AEON | كيف ساهم الزواج المختلط في تمدد الإسلام عبر العالم المسيحي؟

ترجمات رؤية

ترجمة بواسطة – شهاب ممدوح

لم يشهد التاريخ العالمي تحولات كثيرة تضاهي في عمقها وتأثيرها عملية تحوّل شعوب الشرق الأوسط للإسلام. لقد بدأت تلك العملية في مطلع القرون الوسطى، وامتدت عبر قرون وتأثرت بعوامل متنوعة مثل الغزو والدبلوماسية والاقتناع والمصلحة الذاتية والإجبار، غير أن هناك عاملاً بات إلى حد كبير في طيّ النسيان، وقد لعب ذلك العامل دورًا أساسيًا في ظهور مجتمع مسلم مميز وهو الزواج المختلط بين المسلمين وغير المسلمين.

أثناء معظم الفترة الأولى للإسلام، كان الاختلاط بين المسلمين وغير المسلمين مبنيًا إلى حد كبير على ميزان قوى أساسي مختل: شكّل المسلمون نخبة أقلية حاكمة، عملت على استغلال موارد الشعوب المُحتلة- موارد إنجابية وغير ذلك – لزيادة أعدادها وغرس جذورها وسط السكان المحليين. وبناءً على هذا، لم يكن تغيير الدين بالإكراه عاملاً ذا أهمية في إحداث تغيير ديني طويل الأمد مقارنة مع ممارسات مثل الزواج المختلط واتخاذ المحظيات.

لقد تبلورت القواعد الحاكمة للأسر المختلطة دينيًا في وقت مبكر نسبيًا، على الأقل على جانب المسلمين. يسمح القرآن للرجال المسلمين بالزواج من أربع نساء، بما في ذلك النساء من "أهل الكتاب"، أي اليهوديات والمسيحيات. لكن النساء المسلمات غير مسموح لهن الزواج من الرجال غير المسلمين، وانطلاقًا من الأدلة التاريخية، يبدو أن هذا المنع قد علق منذ حينها.

إن هذا المنع يكمن وراءه فهم مفاده أن الزواج هو شكل من أشكال الاستعباد للمرأة: لو أصبحت المرأة مرتبطة بزوجها مثل ارتباط العبدة بسيدها، فمن غير المسموح أن تصبح الزوجة المسلمة خاضعة لكافر.

وبعيدًا عن الزواج، شهدت الغزوات التي وقعت في القرنين السابع والثامن أسْر أعداد هائلة من العبيد في شمال إفريقيا والشرق الأوسط ووسط آسيا. لقد كانت النساء العبيد من ذوي الأصول غير المسلمة، على الأقل، تُجبرن في أغلب الأوقات على تقديم خدمات جنسية لأسيادهن المسلمين، وقد أثمرت العديد من هذه العلاقات عن أطفال.

ونظرًا لأن الرجال المسلمين كان يحق لهم الاحتفاظ بأكبر عدد ممكن من العبيد كما يحلو لهم، كانت ممارسة الجنس مع اليهوديات والمسيحيات تعد مشروعة، بينما كانت ممارسة الجنس مع النساء الزرادشتيات والنساء الأخريات من خارج "أهل الكتاب" أمرًا محظورًا. إذ كن يُعتبرن وثنيات وليس لديهن كتاب سماوي مساوٍ للتوراة أو الإنجيل. لكن، ونظرًا لأن العديد من العبيد في تلك الفترة الإسلامية المبكرة أتوا من تلك المجتمعات "المحرّمة"، استحدث الفقهاء المسلمون حلولاً مؤقتة مناسبة. لقد جادل بعض الكتّاب في القرن التاسع، على سبيل المثال، أنه من الممكن تحفيز النساء الزرادشتيات أو إجبارهن على اعتناق الإسلام، وبذلك تصبح ممارسة الجنس معهن مشروعة.

لقد كان الأطفال المولودون نتيجة اتحادات دينية مختلطة، سواء عبر الزواج أو العبودية، يُعدون مسلمين تلقائيًا، فيما تحوّل بعض الرجال اليهود أو المسيحيين أحيانًا إلى الإسلام عقب إنشائهم عائلات بالفعل: لو أن تحوّلهم للإسلام حدث قبل بلوغ أطفالهم سن الرشد القانونية، 7 أو 10سنوات اعتمادًا على مذاهب الشريعة الإسلامية، فإنه يتعيّن على هؤلاء الأطفال اتباع دين آبائهم. ولو أن تحوّل هؤلاء الرجال إلى الإسلام حدث بعد ذلك السن، فإن الأطفال لهم الحرية في اختيار دينهم. وحتى مع تغيير الآباء والأطفال لدينهم، يُسمح للنساء بالبقاء في دياناتهم كمسيحيات أو يهوديات، كما تنصّ الشريعة الإسلامية.

لقد سمح الزواج المختلط واتخاذ المحظيات للمسلمين – الذي شكّلوا نسبة صغيرة من السكان في بداية التاريخ الإسلامي – بالاندماج بسرعة مع رعاياهم، ما أضفى شرعية على حكمهم للأراضي المستولى عليها مؤخرًا، وزاد من أعدادهم. كما عملت تلك الزيجات المختلطة على ضمان اختفاء الديانات غير الإسلامية بسرعة من أشجار العائلات. في الواقع، ونظرًا للقواعد الحاكمة للهوية الدينية للأطفال، فإن مجموعات القرابة المختلطة لم تستمر أطول من جيل أو جيلين.

إن احتمال اختفاء الديانات غير الإسلامية كان بالتحديد هو السبب الذي جعل القادة غير المسلمين – الحاخامات اليهود والأساقفة المسيحيين والرهبان الزرادشتيين- ينددون بالزواج المختلط، ويضعون قوانين تهدف لثني الناس عن ممارسته. ولأن المسلمين كانوا أعضاءً من النخبة الحاكمة، ونظرًا لتمتعهم بإمكانية وصول أكبر للموارد الاقتصادية مقارنة مع غير المسلمين، ربما كانت معدلات خصوبتهم أعلى.

بالطبع، لم تكن النظرية والواقع منسجمتين دومًا، واخترقت بعض العائلات المختلطة دينيًا القواعد التي وضعها الفقهاء، كما كانت السير الذاتية للشهداء المسيحيين في الفترة المبكرة للإسلام، أحد أهم الأدلة التي تحكي حياة تلك الأسر المختلطة. والشهداء المسيحيون هم جماعة غير معروفة، وهم يشكلون موضوع كتاب يحمل عنوان: "الشهداء المسيحيون تحت حكم الإسلام" (2018). لقد جرى إعدام العديد من هؤلاء الشهداء بسبب جرائم مثل الهرطقة وازدراء الدين، وجاء عدد ليس بالقليل منهم من اتحادات مختلطة دينيًّا.

هناك مثال جيد على هذا وهو "باكوس"، الشهيد الذي قُتل في فلسطين عام 786- بعد 150 عامًا تقريبًا من وفاة النبي محمد. لقد وُلد "باكوس، الذي سُجلت سيرته الذاتية باللغة اليونانية في عائلة مسيحية، لكن والده اعتنق الإسلام في مرحلة ما، ما أدّى لتغيير وضع أطفاله أيضًا. حيث  أحزن هذا الأمر كثيرًا والدة "باكوس" التي كانت تصلي من أجل عودة زوجها للمسيحية، وبفضل تلك الصلوات، تعرّض أطفالها المسلمون على ما يبدو للطقوس المسيحية، وفي نهاية المطاف مات الأب، ما جعل "باكوس" حرًا لأن يصبح مسيحيًّا، وجرى تعميد "باكوس" وترسيمه كاهنًا في وقت لاحق؛ ما أثار غضب بعض أقاربه المسلمين الذين تسببوا في اعتقاله وقتله.

كما أن هناك أمثلة أخرى من قرطبة، عاصمة إسبانيا الإسلامية، حث استُشهدت مجموعة مكوّنة من 48 مسيحيًا بين عامي 850 و 859، وقد أُحيت ذكراهم في مجموعة من النصوص اللاتينية، وقد وُلد العديد من شهداء قرطبة في عائلات مختلطة دينيًا، لكن حياتهم كان لها طابع مثير للاهتمام: عاش عددٌ منهم بشكل علني كمسلمين، لكنهم مارسوا المسيحية سرًا. وفي معظم تلك الحالات، كان ذلك يجري فيما يبدو دون علم آبائهم المسلمين، لكن كانت هناك حالة فريدة لشقيقتين، يُقال فيها إن الأب كان على علم بما يحدث.

إن فكرة تبنّي شخص ما هوية قانونية علنية كمسلم، وفي الوقت ذاته يتبنى هوية روحية سرية كمسيحي، أنتجت ثقافة ثانوية فريدة أُطلق عليها "المسيحية المتخفّية" في قرطبة، وامتد هذا الأمر فيما يبدو لأجيال، مدفوعًا بميل بعض "المسيحيين المتخفين" للبحث عن أشخاص مثلهم للزواج منهم.

أما في الشرق الأوسط المعاصر، فلم يعد الزواج المختلط أمرًا شائعًا، ويعود أحد أسباب هذا إلى النجاح طويل الأمد لعملية الأسلمة، لدرجة أنه لم يعد هناك الكثير من اليهود والمسيحيين للزواج منهم. وهناك سبب آخر يتمثل في أن المجتمعات اليهودية والمسيحية الموجودة اليوم، استطاعت البقاء جزئيًا بسبب عيشها في بيئات متجانسة من دون المسلمين، أو عبر ترسيخها لمعايير مجتمعية تعاقب بقوة كل مَن يتزوج خارج مجتمعها. وعلى النقيض من عالمنا اليوم، حيث يمكن إغلاق الحدود بين المجتمعات، كانت حدود العالم في القرون الوسطى على نحو مفاجئ مليئة بالثغرات، لا سيما عندما يتعلق الأمر بغرف النوم.

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا