عندما اختار نزار قباني الكتابة بالأظافر لتكون قدره الوحيد

شيرين صبحي

رؤية- شيرين صبحي

في حديقة الفن المتنوعة ركض شاعرنا الراحل نزار قباني طويلا، حتى استقر به المقام في ركن الشعر، الذي لم يكن هدفه الأول، حيث بدأ حياته محبًا لفن الخط، وحاول تعلمه، ثم انتقل إلى الرسم، ثم تنقل إلى دراسة المُوسيقى، وسرعان ما تركها هي الأخرى قائلا: “لقد بدأ المدرس بتعليمي النوتة المُوسيقية، وهي علمٌ يشبه الرياضيات، وأنا أكره الرياضيات”..!

في حي مئذنة الشحم بمدينة دمشق القديمة، ولد الشاعر نزار قباني في 21 مارس 1923، كان جده أبو خليل القباني رائدا للمسرح العربي، أما والده فكان من أعيان وتجار البلد، ومن محبي الشعر والأدب.

عن طفولته يقول: “فمن الخامسة إلى 12 من عمري كنت أعيش في بحر من الألوان؛ أرسم على الأرض وعلى الجدران وألطخ كل ما تقع عليه يدي بحثا عن أشكال جديدة، ثم انتقلت بعدها إلى الموسيقى، ولكن مشاكل الدراسة الثانوية أبعدتني عن هذه الهواية”.

طباعي أعاصير

“أحبكِ .. لا أدري حدود محبتي/ طباعي أعاصيرٌ .. وعاطفتي سيلُ/ وأعرف أني متعبٌ يا صديقتي/ وأعرف أني أهوجٌ .. وأنني طفلُ/ أحبُ بأعصابي، أحب بريشتي/ أحب بكلي .. لا اعتدالٌ، ولا عقلُ/ أنا الحبُّ عندي جدةٌ وتطرفٌ/ وتكسير أبعادٍ .. ونارٌ لها أكلُ”.

في عام 1944، أصدر الشاعر نزار قباني ديوانه الأول “قالت لي السمراء”، وكان لا يزال يدرس الحقوق في جامعة دمشق، لكنه تعرض إلى انتقادات شديدة وهو ما وصفه بقوله “حين صدوره أحدث وجعا عميقا في جسد المدينة التي ترفض أن تعترف بجسدها أو بأحلامها، لقد هاجموني بشراسة وحش مطعون، وكان لحمي يومئذ طريًا”.

لكن نزار مع الوقت اعتاد آلا يهتم بهجوم النقاد عليه، حيث اعتاد ان يحدث قشعريرة في جسد الإنسانية وفي جسد العالم، فكان يقول: “أنا أعتقد أن الشعر هو عملية انقلابية يقوم بها ويخطِّط لها وينفِّذها إنسان غاضب.. ولا قيمة لقصيدة في نظري لم تُحدث شرخًا، أو قشعريرةً في جسد الإنسانية وفي جسد العالم، الشعر أربطه أنا شخصيا بالثورة وبالطفولة وبالجنون.. وكل محاولة لتقليم أظافر الشعر وتحضيره وتحويله إلى حيوان أليف محاولةٌ رجعيَّة عقيمة وسخيفة، ونحن في هذه المرحلة المأساوية من حياتنا، يبدو أن الكتابة بالأظافر أصبحَتْ قدرنا الوحيد”.

ما الذي عند السماء

لم تكن مهاجمه نزار فقط بالكلمات القاسية، بل وصل الأمر إلى المطالبة برأسه، عندما كتب قصيدته “خبزٌ وحشيشٌ وقمر”، والتي يقول فيها:

ما الذي عند السماءْ؟
لكسالى.. ضعفاءْ..
يستحيلون إلى موتى إذا عاش القمرْ..
ويهزّون قبور الأولياءْ..
علَّها ترزقهم رزّاً.. وأطفالاً.. قبورُ الأولياءْ
ويمدّون السجاجيدَ الأنيقات الطُرَرْ..
يتسلون بأفيونٍ نسميه قَدَرْ..
وقضاءْ..
في بلادي.. في بلاد البسطاءْ..

هوامش على دفاتر النكسة

كان الحب وهاجس تحرير القلب والجسد، هي الثيمات المشتركة لأشعار نزار في دواوينه الأربعة الأولى، ثم جاءت نكسة عام 1967 لتكون الصدمة الكبرى التي تحدث تحولا في شعر نزار حيث كتب بعدها “هوامش على دفاتر النكسة”، “عنترة” و”يوميات سياف عربي”، ولم يتوقف عن نقد الحكومات العربية.

يقول الكاتب اليمني ناصر إن ديوانه السياسي الأشهر “هوامش على دفتر النكسة”، “انتشر كالنار في الهشيم في دنيا أمة وجدت نفسها فجأة تستيقظ على فاجعة هزيمتها المذلة، وهي التي نامت على أغاني النصر وهدير أحمد سعيد في “صوت العرب” يبشر بتحرير فلسطين خلال ساعات”.

يقول في هذا الديوان:
إذا خسرنا الحربَ لا غرابهْ
لأننا ندخُلها..
بكلِّ ما يملكُ الشرقيُّ من مواهبِ الخطابهْ
بالعنترياتِ التي ما قتلت ذبابهْ
لأننا ندخلها..
بمنطقِ الطبلةِ والربابهْ.

بسبب هذه القصيدة طالب الشاعر صالح جودت بوقف بث جميع أعمال نزار في الإذاعة المصرية، وهو الأمر الذي استجابت له السلطة، لكنّ نزار، بعث برسالة إلى الرئيس جمال عبدالناصر، قال فيها: “لم يكن بإمكاني وبلادي تحترق الوقوف على الحياد، فحياد الأدب موت له. لم يكن بوسعي أن أقف أمام جسد أمتي المريض، أعالجه بالأدعية والحجابات والصراعات. فالذي يحب أمته، يا سيادة الرئيس، يطهر جراحها بالكحول، ويكوي – إذا لزم الأمر – المناطق المصابة بالنار”.. وبعدها تم رفع الحظر عنه.

الموت من أجل الحب

انتحرت شقيقة نزار وكانت تدعى “وصال” عندما رفض أهلها زواجها بمن تُحب، وإجبارهم إياها على زيجة لم ترغب فيها، وهي الحادثة التي كتب عنها نزار في مذكراته قائلا: “صورة أختي وهي تموت من أجل الحُبّ محفورة في لحمي. كانت في ميتتها أجمل من رابعة العدويّة”.

تزوج نزار للمرة الأولى من “زهراء أقبيق”، التي كانت محافظة غيورة تمزق رسائل المعجبات فور وصولها، وقد رحلت عن عالمنا، ومن بعدها رحل ابنه “توفيق” إثر عملية جراحية في القلب، أما ابنته الوحيدة “هدباء” فتزوجت وانتقلت لتعيش مع زوجها في إحدى دول الخليج.
في منتصف الستينيات التقى بحبيبته “بلقيس الراوي” في حفل استقبال بسيط في إحدى السفارات العربية في بيروت، وهي فاتنه من العراق تسكن أسرتها في حي الأعظيمه ببغداد، كان هو في الأربعين من عمره، بينما هي لا تزال في الثالثة والعشرين.

تقدم نزار لخطبة بلقيس لكن أهلها قابلوا طلبه بالرفض، يسبب أشعاره وقصائده الغزلية، لكن ظل يلاحقها لمدة سبع سنوات, رفضت خلالها حبيبته كل من تقدموا إليها، وفي 1969 دعي إلى بغداد ليشارك في مهرجان الشعر العربي، فكتب قصيده من 102 بيت، انتقد فيها الحكام العرب وعرض مشكلته الشخصيه يقول فيها:
كان عندي هنا أميرة حب ** ثم ضاعت أميرتي الحسناءُ
أين وجه في الأعظمية حلو**لو رأته تغار منه السماء
انني السندباد مزقه البحر **وعينا حبيبتي الميناء
ان في داخلي عصور من الحزن**فهل لي إلى العراق النجاء
وأنا العاشق الكبير ولكن ** ليس تكفي دفاتري الزرقاءُ

استمع رئيس الجمهورية العراقية حينها أحمد حسن البكر، إلى القصيدة فشكل وفدا لخطبة بلقيس ونزار تكون من الشاعر شفيق الكيالى وزير الشباب، والشاعر شاذل طاقه وكيل وزير الخارجية، ورعاية أحمد حسن البكر، وهذا الوفد تسميه التقاليد القبلية “الجاهة” أي وجهاء القوم، إذا طلبوا لا يرد لهم طلب وإلا أصبح الرافض خصما للقبائل، وبالطبع لم يستطع والد بلقيس أن يرفض هذه المرة.

تأخر الزواج لأسباب عديدة منها رحيل ابنه توفيق إثر عملية جراحية في لندن عام 1972، فاحترمت بلقيس آلامه وساعدته على اجتيازها، وتزوجا فى بيروت عام 1973 ، وأنجبا عمر وزينب.

لكن هذه القصة الجميلة لم تدم سوى ثماني سنوات، حيث قُتلت بلقيس عام 1981 في حادث انتحاري استهدف السفارة العراقيّة في بيروت، ليعلن نزار غضبه على الجميع، فالكل مشاركون في قتل بلقيس.

ورثاها نزار بكلماته: “سأقول في التحقيق.. أني قد عرفت القاتلين.. بلقيس.. يا فرسي الجميلة.. إنني من كل تاريخي خجول.. هذي بلاد يقتلون بها الخيول.. سأقول في التحقيق: كيف أميرتي اغتصبت.. وكيف تقاسموا الشعر الذي يجري كأنهار الذهب.. سأقول كيف استنزفوا دمها..”.

ربما يعجبك أيضا