسلام، وبعد ذلك بوقت قصير، رفضت لندن السماح لزغلول ووفده بالسفر.

وردًّا على ذلك، سعى سعد زغلول ورفاقه إلى حشد الدعم العام، وتنظيم تجمعات جماهيرية كما بدأ حملة جمع توقيعات وناشدوا ويلسون مباشرة في برقية، أكد فيها سعد زغلول لويلسون أن "المصريين يشعرون بالسعادة لولادة حقبة جديدة، وبفضل تصرفك، ستفرض مصر نفسها تقريبًا على الكون". وأضاف زغلول: "تلك الحقبة الجديدة لن تتأثر بطموحات النفاق، أو بسياسة الهيمنة القديمة، وستعزز المصالح الوطنية الأنانية. يجب أن تتاح للمصريين فرصة الذهاب إلى باريس، وهذا لا يُعدّ أكثر من حقهم الطبيعي والمقدس".

ومع بدء مؤتمر السلام في يناير عام 1919 وتجمع المصريون خلف زغلول، قررت السلطات البريطانية – التي بدأت تشعر بقلق متزايد – التحرك ضده. وبموجب قواعد الأحكام العرفية، التي ظلت سارية المفعول منذ الحرب، اعتُقل زغلول والعديد من أنصاره، وفي 9 مارس 1919، أُرسلوا للمنفى في جزيرة مالطة في البحر المتوسط. ووفقًا لسيرة حياة زغلول، فإن أحد الأشياء التي عثر عليها معه أثناء اعتقاله كانت قصاصات الصحف التي تضمنت مبادئ ويلسون الأربعة عشر.

وتسبب اعتقال زغلول ورفاقه في اندلاع موجة من الإضرابات والمظاهرات في جميع أنحاء مصر، وبدأت فترة من المصادمات العنيفة المعروفة في التاريخ المصري باسم "ثورة 1919". حيث شارك المصريون من جميع الفئات في المظاهرات، الطلاب والعمال والمهنيين والفلاحين. وأعرب زعماء الطوائف المسيحية واليهودية في البلاد عن دعمهم للحركة، كما خرجت النساء إلى الشوارع في خطوة غير مسبوقة. وردت القوات البريطانية بإنفاذ صارم للأحكام العرفية، وعلى مدار الأشهر القليلة التالية، قُتل نحو 800 مصري، وجُرح الكثيرون، إلى جانب 60 جنديًّا ومدنيًا بريطانيًّا.

ومع اندلاع ثورة 1919 في الشوارع، تدفقت المئات من البرقيات والرسائل والعرائض على القنصلية الأمريكية في القاهرة، معترفة بإيمانها بالرئيس ويلسون، داعيةً الولايات المتحدة إلى دعم "قضية الحق والحرية" في مصر. ومن هذه الرسائل حملت إحداها توقيع "سيدات مصر"، اشتكت من أن البريطانيين استخدموا "القوة الغاشمة في التعامل مع النساء". كذلك فقد أرسل كتيب يوثق الوحشية البريطانية تجاه المصريين حيث تضمن صورًا لمصريين تحمل ظهورهم المكشوفة علامات الجَلد والتعذيب، كما تمت الإشارة إلى الاسم والوضع الاجتماعي لكل رجل (فلاح، طالب، شيخ) أسفل كل صورة. وأكدت الرسائل أن المصريين من جميع المشارب يدعمون الثورة.

وعلى الرغم من اندلاع المظاهرات في كل أنحاء مصر، إلا أن وزارة الخارجية الأمريكية لم تحرّك ساكنًا، كما أن "آلن دالاس"، الدبلوماسي الأمريكي الشاب آنذاك والذي تولى بعدها رئاسة وكالة الاستخبارات المركزية (سي. آي. إيه)، قال إن الدعوات المصرية "لا يجب حتى أخذها في الاعتبار"، واتفق معه آخرون. وبمجرد أن كتب وزير الخارجية البريطاني آنذاك "آرثر بلفور" في أبريل أن "القوميين المتطرفين" في مصر، الذين وصفهم بأنهم "عملاء مأجورون لتركيا والبلاشفة"، كانوا يستخدمون كلمات ويلسون "لإثارة حرب مقدسة ضد الكفار"، سارع ويلسون إلى الموافقة على الاعتراف بالحماية البريطانية على مصر.

وانتشر خبر قرار ويلسون بالاعتراف بالحماية البريطانية على مصر، في الوقت الذي كان فيه زغلول ووفده يعبرون البحر المتوسط في طريقهم إلى باريس، فبعد إطلاق سراحهم من مالطا، علموا بالقرار أثناء رسو سفينتهم في مرسيليا، وحينها شعر المصريون بالصدمة من قرار ويلسون. وفيما بعد وصف المفكر المصري "محمد حسين هيكل" القرار بأنه "صاعقة"، قائلا: "كيف يمكن أن ينكر ويلسون حق المصريين في تقرير المصير حتى قبل وصول الوفد إلى باريس؟ كان هذا أقبح خيانة وأعمق نبذ للمبادئ".

وظل سعد زغلول في باريس لعدة أشهر في محاولة للدفاع عن القضية المصرية، كما أرسل سلسلة من الرسائل لويلسون طلبًا للقائه، لكن الرد اقتصر على ملاحظات مقتضبة من سكرتيرة ويلسون تؤكد فيها استلام رسائله، غير أن الرئيس الأمريكي منشغل بأمور أخرى. ومع ذلك، استمر تدفق الالتماسات المصرية لعدة أشهر، اتسم الكثير منها بقناعة مفادها أن ويلسون لم يكن ليخون القضية المصرية عن طيب خاطر، ومن المؤكد أن يكون البريطانيون قد خدعوه. وسعت إحدى الرسائل، من مجموعة من الطلاب المصريين، إلى تصحيح سوء فهم الرئيس، وأكدت له أن الحركة المصرية "ليست دينية، ولا كراهية للأجانب" و"بعيدة كل البعد عن البلشفية بأي حال من الأحوال".

وبحلول صيف 1919، تأكد زغلول أنه لن يلتقي الرئيس ويلسون، لذا فقد سعى للحصول على بعض الدعم في الكونجرس الأمريكي، وفي يونيو، أخبر زعيم الأمة الصحافة المصرية أن لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ أكدت أن مصر لا تخضع للسلطة التركية ولا البريطانية، وإنما "محكومة ذاتيًّا"؛ وقد أثارت هذه النتيجة موجة من النقاشات الغاضبة في وسائل الإعلام المصرية، ولم يحدث شيء آخر.

وفي نوفمبر 1919، أرسل سعد زغلول، الذي كان لا يزال في أوروبا، برقية إلى ويلسون طلب فيها دعم الرئيس الأمريكي للمطالب المصرية، وأشار فيها إلى أن الشعب المصري ينظر إليه باعتباره "زعيم العقيدة الجديدة التي تضمن السلام والازدهار في العالم، ولكنه الآن يعاني من المعاملة الهمجية على أيدي البريطانيين بعدما كانوا يؤمنون بمبادئك"، بيد أن خيبة الأمل المتزايدة كانت الرد على تلك الرسائل!
ورغم الفشل في الحصول على الدعم الأمريكي، بات الزعماء الوطنيون، المدعومون من الرأي العام المصري، ملتزمين بشدة بمقاومة السيطرة البريطانية. وفي هذا الإطار كتب سعد زغلول رسالة لوزير الخارجية البريطاني بلفور، قال فيها: إن "روح العصر الجديدة تتطلب أن يكون لكل شعب الحق في تقرير المصير"، وكشف عن اقتناعه بأنه على الرغم من خيانة ويلسون، فقد حدث مع ذلك تحول جذري في الشئون العالمية ودحضت مبررات الاستعمار القديمة التي عفا عليها الزمن.

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا