لماذا لا تسعى ألمانيا لتحقيق السلام في أوكرانيا؟

آية سيد
مرصد مراكز الأبحاث

بسبب اعتماد ألمانيا على الغاز الروسي وإذعانها للسياسة الأمريكية، لم يظهر أي جهد ألماني حقيقي لمنع الحرب الروسية الأوكرانية أو إنهائها.


منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، فبراير 2022، تجد ألمانيا نفسها في موقف صعب، بسبب اعتمادها على الغاز الروسي، وإذعانها للسياسة الأمريكية.

وفي خطاب ألقاه الرئيس الألماني، فرانك-فالتر شتاينماير، للأمة، يوم الجمعة الماضي 28 أكتوبر 2022، قال إن “غزو روسيا لأوكرانيا أحدث تغييرًا في العصر”، وتسبب في “انفصال تاريخي” في علاقات ألمانيا بروسيا، بحسب ما أوردت وكالة “رويترز“.

تحطم الأحلام

الرئيس الألماني، الذي ينحدر من جناح من الحزب الاشتراكي الديمقراطي يناصر العلاقات الاقتصادية الأوثق مع موسكو، قال إن الحرب الروسية الأوكرانية حطمت حلم رئيس الاتحاد السوفيتي السابق، ميخائيل جورباتشوف بـ”وطن أوروبي مشترك”، مضيفًا: “عندما نتطلع إلى روسيا اليوم، لا نجد مكانًا للأحلام القديمة. إن بلادنا تقف اليوم ضد بعضها البعض”.

ووفق ما نقلته “رويترز”، قال شتاينماير: “لقد أدخلت الحرب ألمانيا في زمن مختلف، في حالة من انعدام الأمن، ظننا أننا تغلبنا عليها: زمن يتسم بالحرب، والعنف، والهروب، وبالمخاوف من توسع الحرب إلى نار مستعرة في أوروبا”.

خطة مارشال جديدة

بدعوة من المستشار الألماني، أولاف شولتز، ورئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، استضافت العاصمة اللألمانية برلين مجموعة من الخبراء، يوم الثلاثاء الماضي، لبدء العمل على ما وصفه شولتز بـ”خطة مارشال الجديدة” لإعادة إعمار أوكرانيا، وهي مبادرة برعاية أمريكية ساعدت في إحياء اقتصادات غرب أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.

وبحسب ما نقلته وكالة “أسوشيتد برس” الأمريكية، شدد المستشار الألماني على الحاجة إلى بحث “كيفية ضمان واستدامة التمويل اللازم لتعافي أوكرانيا، وإعادة إعمارها وتحديثها في السنوات والعقود المقبلة”. وقال إنه يتطلع إلى “خطة مارشال جديدة للقرن الـ21، وهي مهمة جيلية يجب أن تبدأ الآن”.

مخاوف ألمانية

في مقال نشره موقع “ريسبونسيبل ستيتكرافت“، يوم الثلاثاء، رأى مدير برنامج أوراسيا بمعهد “كوينسي” الأمريكي، أناتول ليفين، أن السياسات الألمانية التي وصفها بأنها تتسم بـ”الجبن السياسي”، جعلت برلين تواجه أكبر المخاطر منذ كارثة الحرب العالمية الثانية.

وقال إنه نتيجة للحرب، والعقوبات الأوروبية ضد روسيا، وخفض موسكو إمدادات الغاز، توجد مخاوف متزايدة من أن أوروبا تتجه إلى “تراجع التصنيع”، في ظل إغلاق المصانع التي تحتاج إلى الطاقة أو نقل مقراتها إلى مناطق أخرى من العالم.

وأوضح أن هذه المخاوف حادة في ألمانيا بنحو خاص، كونها مركز نفوذ صناعي في أوروبا. لكن بحسب ليفين، نجحت برلين حتى الآن في تجنب التراجع الشديد في قدرتها التصنيعية، الذي أثّر في الدول الأوروبية الأخرى على مدار الجيلين الماضيين.

أهمية الصناعة لألمانيا

ذكر الكاتب البريطاني أن الصناعة ضرورية للهوية القومية واستقرار النظام السياسي، بقدر ما هي مهمة للاقتصاد الألماني. وبعد الهزيمة الكارثية في الحرب العالمية الثانية، كانت “المعجزة الاقتصادية” محورية لإعادة ترسيخ احترام الأمة لذاتها.

وأشار ليفين إلى أن حصة الصناعة في الاقتصاد الألماني انخفضت في السنوات الأخيرة، لكن لا يزال ممثلوها يشكلون نواة القاعدة السياسية لأكبر حزبين سياسيين، وهي النقابات العمالية للحزب الاشتراكي الديمقراطي، والطبقات المتوسطة التي تعمل لحسابها الخاص للحزب المسيحي الديمقراطي.

لكن نصيب هذين الحزبين من الأصوات تراجع بشدة في العقدين الماضيين، جزئيًّا بسبب اعتقاد الطبقات الصناعية السابقة أن النخب السياسية تخلت عنها، بحسب تعبير ليفين.

الاستقطاب المتطرف

حذر المقال من أنه إذا كانت ألمانيا ستمر بتراجع سريع وجذري في التصنيع، مثل ذلك الذي شهدته بريطانيا بداية الثمانينات، من المرجح أن تشهد ارتفاعًا في دعم الأحزاب المتطرفة، مثل “البديل من أجل ألمانيا” في أقصى اليمين، و”حزب اليسار” في الطرف المقابل.

وبحسب ليفين، يؤدي هذا إلى الاستقطاب المتطرف، ويخاطر إما بجعل الحكومة البرلمانية غير قابلة للعمل، أو بتسليم السلطة إلى اليمين المتطرف، كما حدث في إيطاليا. وهذا من شأنه أن يقوض الديمقراطية الليبرالية في أوروبا، ويوجه ضربة للأسس الأيديولوجية للقيادة العالمية الأمريكية، من وجهة نظره.

غياب جهود السلام الألمانية

عند مواجهة خطر مثل هذا، كانت الحكومات الألمانية السابقة ستبذل ما في وسعها لاستعادة إمدادات الغاز الروسي، عبر طرح تسوية سلمية، أو على الأقل اتفاق لوقف إطلاق النار في أوكرانيا، وفق ليفين. لكن على العكس، منذ ظهور التهديد الروسي بغزو أوكرانيا قبل عام، لم يظهر أي جهد ألماني حقيقي لمنع الحرب أو إنهائها.

وفي حين أن الشعب الألماني قلق من العواقب الاقتصادية للحرب، تبدو وسائل الإعلام والمراكز البحثية والمؤسسة السياسية الألمانية ملتزمة تمامًا بنهج الولايات المتحدة والناتو بأن محادثات السلام أمر يخص أوكرانيا وحدها.

ماذا يفسر موقف ألمانيا؟

لفت ليفين إلى زيارته الأخيرة إلى برلين، حين كان الرأي العام السائد هو أن تهديد الحرب النووية الوشيك هو فقط ما يمكن أن يدفع المؤسسة الألمانية إلى التحرك. وقال إن جزءًا أساسيًّا من تفسير هذا الموقف، هو الخوف من الغزو الروسي، والدمار والأعمال الوحشية الناتجة عنه.

لكن جزءًا مما يفسر عجز قدرة ألمانيا عن السعي لتحقيق السلام، هو الرواية التي ترسخت وقبلتها معظم المؤسسة، وهي أن الحكومات السابقة يجب أن تخجل من محاولاتها لتشجيع العلاقات الجيدة مع موسكو، وبالتحديد من الطريقة التي جعلت بها الدولة معتمدة على الغاز الروسي.

وأشار ليفين إلى أن هذه الرواية روجتها واشنطن، وبولندا وبعض دول أوروبا الشرقية، وتحالف الخضر الألماني، الذي لم يكن في الحكومة وقت اتخاذ هذه القرارات.

توسع الناتو شرقًا

قال ليفين إن وصول إمدادات الغاز إلى ألمانيا سبق سقوط الاتحاد السوفيتي، وتوسع الناتو في أوروبا الشرقية، لافتًا إلى تحذير الخبراء البارزين والمسؤولين السابقين من أن توسع الناتو قد يؤدي إلى الحرب.

إلا أن الحكومة الألمانية، مثل الحكومات الأوروبية الأخرى، أخبرت شعبها أن توسع الناتو خالٍ من المخاطر. هذا لأنها إذا عالجت هذه المخاطر، واقترحت تخفيضًا جذريًا في إمدادات الغاز الروسي، الذي ينتج عنه ارتفاع حاد في أسعار الطاقة، كان معظم الألمان سينقلبون ضد توسع الناتو.

وإدراكًا لخطر الحرب في أوكرانيا، لكن بسبب الخوف من أن تطلب من الناخبين الألمان التضحيات وقبول المخاطرة، أو تحدي واشنطن وتقسيم أوروبا عبر تأييد التسوية مع روسيا بحزم، اختارت الحكومات الألمانية المتعاقبة المسار الأقل مقاومة، وهو مواصلة الاعتماد على الغاز الروسي الرخيص، والإذعان المستمر للسياسات الأمريكية.

ربما يعجبك أيضا