ذا هيل| الصين ونظرية «معضلة السجين»

شهاب ممدوح

ترجمة – شهاب ممدوح

بعد سنوات من الإنكار، وفي مواجهة أدلة دامغة، ظهر توافق على مضض بين الحزبين على أن الصين تمثل أكثر من منافسة استراتيجية حسنة النية ضد الولايات المتحدة. بعد الترحيب بانضمامها – كما لو كان بالتزكية تقريبًا – إلى النظام الدولي القائم على القواعد عقب عقود من العزلة الاقتصادية والجيوسياسية التي فرضتها على نفسها، أصبح وضع الصين الآن راسخًا بشدة وسط المجتمع الدولي. لكن سعي الصين لتعطيل النادي التي هي عضوة فيه، يضع تحديات غير مسبوقة أمام القادة السياسيين.

بعد عقود من “إخفاء قوتها وانتظارها الفرصة المناسبة”، بحسب كلام الزعيم الصيني الراحل “دينغ شياوبينغ”، بدأت الصين ببطء في العقد الثاني للألفية الجديدة ممارسة نفوذها الاستراتيجي المتنامي على الساحة العالمية. فعلت هذا في البداية عبر تنفيذها تنمية محلية وتجارة دولية، ومؤخرًا، أضافت الدبلوماسية والمعونات الخارجية وتسريع جهود بناء قوتها العسكرية إلى مزيج الأدوات. وبالرغم من أن الصين كانت تسعى بحماسة للانضمام إلى النظام الدولي ولعب دور مهم داخل إطاره، إلا أنها تسعى الآن لإعادة تشكيله –أو جعله عديم القيمة- خدمة لمصالحها. لا ترغب الصين في إزاحة الولايات المتحدة عن قيادتها لشبكة من علاقات ومؤسسات مترابطة ظهرت في مرحلة ما بعد الحرب، لكنها تسعى لتكرار واستبدال هذه المؤسسات الخاضعة تقليديًّا لقيادة أمريكية، تاركة هذا النظام الدولي البالي يضمحل.

إن صعود الصين داخل هذا النظام وسعيها لاحقًا لتحدي هذا الإطار العالمي الناشئ في مرحلة ما بعد الحرب، يتناقض مع المنافسة في زمن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، نظرًا إلى أن الاتحاد السوفيتي كان متخلفًا اقتصاديًّا عن “العالم الأول”. تنافس العالم الشيوعي مع الغرب عبر “حرب الأفكار”، فضلًا عن التنافس معه دبلوماسيًّا وأحيانًا عسكريًّا عبر وكلاء، لكنه أحجم عن الانضمام اقتصاديًّا مع التحالف الأطلنطي وحلفائه الذين يتبعون اقتصاد السوق. سلكت الصين، التي تُعدّ نظريًّا دولة اشتراكية، مسارًا في ثمانينيات القرن الماضي للاندماج بصورة كاملة مع اقتصاديات السوق العالمية، وبعد مرور 40 عامًا تقريبًا، ربما تكون حققت نجاحًا يفوق ما تخيلته في مرحلة ما بعد الزعيم “ماو”.

الآن وبعد أن استقر وضعها بوصفها مركزًا مهمًا للتجارة الاقتصادية العالمية، اتخذت الصين إجراءات شتى خارج القواعد المقبولة، وفعلت هذا بشكل سريع وواسع المدى. قضت الصين على الديمقراطية والحقوق المدنية في هونغ كونغ، وزادت من عدوانيتها تجاه تايوان، ووسعت من قمعها للنشاط الريادي المحلي لصالح شركات حكومية، وعرقلت الاستثمار الأجنبي المباشر، ووضعت قيودًا على إدراج الشركات الصينية لأسهمها في الخارج، كما استخدمت علاقاتها التجارية المتنوعة مع الغرب كسلاح آخر في سياستها الخارجية.

إن معاملة الصين لمسؤولين تنفيذيين أجانب يقومون بأعمال تجارية على أراضيها، تُبرز نهجها المنفلت والتجاري البحت فيما يتعلق بالتجارة العالمية. ونذكر هنا قضية ريتشاد أوهالوران، المسؤول التنفيذي الإيرلندي في شركة طيران والمعتقل في شنغهاي بسبب خطايا رب عمله الصيني. لا تخشى الصين استخدام مواردها الدبلوماسية والإعلامية، وموارد أخرى، لخدمة طموحاتها. إن اضطرار “جايمي ديمون”، رئيس بنك “جي بي مورغان”، للاعتذار بسبب مزحة قالها، خشية من إغضاب الصين وحرمانه من الدخول لسوقها، هو مثال على جهود الصين لتعديل قواعد راسخة في العلاقات التجارية والدبلوماسية الدولية.

إن هذه الأفعال ليست انعكاسًا لمشاعر قومية لقوة ناشئة، لكنها استراتيجية عدوانية شاملة ومنسقة لإعادة تنظيم الساحة الدولية، كما أن مبادرة الحزام والطريق – التي تتضمن ضخّ استثمارات في بنية تحية عالمية بهدف نصب “أفخاخ ديون”- هي تكرار لدبلوماسية البوارج الحربية من الزمن الماضي. تنخرط الصين في أعمال تجسس على الشركات، ولا تحترم حقوق الملكية الفكرية. يروّج “معهد كونفوشيوس” التابع لها لمصالح وطنية صينية. إن استثمارات الصين في التكنولوجيا المتطورة، وتوسيعها لنفوذ دولة المراقبة داخل أراضيها، وتطويرها لأسلحة عسكرية متطورة للغاية، كل هذا يعمل على نحو مشترك لتوسيع نفوذ قوتها الصلبة والناعمة – بشكل أكثر عمقًا داخل حدودها، وبشكل عام حول العالم.

في مواجهة قوة رجعية تزداد عدوانية داخل إطار النظام العالم القائم على القواعد، تجد أمريكا نفسها أمام “معضلة سجين” تقليدية، وهي مشتقة من نظرية اللعبة (game theory). وتستخدم هذه النظرية لإظهار كيف أن طرفين عاقلين، يعمل كلاهما انطلاقًا من مصلحته الخاصة، قد لا يتعاونان حتى عندما يكون من المنطقي لهما فعل هذا.

إن علاقة أمريكا الراهنة مع الصين يمكن أن يُنظر إليها من عدسة “معضلة السجين”، ويمكن شرح هذا الأمر ببساطة على أن طرفين يكون أداؤهما جيدًا عندما يتعاونان، لكن أداءهما يتدهور عندما يختلفان، ويمكنهما تحقيق نتيجة أفضل بكثير في حال لجوئهما للغش – أو في حالة العلاقات الدولية، الغش أو الانخراط في سلوك شاذ – بينما يبقى الطرف الآخر صادقًا ويستمر في الالتزام بالقواعد.

إن الإطار التحليلي لمعضلة السجين مناسب تحديدًا للعلاقات الأمريكية – الصينية اليوم، من حيث أن السلوك المخالف يحقق لصاحبه نتيجة أعلى متوقعة، ولا شك أن القرار الذي سيتخذه الطرف المقابل لا يمكن معرفته مسبقًا – ما يدفع الطرفين للتصرف بطريقة سيئة. بالتالي، فإن قرارات التعاون أو الخيانة في المستقبل – أو بلغة العلاقات الدولية الالتزام بالقواعد أو كسرها – لا يمكن التنبؤ بها من الطرفين، بسبب غياب الثقة والفهم بين الطرفين.       

يبدو هذا وصفًا دقيقًا لعالمنا في عام 2021: صين عدوانية وشرسة في مواجهة قوة أمريكية عظمى سابقة لديها عزيمة متزعزعة. لكن ما يزيد من تعقيد الحسابات، هو أن المجتمع الصيني لا يفهم جيدًا ولا يقرّ بشكل عام بنقاط ضعفه المدنية والديمغرافية، بينما تظل القوة العسكرية الامريكية دون منافس على الرغم من تحديات أمريكا المحلية.

إن احتمال نشوء عالم أكثر خطرًا وأقل ازدهارًا نتيجة للغياب المتبادل للثقة وتحوله إلى صراع اقتصادي ودبلوماسي وربما عسكري، ينبغي أن يدفع صُناع السياسات الأمريكيين للتركيز على إيجاد الطريقة الأفضل لخلق ظروف مواتية لتعاون ثنائي – أو الانخراط البنّاء في حال الفشل في الخيار السابق. وكما تشير نظرية معضلة السجين، فإن تحسين فهم دوافع الطرف المقابل وأهدافه، يقدم مفاتيح بشأن أفعال وردود أفعال محتملة، ويسمح باتخاذ قرارات مدروسة.    

الزمن وحده سيخبرنا ما إذا كانت هذه اللحظة الجيوسياسية قد تجاوزت “نقطة اللاعودة” مع وجود الصين والولايات المتحدة على مسار تصادمي لا يمكن تفاديه. مع هذا، ينبغي بذل كل الجهود لمعرفة ما إذا كان بمقدور البلدين إيجاد النتيجة المثلى من نظرية اللعبة، يحقق فيها الطرفان – والعالم عمومًا – فوزًا بمشاركة كل دولة منهما ضمن إطار جيوسياسي دائم ومتفق عليه. حتى لو كانت الوقت قد تأخر، إلا أن هذا الجهد سيخلق أفكار متبصّرة ضرورية لصياغة ردود سياسية عقلانية تعالج أفعالا عدوانية محتملة.

لا يعلم أحد بالتأكيد مدى اقتراب الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي من حافة صراع نووي أثناء الحرب الباردة. لو كان هناك درس تعلمناه من تلك التجربة، فهو أن الجهل المتعمّد لأحد الأطراف – والقرارات العمياء التي تُتخذ نتيجة لذلك – قد لا يقل خطورةً عن أي خصم خارجي. 

للاطلاع على الرابط الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا