سجون الاحتلال.. زنازين تفقد الأسرى صوابهم

محمود

كتب – محمد عبدالكريم

في كتابه “الجنون في غياهب السجون” يسلط الطبيب النفسي الأميركي من كلية الدراسات العليا لعلم النفس بمعهد رايت في بيركلي تيري كوبرز، على وحشية وفشل السجون في الولايات المتحدة خاصة الظروف الرهيبة التي يواجهها مَن يعانون اضطراباتٍ عقليةً خطيرةً داخل السجون، الكتاب الذي أثار ضجة في المجتمع الأميركي، كان يتحدث عن من يعانون أصلا من اضطرابات عصبية وتأثير السجن.

لكن لا كتب ولا دراسات ولا حتى تصريحات دولية ولا أميركية تتحدث عن سجون الاحتلال الإسرائيلي التي تجعل اكثر الناس عقلا واتزانا يفقدون عقولهم جراء الإرهاب والتعذيب الذي يعاني منه الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين.

“لا أريد أن أعيش ظلما بعد اليوم، قاسيت الكثير من الظلم، والذل، والسجن الانفرادي، أتمنى أن أنسى حبات الاكمول (مسكن الأوجاع)، والامتهان والعذاب، لم اكن أرى بشرا إلا عندما كانوا يأتوا لضري وتعذيبي..” هذا كل ما استطاع الأسير الفلسطيني المحرر منصور الشحاتيت قوله بعد 17 عاما في السجن الانفرادي، في زنازين الاحتلال الإسرائيلي، بعد عن شرع بالبكاء قبل أن تسكته قبلات شقيقه الذي احتضنه.

الشحاتيت (36 عاما) ابن بلدة دورا بمحافظة الخليل جنوب الضفة الغربية، خرج أمس الخميس من سجنه الذي استمر 17 عاما، قضاها في عزل انفرادي وتعذيب متواصل، كان يعيش وحده، ما خلا زيارات السجان الذي كان يزوره فقط لتعذيبه وإذلاله، ما افقده عقله وذاكرته، لدرجة أنه لم يتعرف على أمه التي ولدته والتي انتظرت خروجه طوال كل هذه السنوات، ولم يتعرف على إخوته أيضاً، وأورثه أيضا جسدا متهالكا لا يقوى حتى على المشي إلا بمساندة أحدها ما.

أحد الأسرى الفلسطينيين الذين كانوا يرون منصورا فقط خلال الزيارات العائلية، ويدعى ساجي أبوعذبة يروي شهادته ويقول: إن أم منصور كانت تأتي للزيارة فتجلس في قاعتها وكان منصورا لا يعرفها وبالكاد ينظر في وجهها، فتقضي وقتها تبكي حتى تنتهي الزيارة، ثم تعود في المرة المقبلة لتعاود البكاء مرة أخرى، وهكذا في كل زيارة، تأتي دون فائدة، ولا يكلم والدته إلا بعد ابتزاز الأسرى له بمنع الدخان والقهوة عنه، فيستجيب مجبراً، بابتسامة مصطنعة في وجهها الممتلئ حزنا وهما ودمعا”.

ويضيف أبوعذبة من المرات النادرة التي خرج فيها منصور من عزله إلى باحة السجن حيث بقية الأسرى كما منصور يجلس في زاوية من الزوايا حزيناً منعزلاً، وفي احد المرات مشى نحوي ليسألني في وقت مبكر من الفجر: “خلصت (هل انتهت) الحرب العالمية الثانية ؟! فأجابته: نعم خلصت يا منصور، فيرد عليه منصور: وااااال، ثم يطرق رأسه أرضاً ويذهب متمايلاً كأنه من زمنٍ غائب إلى زمنٍ مجهول”.

وتشير الأرقام الحالية إلى أن عدد الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال بلغ 6500، من بينهم 150 طفلاً، و62 أسيرة، ومن هؤلاء 1800 مريضا من بينهم 700 بحاجة إلى تدخل طبيّ عاجل، إلا أن هذه الأرقام تخفي في طياتها قصص تعد جرائم وانتهاكات يحاسب عليها القانون الدولي.

ومع مرور مليون فلسطيني على سجون العدو، فإن 226 أسيراً استشهدوا داخل سجون الاحتلال منذ عام 1967، بسبب التعذيب والإهمال الطبي، والقمع، إلا أن آلاف آخرين تحمل قصصهم ألم أكبر وأشد لهم ولعائلاتهم من ألم الاستشهاد.

جرائم العزل الانفرادي

ومع ممارسة الاحتلال لأساليب الشبح، والحرمان من النوم والطعام، والضرب المبرح، التعرض للموسيقى الصاخبة، والتهديد بأحداث إصابات وعاهات، وتهديد المعتقل بالاغتصاب أو زوجته وذويه، إلا أن واحدة من أبشع أشكال التعذيب والانتقام من الأسرى الفلسطينيين فمثلا الأسير المحرر عويضة كلاب الذي اعتقل عام 1988 وحكم بالمؤبد أربعة مرات فقد أهليته بشكل تام، بعد أن قضى أكثر من 20 عاما في زنازين العزل الانفرادي.

الأسير كلاب لا يتذكر من الماضي سوى أمه التي فارقت الحياة وهو أسير، والتي بكى بشدة وكأنه طفل صغير عندما عرف بموتها، ولا يأكل من الطعام إلا اليسير، ولا يجلس إلا القرفصاء كمان كان يجلس في زنازين العزل الانفرادي التي لا تتسع لأن يمدد فيها قدماه، وهو دائم الصمت، ولا يستطيع أن يجلس في غرفة مفتوح بابها أو شباكها، ولا يقدر أن يجلس مع الآخرين أو يحدثهم، وأن سالته عن ابنه فإنه لا يعرف عنه إلا أنه يبلغ من العمر 40 يوما كما تركه قبل أسره.

أسرى قاربوا الأربعين عاما خلف القضبان

ومن بين الأسرى 48 منهم أمضوا  أكثر من 20 عامًا بشكل متواصل، وهؤلاء يُطلق عليهم “عمداء الأسرى”، وأن 29 أسيراً منهم معتقلون منذ ما قبل عام 1993، ومن أكثرهم وجعًا وإيلاما قصة الأسير نائل البرغوثي الذي أمضى 40 عامًا وهو خلف القضبان.

البرغوثي الذي يبلغ من العمر (63 عاما) والذي اعتقل للمرة الأولى عام 1978، لم يمض خارج السجن إلا 23 عاما معظمها قضاها طفلا، وتقول زوجته إيمان: أن نائل الذي لم يعرف من العالم شيء سوى فقدانه للكثير من الأحبة غيبهم الموت، وتنقل عنه تساؤله بعد الاعتقال الثاني: أحقا خرجت إلى حياة لم أعرف عنها ومنها إلا القليل؟ أحقا تزوجت وجلست مع أهلي بعد أن حرمت حتى من لمسهم طوال عقود؟؟ كأنه حلم جميل وسط كابوس امتد لـ38 عامًا.

وتشير واقعة  استشهاد الأسير نصار ماجد طقاطقة (31 عاماً) من بلدة بيت فجار بمحافظة بيت لحم العام الماضي، بعد اعتقاله  من منزله وهو بصحة جيدة، ثم نقله إلى مركز تحقيق “المسكوبية” وبعدها إلى مركز تحقيق “الجلمة”، وهو تظهر عليه ملامح تدهور في حالته الصحية بسبب التحقيق، ثم إدخاله إلى “معبار” معتقل “مجدو” وتم نقله إلى إحدى الزنازين في معتقل “مجدو”، واعتدى عليه السجانون بالضرب المبرّح وقاموا بتقييده بالسرير، ثم نقله إلى مستشفى سجن “الرملة” على حمّالة، ثم الإعلان عن استشهاده لاحقا بفعل التعذيب الذي قاربت أشكاله في سجون الاحتلال الـ80 شكلاً.

وقد تضاعف في السنوات الأخيرة، وسُجل بعام 2016 زيادة قدرها (100%)عن العام 2015، وبنسبة (400%) عن العام 2014، وذلك من حيث قسوة التعذيب وبشاعة أساليب المُعذبِين، وتنوع أساليب التعذيب ‘النفسية والجسدية’، وتعدد الأشكال المتبعة وكثرتها مع الشخص الواحد، ومن مختلف الفئات العمرية.

وقبله بـ 5 سنوات تعرض الأسير المحرر معاذ غانم (35 عاماً) من بلدة بيت ليد بمحافظة طولكرم،  للاعتقال في مركز تحقيق الجلمة (السيئ السمعة)، لمدة شهر حيث فقدت العائلة أخباره، وهو عائد من الأردن.

وبعد تدهور صحة غانم بشكل خطير في مركز التحقيق أفرجت محكمة إسرائيلية عنه، بكفالة مالية، وتم تحويله فوراً إلى المستشفى، وهو لا يدرك ما الذي يدور حوله من أحداث، ولا يعلم ما يتحدث ذووه مع الأطباء، وإن كان يدرك كل ذلك، فهو عاجز عن الرد. فقد خرج من سجون وفي حالة صحية بالغة السوء، استدعت نقله فوراً إلى المستشفى لتلقي العلاج.

وعبثا حاول الأطباء الفلسطينيين عبر الصليب الأحمر الدولي، تسلم تقارير من سلطات الاحتلال، لمعرفة أساليب التعذيب التي أوصلته إلى عدم القدرة على النطق، وانهيار عصبي شديد، وانعدام الإحساس بما يجري من حوله.”.

واتهم تقرير صادر عن هيئة شؤون الأسرى والمحررين، الأطباء لدى أجهزة الاحتلال بتعذيب الأسرى، والامتناع عن التدخل لتقديم علاج للأسرى الجرحى والمصابين الذين يتم استجوابهم في غرف التحقيق، بل وحتى المساومة على العلاج مقابل الاعتراف التي يقوم بها المحققون مما يؤكد التواطؤ الطبي في التعذيب.

وقال تقرير الهيئة هناك إشراف منهجي مقصود من قبل الأطباء الإسرائيليين لحاجات الأسرى من العناية الصحية أو النظافة أو الطعام والعديد منهم يلتزم الصمت خلال إساءة معاملة المرضى كالتعرض للضرب والقمع بالغاز والقهر النفسي بالحرمان من الزيارات حيث يقومون بإخفاء المعلومات عن سوء المعاملة للأسرى.

وأوضح التقرير أن الأطباء يخفون نتائج تشريح جثامين الشهداء الأسرى ولا يسلمونها للجهات الرسمية الفلسطينية، إضافة إلى إخفاء معلومات عن أخطاء وتجارب طبية ارتكبت بحق الأسرى خلال علاجهم.

وقال تقرير الهيئة: إن الأطباء في مصلحة السجون يتساوقون مع الموقف السياسي للحكومة الإسرائيلية ولأجهزة الأمن في إسرائيل في حالات كثيرة كتقديم تقارير برفض الإفراج المبكر عن أسرى مصابين بحالات صعبة وخطيرة والادعاء أن حالتهم الصحية جيدة، إضافة إلى وضع عقبات كثيرة أمام إدخال أطباء للأسرى لإجراء الفحوصات لهم.

وذكرت الهيئة مجموعة ظواهر تؤكد تواطؤ وتقصير أطباء السجون ومراكز التحقيق في المسؤولية عن العناية بالحالات المرضية الصعبة ومنها:

• عدم تدخل الأطباء في علاج الحالات المرضية المصابة بأمراض نفسية وعصبية، والسكوت على زجهم في زنازين انفرادية

• سكوت الأطباء عن ارتكاب أخطاء طبية كما جرى مع الأسير سامي أبودياك الذي أصيب بالتلوث خلال إجراء عملية إزالة ورم له في المعدة في مستشفى سوروكا الإسرائيلي يوم 3/ 9/ 2015 أدى إلى دخوله في حالة غيبوبة، وكذلك ما جرى مع الأسير ثائر حلاحلة الذي أصيب بالتهاب الكبد الوبائي بعد علاج أسنانه يوم 16/ 4/ 2013 بأدوات طبية متسخة و ملوثة في عيادة سجن عسقلان، وكذلك ما جرى مع الأسير عثمان أبوخرج الذي تم إعطاؤه إبرة بالخطأ في سجن شطة عام 2007 مما أدى إلى معاناته من التهاب الكبد.

• سكوت الأطباء عن استمرار احتجاز الأسرى المرضى في عيادة سجن الرملة التي هي أسوأ من السجن وتفتقد لكل المقومات الإنسانية والصحية.

• سكوت الأطباء على تشريع قانون التغذية القسرية بحق الأسرى المضربين عن الطعام بما يشكل ذلك من مخاطر صحية ومساس بكرامة وحقوق الأسير المضرب.

• سكوت الأطباء على سياسة تحويل نفقة علاج أي أسير على حسابه الشخصي وخاصة بما يتعلق بتركيب أطراف اصطناعية للأسير المعاق.

• سكوت الأطباء على انتزاع اعترافات تحت التعذيب والتهديد خاصة للقاصرين وعدم تقديم المعلومات التي تشير إلى تعرض الأسير إلى معاملة قاسية خلال استجوابه واعتقاله.

ربما يعجبك أيضا