هل موت المسنّين أسوأ من موت صغار السن؟

ترجمات رؤية

ترجمة بواسطة – فريق رؤية
المصدر – aeon
ترجمة – شهاب ممدوح

قبل وفاة جدي بفترة وجيزة، جلست في المشفى بصحبته، بينما كان ينتظر، مرتديّا ملابس المستشفى فوق جسده النحيف، ما قد يفعله الأطباء. وقبل أن أغادر، أشار إلى خزانة الملابس، وطلب مني أن آخذ محفظته إلى المنزل. لقد كان يخشى، كما قال لي بنبرة خفيفة، من أن "يأتي شخص لئيم أثناء نومي، ويبحث في بنطالي، وبذلك أخسر محفظتي".

أخذت محفظته، وغادرت المكان مثقلة بعبء خسارة قريبة. ما يحزنني أنه عندما يموت جدي، لن أجد أحدا يتحدث معي بهذه الطريقة، أو يشاركني ضغوط الحياة القوية، مستخدمًا لغة قديمة وتعبيرات لطيفة. فبصحبة جدي، كنت أعيش في عالم يُشار فيه إلى اللصوص بأنهم أشخاص لئيمون، وتُستخدم كلمات قديمة لوصف حافظة النقود والبنطال، فيما تعتبر السرقة بأنها خسارة. لم يرغب جدي في أن يموت، لكن معظم ما قاله في هذا الصدد أنه "يفضّل أن يعيش لمدة أطول قليلاً".

إن فقدان شخص عزيز يعني خسارة لغة، حيث تؤدي العلاقات الإنسانية إلى ظهور مفردات متميزة وليدة الزمن والخبرات المشتركة. فالموت يُنهي العلاقات، واللغة المتميّزة التي تستند إليها تلك العلاقات، كما يُنهي طرق الحديث والفهم التي تشكلت مع بعضها. ومع ذلك، هناك شيء مميّز في فقدان الأقارب المسنّين. فعند موتهم، نخسر لغة أصلية، تعلمنا العالم عبرها. فالعالم الذي عرفناه لأول مرة، هو العالم الذي منحوه ووصفوه لنا.

ولهذا السبب، أشار الفيلسوف الصيني القديم "كونفوشيوس" إلى أنه عندما يحزن البشر على فقدان الوالدين، فإنهم يجب أن يفعلوا ذلك "بإخلاص تام". ووفقا لقول قديم لكونفيوشس، فإن موت الأقارب المسنّين، وهو أكثر الأحزان شيوعا، هو في الحقيقة أكثر الأمور إزعاجًا في الحياة. ومقارنة مع أغلب الفلسفات الغربية، هناك شيء متميّز في موقف كونفيوشس. فالموت بعد حياة طويلة هو أفضل ما يمكن أن نتوقعه في هذا العالم الفاني. إن فقدان الأقارب المسنّين هو الطريقة التي تجري بها الامور، وهي الطريقة المفضّلة لدينا. ومن الأفضل بكثير أن الابناء يعيشون أطول من أباءهم، والأحفاد يعيشون أطول من أجدادهم.  
 
عندما نتحدث عن الخسارة والنهايات، فإن موت شخص مسنّ يبدو أنه الأخفّ وطأة. إذا كنا نعتبر حالات الموت تلك أمرا سيئا، أليس الموت نفسه-كل الموت- أمرا فظيعا؟ إذا كنا لا نستطيع أن نتحمّل فراق كبارنا، فإنه ربما ما مِن فراق آخر يمكننا تحمّله. عند تحديد موقع موت المسنّين داخل مجال الموت الأوسع نطاقا، فإننا سنجد موتهم جيدا وحسن التوقيت، وعاديًا ومتوقعًا، وبالتالي فإننا قد نتخيل أن الحزن على فراقهم سيكون هادئا. المشكلة في هذا التفكير، كما يشير كونفيوشس، هو ان الحزن لا يتعلق أبدا بالموت.

فقد يتقبّل المرء الموت، ومع ذلك يشعر بالحزن. لقد رحّب "كونفيوشس" بموته برباطة جأش، وكان سعيدا بأن يموت في أحضان أصدقائه، كما قال. لكن عندما انهارت تلة التراب الموجودة فوق قبر والديه، انهار هو الآخر معها، وبكى من دون توقف بسبب الإهانة الرمزية التي زادت من الجرح الأصلي. قد يتقبّل الحكماء الموت، لكن الحكمة لا تقدم حماية من الحزن. لأن الفراق وليس الموت، هو سبب الحزن، وفراق أقاربنا المسنّين لا يشبه أي فراق آخر.

إن ذواتنا وهوياتنا تتشكل بفعل احتكاكها بالآخرين. وفي هذا الصدد، تعتبر العلاقات مع الاباء والأجداد متميّزة. فكلماتهم هي لغتنا الأولى، وسلوكهم وحديثهم هما الخريطة التي نبدأ منها. وفي صورة متكررة في فلسفة كونفيوشس، يعمل أباءنا على "تأسيسنا", ليس فقط بيولوجيًا، ولكن أخلاقيًا ووجوديًا أيضا. نحن ننمو-من ناحية الفهم، والاهتمام، وامتلاك هدف في الحياة- لأننا نستفيد كثيرًا مما صنعه وقدمه لنا كبارنا. وعندما تتم تنشئتنا تنشئة حسنة، نتحمّل دَينًا لا يمكننا تسديده لهم.   

وعندما يعيش الأبناء حياة جيدة، يكون ذلك بمثابة مكافأة لمجهودات الوالدين، لكن المدى الكامل لمجهوداتهم في التربية لن يظهر إلا في مستقبل لن يروه، وذلك عندما يصبح الابناء كبارًا لآخرين. إن الإدارك الجيلي الذي ينصحنا بأن نقبل موت أقاربنا الكبار هو ذاته ما يجعل موتهم مزلزلاً وفظيعًا بالنسبة لنا. في الفلسلفة الكنفوشية، تعتبر رؤية أباءنا وهم يكبرون في السن "مصدر متعة" و "خوف": فبالرغم من سعادتنا بالبقاء طويلا في ظل عطفهم وصحبتهم، إلا أن طبيعة الأمور تعني أننا لا نستطيع الاحتفاظ بهم للأبد. فتقدمهم في السن يحمل معه إشارة على عزلة مقبلة لا تشبه شيئا آخر.

وبالرغم من أننا نتمنى ان يرحل كبار السن قبل الصغار، إلا أننا نمقت حقيقة أن رحيلهم سيجبرنا على إيجاد سلطتنا الخاصة بنا، ولابد أن ياتي يوم تكون فيه الحكمة الحصيفة الوحيدة المتاحة لنا هي حكمتنا نحن. هنا أيضا يُعتبر التناقض مع التفكير الفلسفي الغربي مفيدًا. ففي النصوص الأساسية للفكر الغربي، تتجسد العلاقة الإنسانية النموذجية في الصداقة. حيث تركّز الأعمال الأدبية التي تحمل طابع المواساة على هذه الأمر تحديدًا، أي فقدان الرفاق. والمهم هو أن الوصفة الأساسية لعلاج الحزن على فقدان الصديق، هي إدراك أن الصداقة ليست محصورة في صديق واحد. فالأصدقاء لا يمكن استبدالهم، لكنهم يمكن أن يكونوا متعددين.

إن فقدان الوالدين أو الجد ليس كذلك. فمهما كانت علاقتي وثيقة بالصديق، إلا أنه لا أحد يمكنه أن يكون والدًا لي سوى والدي، ولا أحد يمكنه أن يكون جدًا لي سوى جدي. فلا أحد بمقدوره أن يتولى دورهما بأكمله، حيث يمتد هذا الدور إلى ما قبل بداياتي، وهو ما شكّل تجاربي في هذا العالم. إن العالم بعد فقدان الوالدين أو الجد، يصبح مجهولا وغير مسبوق، وتنتهي فيه كل خرائط تجاربي السابقة.

نحن نتحدث أحيانا وكأن موت أقاربنا المسنين لا يستحق الحزن، كما لو أن التقدم في العمر يجعل الحياة بالية، ولا يخلّف أي أثار تحرّك حزنا حقيقيا في داخلنا. لكن في الفلسفة الكونفوشسية، مع ذلك، فإن كل أفكارنا العقلانية بشأن ما يجب ان يتوقعه الناس وما ينبغي عليهم ان يقبلوه, لا يمكن أن تحل محل حقيقة اعتمادنا على أحبائنا المسنّين, الذين عندما يقترب الموت منهم, يتركون الكثير وراءهم. حيث يضعون كل ما لديهم في عُهدة الجيل الشاب، الذي سيكون عليه أن يسير وحيدا كما لم يسبق له من قبل، وهو مكلوم ومثقل بالأعباء.

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا