AEON | علم الآخرة.. ما هو الزمن المُستخدم للتأريخ في العصور القديمة؟

ترجمات رؤية

ترجمة بواسطة – شهاب ممدوح

في أي عام نحن؟ نحن بالتأكيد في عام 2019. العام الماضي كان 2018، والعام المقبل سيكون 2020. نحن واثقون من أنه منذ قرن مضى كان العام هو 1919، وبعد ألف سنة من الآن سيكون العام هو 3019، هذا لو كان هناك أحد متبقيًا ليشهد هذا التاريخ. إننا جميعًا نجيد التحدث عن هذه السنوات، ونحن ومعظم العالم نستخدمها من دون تفكير. وهي حاضرة حضورًا طاغيًا في حياتنا. عندما كنت طفلاً، كنت أضع قروشي في صف وفقًا لتاريخ صكّها، والآن أدوّن تاريخ نشر مقالاتي الأكاديمية بعناية.

تخيلوا الآن العيش في عالم من دون هذا الخط الزمني المعدود لترتيب الأحداث الراهنة والذكريات وآمال المستقبل. فمنذ أقدم حقبة في التاريخ المسجل، وصولاً إلى السنوات التي أعقبت غزوات إسكندر الأكبر في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، كان الزمن التاريخي- الاحتفاء العام والسنوي بمرور السنوات – يُقاس فقط عبر ثلاث طرق: الأحداث المميزة، والمناصب السنوية، أو عبر دورات الحياة الملكية.

في بلاد ما بين النهرين القديمة، كان يتم تمييز السنوات عبر حدث مميز جرى في الأشهر الاثني عشر الماضية: على سبيل المثال، عندما وصل الملك "نارام سين" إلى مصادر نهري دجلة والفرات، أو عندما صنع الملك "إنليل – باني" ثلاثة تماثيل ضخمة مصنوعة من النحاس للإله "نينوراتا". من جهة أخرى، يمكن تأريخ الأحداث عبر إعطاء اسم الشخص الذي شغل منصبًا سنويًا في دولة: شيء ما حدث في العام الذي شغل شخصان رومانيان منصب القنصل، أو عندما شغل أحد أفراد النخبة الاثينية منصب رئيس القضاة، وهكذا.. أخيرًا، وهو الأمر الذي كان شائعًا للغاية في الممالك القديمة، كانت الأحداث تؤرَّخ عبر سنوات جلوس الملك على العرش: السنة الخامسة للإسكندر الأكبر، والسنة الأربعين للملك "نبوخذ نصر الثاني" وهكذا..

كانت كل واحدة من تلك الأنظمة محصورة جغرافيًّا، لم يكن هناك نظامٌ متعالٍ أو متجاوز للحدود المحلية يستعين به المرء لتحديد مكانه في مجرى التاريخ. كيف يمكن للمرء المزامنة بين الأحداث المتباعدة جغرافيًّا أو بين الدول؟ خذوا مثال الحرب البيلوبونيسية بين أثينا واسبرطا في الثُلث الأخير للقرن الخامس قبل الميلاد. هكذا حاول المؤرخ الأثيني العظيم "ثوسيديدس" تحديد تاريخ اندلاعها:
استمرت معاهدة "سلام الثلاثين عامًا"، التي جرى التوصل إليها عقب غزو "إيوبويا"، لمدة 14 عامًا، وفي العام الخامس عشر، في العام الثامن والأربعين لتولي "كريسي" منصب كبيرة الكهنة في "أرغوس"، وعندما كان "آيناسيس" يشغل منصب القاضي في إسبارطا، وعندما لم يتبق سوى شهرين على انتهاء فترة ولاية "بايثودورس" كقاضٍ في أثينا، وبعد ستة أشهر على معركة "بوتيدايا"، وفي بداية الربيع، دخلت قوة عسكرية ثيبانية تزيد قليلاً على 300 جندي في بداية الليل إلى مدينة "بلاتيا" المتحالفة مع أثينا.

بينما نكتب نحن ببساطة "العام 431 قبل الميلاد"، كان "ثوسيديديس" ملتزمًا بمزامنة أول طلقة في الحرب مع نقاط بيانات دبلوماسية ودينية ومدنية وعسكرية وموسومية غير متصلة ببعضها.  إن التواريخ مرتبطة ارتبطًا وثيقًا بمؤسسات مركزية في الدولة، ومعتمدة على كتابة لوائح بيروقراطية، وسارية فقط داخل منطقة جغرافية محدّدة، وشديدة التأثر بالتغير السياسي. في الواقع هذه ليست تواريخ على الإطلاق، بقدر ما هي عمليات مزامنة بين أحداث متعددة، وتنسيق شبكة من الوقائع الشهيرة والمغمورة.  

في الفوضى التي أعقبت موت إسكندر الأكبر في بابل في العام 323 قبل الميلاد، تغير كل هذا. استحدث أحد جنرالات إسكندر المقدونيين، والذي سيسيطر على مملكة هائلة تمتد من بلغاريا حتى أفغانستان، نظامًا جديدًا لحساب مرور الزمن. وقد سُمي هذا النظام على اسمه وعُرف بـ "التقويم السلوقي". وكان ذلك أول حساب مستمر ولا رجعة فيه للسنوات المعدودة. وكان ذلك النظام هو بمثابة مقدمة لكل أنظمة حساب الزمن التالية، من بينها وتقويم أنو دوميني المسيحي (بعد الميلاد)، وتقويم عصرنا الحالي (Common Era)، وعصر الخلق اليهودي، والتاريخ الهجري الإسلامي، وعصر الثورة الفرنسية، وهكذا.

بدأ العصر السلوقي من العام الأول ( الذي وُضع تزامنًا مع وصول "سلوقس الأول نيكاتور" في بابل في ربيع 311 قبل الميلاد)، ومع وفاته لم يقم ابنه "أنتيوكس" بإعادة بدء الساعة، وكذلك فعل خلفاؤه. للمرة الأولى في التاريخ، حُدد الزمن التاريخي عبر عدد لم تتم إعادة بدئه ولا عكسه أو إيقافه مطلقًا، وهو أمر لا يزال مستمرًا. لقد كان ذلك الزمن كما نعرفه الآن -2019 و2020 و2021 وهكذا- متعاليًا وعالميًا ومطلقًا وقائمًا بذاته ومتزايدًا بانتظام. كان ذلك النظام غير مرتبط بأحداث سياسية أو بدورة حياة الحكام أو الغزوات، كما كان يمكن استخدامه على مسافة للربط بين الأحداث.

الأهم من ذلك كله، ونظرًا لكونه عددًا متزايدًا بانتظام، سمح التقويم السلوقي بنوع جديد تمامًا من القدرة على التنبؤ. لقد كان مستحيلاً مثلًا على رعايا الملك "نبوخذ نصر الثاني" المتقدم في السن، في العام الأربعين لحكمه (حيث حكم لـ 43 عامًا)، أن يتصوروا ويسموا ويحتفظوا في مخيلتهم  بتاريخ لسنوات أو عقود أو قرون في المستقبل. لكن الآن، وبفضل التقويم السلوقي، كان ذلك الأمر سهلاً وغير معقد وموحدًا بالنسبة لكل رعايا الملوك السلوقيين.
 
كل هذا يمكن أن يكون جانبًا مثيرًا للتاريخ الفكري، من دون أن تكون له أهمية اجتماعية كبرى، لولا عاملين إضافيين: أولاً، تبلوَرَ التقويم السلوقي فقط وحصريًا بوصفه عددًا. بغض النظر عن الأحرف التي سُجلت بها أعداد ذلك التقويم (نظرًا للمساحة الشاسعة للإمبراطورية السلوقية كان ذلك العدد موثقًا في أنظمة العدّ اليونانية والأكادية والفينية والآرامية) وكانت القيمة العددية للعام مستقرة بشكل عام، بمعنى أنه في داخل ذلك التنوع الاستثنائي في أراضي الإمبراطورية السلوقية الممتدة، كان التقويم السلوقي، بوصفه نظام عدّ منتظمًا ومتجانسًا، بمثابة قوة لتحقيق التنظيم والتجانس.

ثانيًا، جرى لصق أعداد سنوات التقويم السلوقي على طيف غير مسبوق من المنصّات المتحركة العامة والخاصة، حيث جرى إلصاق تواريخ ذلك التقويم بأوزان السوق ومقابض الأوعية والعملات والمباني وقرابين المعابد والأختام والخطابات الملكية والمراسيم الملكية وشواهد القبور وإيصالات الضرائب وقوائم الكهنة وعلامات الحدود والتقارير الفلكية والأبراج الفلكية الشخصية وعقود الزواج، وأكثر من ذلك بكثير.  
لماذا هذا الأمر مهم بالنسبة لنا؟
بالرغم من أن التاريخ والتسلسل الزمني قد لا يبدوان في بادئ الأمر أمورًا مثيرة للاهتمام، بيد أنهما يمثّلان الأساس الذي يرتكز عليه التاريخ، لأن التواريخ تؤدي مهمتين: فهي تسمح للأشياء لأن تحدث مرة واحدة، وهي تؤكد على ترتيب وترابط الأحداث. إن كل حدث يجب أن يُربط بمكانه في الزمن قبل أن يصبح موضوعًا متاحًا للسرد التاريخي. كما أن الأساليب التي نؤرخ بها العالم، ونفهم بها الفترات التاريخية ومرور الوقت، تشكّل كيف نعيش حاضرنا ونتخيل مستقبلنا ونتذكر ماضينا، ونتصالح مع حياتنا الزائلة، ونفهم عالمًا أوسع وأقدم وأكثر ديمومة منا جميعًا.

لقد ساعد التقويم السلوقي ذلك النظام التاريخي الجديد واسع الانتشار الذي كان يسير قدمًا نحو مستقبل فتح هو أبوابه، في ظهور فرص ومشاكل سياسية وتاريخية ودينية جديدة تمامًا. وبينما نعيش نحن الآن في ظل هذا النظام من دون مشاكل، خلق ذلك النظام وضعًا متفجرًا للعالم القديم. لقد خلق هذا الوضع ضغطًا هائلاً على الأفكار المُتمسَك بها منذ زمن طويل والمتعلقة بالمستقبل والماضي، وأنا أعتقد أن هذا الوضع خلق مجالات نزاع جديدة بين الإمبراطورية السلوقية ورعاياها.

تزعم الإمبراطوريات ملكيتها للزمان والمكان، ثم بعد ذلك تقاوم مجتمعاتها هذا الوضع، وبداية من القرن الثاني قبل الميلاد وصولاً إلى زوالها في عام 64 قبل الميلاد، واجهت الإمبراطورية السلوقية معارضة عنيفة وقوية ومتزايدة من طرف رعاياها الخاضعين في قلب أراضيها في بلاد الشام وبابل وغرب إيران، وكان أشهر تلك الحركات المقاومة ثورة المكابيين، عندما واجه يهود منطقة "يهودا" الجيوش السلوقية التابعة للملك "أنطيوخس الرابع" وخلفائه، ونجحوا في تحرير معبد القدس وأسسوا في نهاية المطاف مجالاً سياسيًّا مستقلاً لهم- المملكة الحشمونية – على أراضي دولة إسرائيل الحديثة. إن هذه الأحداث يجري إحياء ذكراها في احتفال عيد الأنوار "هانوكا". إن تلك المقاومة ضد السلوقيين، لم تستهدف فقط بنيتهم التحتية المادية ومطالبهم المالية ومستوطناتهم الاستعمارية وهيمنتهم السياسية، لكنها استهدفت أيضًا النظام الزمني الذي أسسوه.
 
لم تظهر الأعمال الخاصة بنبوءات نهاية العالم في مرحلة ما قبل الإمبراطورية السلوقية، مثل مرحلة الممالك البابلية أو الفارسية أو المدن – الدول في اليونان القديمة. ولا تظهر أيضًا خارج الإمبراطورية السلوقية، مثل الممالك الهيلينية الأخرى أو في روما. لقد كانت تلك الأعمال محصورة في سكان الإمبراطورية السلوقية.

إن الجذور اللاهوتية والسياسية لـ "علم الآخرة"، كما يُعرف الأدب الخاص بنهاية العالم، معقدة ومتعددة. أنا أعتقد أن الوضوح والمأسسة البيروقراطية واسعة الانتشار لذلك النظام الزمني المتعالي وغير المنتهي والذي لا رجعة فيه، أثارا تخيلات خاصة بالمحدودية وسط الأشخاص الذي رغبوا في مقاومة الإمبراطورية السلوقية. فالطريقة الوحيدة لوقف أبديّة الزمن الإمبراطوري السلوقي، هو عبر إنهاء الزمن ذاته.

أشهر تلك الأعمال المبكرة الخاصة بنهاية العالم، هي سِفر دانيال في الكتاب المقدس العبراني. وذلك أسهل سِفر كتابي حتى يومنا هذا، إذْ يسرد هذا السِفر، بصوت دانيال ذلك الرائي القديم، تاريخًا عالميًّا يتسم أساسًا بالدقة حتى العام 165 قبل الميلاد، لكنه غير دقيق تمامًا بعد العام 165 قبل الميلاد. في العام 165 قبل الميلاد، سعى يهود منطقة "يهودا"، بقيادة يهوذا المكابي، للتخلص من قيود الإمبراطورية السلوقية، لذا كُتب هذا السِفر في وقت صراع عسكري.
 
يحوي سِفر دانيال عددًا من القصص الشهيرة للغاية، من بينها دانيال في عرين الأسد، والكتابة على الجدران في احتفال الملك "بيلشاصر"، ووصول "شبه ابن إنسان" لمعاقبة أربعة وحوش ضارية خرجت من باطن البحر الهائج.

وفيما يلي نص الرواية: يشعر الملك "نبوخذ نصر"، أعظم ملوك بابل الذي عاش قبل أربعة قرون من تأليف سفر دانيال، بفزع أثناء نومه بعد رؤيته لحلم مفزع. عندما استيقظ من نومه، استدعى طاقمه الكامل من خبراء العِرافة الشرقيين (سحرة مصريون ومنجمون أكاديون ومشعوذون بابليون). طلب الملك من هؤلاء ليس فقط تفسير الحلم، لكن الإفصاح أولاً عن محتواه. عندما اعترض هؤلاء الرجال الحكماء وعبّروا عن عدم قدرتهم على تنفيذ هذا التحدي، حكم عليهم "نبوخذ نصر" بالموت.

وفي ليلة الإعدام الجماعي لهؤلاء العلماء، رأى "دانيال"، وهو شخص منفي من أرض يهودا ويعيش في البلاط البابلي، في منامه محتوى حلم الملك ومعناه. وفي اليوم التالي، قاطع دانيال عملية الإعدام وتحدث أمام الملك قائلاً:
أنت أيها الملك كنت تنظر وإذا بتمثال عظيم هذا التمثال العظيم البهي وقف قبالتك ومنظره هائل، رأس هذا التمثال من ذهب، جد صدره وذراعاه من فضة، بطنه وفخذاه من نحاس, ساقاه من حديد، قدماه بعضهما من حديد والبعض من خزف، كنت تنظر إلى أن قطع حجر بغير يدين فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معًا، وصارت كعصافة البيدر في الصيف، فحملتها الريح فلم يوجد لها مكان, أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلاً كبيرًا وملأ الأرض كلها.
   
ثم فسّر دانيال الحلم كما يلي: نبوخذ نصر وإمبراطورتيه البابلية هما رأس الذهب. وستخضع مملكة بابل لاحتلال إمبراطورية أخرى، إمبراطورية "الميديين" في جبال زاغروس، الممثلة في الصدر والأذرع الفضية. ثم ستحكم مملكة ثالثة، ممثلة في البرونز، كل الأرض: هذه هي الإمبراطورية الفارسية التي أسسها "كورش العظيم". وأخيرًا ستكون هناك مملكة رابعة "قوية كالحديد" ويشرح دانيال أن هذه المملكة "ستكسر وتحطم كل الدول السابقة". هذه مملكة إسكندر الأكبر وخلفائه السلوقيين. لكنها منقسمة على نفسها وتتمايل فوق أقدام من طين.  

تقسّم هذه الرؤيا – مع عدد آخر من الرؤى في هذا السِفر- التاريخ إلى أربع إمبراطوريات متعاقبة: البابلية والميدية والفارسية والسلوقية. إن الإمبراطورية الأرضية ككل يُرمز إليها بتمثال عظيم مصنوع من مواد معالجة – معادن وخزف. هذه الإمبراطورية مرحلية وفانية وغير مستقرة وتشبه الصنم. ثم يتدمر التاريخ ويحل محله مملكة سماوية خالدة – حجر طبيعي وثابت لم تلمسه أيادٍ بشرية.

بالنسبة للإمبراطورية السلوقية، كما رأينا، كان الزمن متعاليًا وغير مبالٍ. وكان المستقبل مملاً وفاترًا. لم تكن هناك إمكانية لإعادة بدء الزمن. والأسوأ من كل هذا، كانت هناك أبدية ستؤدي، بالتبعية، للهيمنة على الخلود. لقد كان الزمن السلوقي عابرًا، وبالتالي كان بمثابة خسارة.

على النقيض من هذا، قدّمت نهايات العالم التاريخية (apocalypses) صورة للزمن كان فيها كل شيء، بما في ذلك المستقبل، محددًا سلفًا. كان التاريخ مُشكّلاً وموجّهًا ويصل لخاتمته. وكانت كل الأحداث، رغم تفككها، جزءًا من قصة واحدة وتاريخ شامل. وفوق كل هذا، استدعت نهايات العالم التاريخية تلك نهاية الزمان، في هذا المثال، الحجر الذي يدمر الإمبراطورية الأرضية. إن هذا الأمر لا يتخيل دمار الإمبراطورية السلوقية فقط، لكنه وضع نهاية للتجربة الجديدة للزمن.  

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا