كيف أصبحت ألمانيا «رجل أوروبا المريض»؟

آية سيد
«رجل أوروبا المريض».. لماذ تتخلف ألمانيا عن الاقتصادات الكبرى؟

حسب صندوق النقد الدولي، ستنمو ألمانيا بمعدل أبطأ من أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وإسبانيا على مدار السنوات الـ5 المقبلة.


منذ عقدين ونصف، شهدت ألمانيا فترة من التعثر الاقتصادي، ما دفع مجلة “ذي إيكونوميست” البريطانية إلى وصفها بـ”رجل أوروبا المريض”.

لكن مع مطلع الألفية الجديدة، أذنت سلسلة من الإصلاحات بعصر ذهبي، وازدهرت ألمانيا وأصبحت قوة تصديرية بارزة. إلا أن العالم استمر في التحول، وبدأت ألمانيا في التخلف عن نظيراتها مجددًا، إضافة إلى الوضع الجيوسياسي الآخذ في التدهور.

من قائد نمو إلى متقاعس

لفت تقرير نشرته مجلة “ذي إيكونوميست”،  في عددها الجديد 19 أغسطس 2023، إلى أن ألمانيا، في الفترة بين 2006 و2017، تفوقت في الأداء على نظيراتها وواكبت أمريكا. لكنها اليوم شهدت الربع الثالث من الانكماش أو الركود، وقد ينتهي الحال بأن تصبح الاقتصاد الكبير الوحيد الذي ينكمش في 2023.

وحسب صندوق النقد الدولي، ستنمو ألمانيا بمعدل أبطأ من أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وإسبانيا على مدار السنوات الـ5 المقبلة أيضًا. إلا أن الأمور ليست مقلقة كما كانت في 1999. هذا لأن البطالة تقف اليوم عند 3%، وألمانيا أكثر ثراءً وانفتاحًا، وفق ما أوضحت المجلة البريطانية.

لكن الألمان يتذمرون بنحو متزايد من أن بلادهم لا تعمل كما ينبغي. وتُظهر استطلاعات الرأي أن 4 من كل 5 أشخاص يرون أن ألمانيا ليست مكانًا عادلًا للعيش فيه. وأصبحت القطارات تتأخر عن مواعيدها. وألغت وزيرة الخارجية، أنالينا بيربوك، رحلتها إلى أستراليا بعد تعطل طائرتها الرسمية المتهالكة للمرة الثانية هذا الصيف.

اقرأ أيضًا| ضربة ثلاثية وسط بيروقراطية متصلبة.. توقعات باستمرار أزمات ألمانيا الاقتصادية

نقص الاستثمارات

لسنوات، غطى تفوق الأداء الألماني في الصناعات القديمة على نقص الاستثمارات في الصناعات الجديدة. وأدى الرضا عن الذات والهوس بالحذر المالي إلى القليل من الاستثمارات العامة. وبنحو عام، استثمار ألمانيا في تكنولوجيا المعلومات كحصة من الناتج المحلي الإجمالي أقل من نصف الاستثمار في أمريكا وفرنسا.

وحسب “ذي إيكونوميست”، تلعب النزعة المحافظة البيروقراطية دورًا أيضًا. هذا لأن الحصول على رخصة لتشغيل شركة يستغرق 120 يومًا، أي ضعف متوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ويُضاف إلى ذلك الوضع الجيوسياسي الآخذ في التدهور، وصعوبة التخلص من انبعاثات الكربون، والمتاعب المرتبطة بشيخوخة السكان.

الاعتماد على الصين

أوضحت المجلة أن الجيوسياسة تعني أن التصنيع لم يعد مربحًا كالسابق. هذا لأن ألمانيا، من ضمن كل الاقتصادات الكبرى الغربية، هي الأكثر تعرضًا للصين. ففي العام الماضي، بلغت التجارة بين البلدين 314 مليار دولار. وكان دافع الربح هو ما يحكم هذه العلاقة في السابق، لكن الأمور أصبحت أكثر تعقيدًا الآن.

وفي الصين، يخسر صناع السيارات الألمان المعركة على حصة السوق ضد المنافسين المحليين. وفي المجالات الأكثر حساسية، ومع اتجاه الغرب إلى “الحد من المخاطر” في علاقاته مع الصين، قد تُقطع بعض العلاقات نهائيًا.

وفي الوقت ذاته، فإن التدافع من أجل التصنيع المتقدم وسلاسل الإمداد القوية يطلق العنان لفيض من الدعم لتعزيز الصناعة المحلية، الذي رأت “ذي إيكونوميست” أنه إما سيهدد الشركات الألمانية، أو يطالب بدعم داخل الاتحاد الأوروبي.

اقرأ أيضًا| تدهور «الحالة المزاجية للاقتصاد».. لماذا يسود الإحباط الشركات الألمانية؟

التحول في مجال الطاقة

إحدى الصعوبات الأخرى التي تواجهها برلين تنبع من التحول في مجال الطاقة. فالقطاع الصناعي الألماني يستهلك ضعف الطاقة التي يستهلكها القطاع الأكبر التالي في أوروبا، ومستهلكيه لديهم بصمة كربونية أكبر بكثير من أولئك في فرنسا أو إيطاليا.

وكذلك لم يعد الغاز الروسي الرخيص خيارًا، وتحولت الدولة بعيدًا عن الطاقة النووية، في ما يُعد “هدفًا في مرماها”، على حد تعبير “ذي إيكونوميست”. وأضافت المجلة أن نقص الاستثمار في شبكات الطاقة ونظام التراخيص البطئ يعرقلان التحول إلى الطاقة المتجددة الرخيصة، ما يهدد بجعل الشركات المصنعة أقل تنافسية.

نقص القوى العاملة

تفتقر ألمانيا أيضًا إلى المواهب التي تحتاج إليها، وفق “ذي إيكونوميست”، لأن 2 مليون عامل سيتقاعدون على مدار الـ5 أعوام المقبلة. وبرغم أن الدولة جذبت حوالي 1.1 مليون لاجئ أوكراني، فإن معظمهم من الأطفال والنساء غير العاملات الذين قد يعودا إلى بلادهم قريبًا.

وأشارت المجلة البريطانية إلى أن خُمسي أصحاب العمل يقولون إنهم يكافحون لإيجاد عمال ماهرين. وكذلك لا تستطيع ولاية برلين ملء نصف وظائف التدريس الشاغرة بمعلمين مؤهلين.

اقرأ أيضًا| نمو ألمانيا الاقتصادي في خطر.. ما السبب؟

الحلول المتاحة

حسب “ذي إيكونوميست”، يجب أن يتطلع السياسيون إلى الأمام، عن طريق تعزيز الشركات الجديدة، والبنية التحتية والمواهب. وتبني التكنولوجيا سيكون بمثابة منحة للشركات والصناعات الجديدة. وكذلك فإن إصلاح نظام التراخيص سيساعد في ضمان بناء البنية التحتية بسرعة وحسب الميزانية.

ولفتت المجلة إلى أن الأموال مهمة أيضًا. وعلى الرغم من أن ألمانيا لا تستطيع الإنفاق بحرية مثلما كان الحال في العقد الماضي، عندما كانت أسعار الفائدة منخفضة، فإن الاستغناء عن الاستثمار كوسيلة لكبح الإنفاق الزائد يُعد اقتصادًا زائفًا.

اقرأ أيضًا| استراتيجية جديدة للأمن القومي الألماني.. هل تنجح في تعزيز المرونة الاقتصادية؟

جذب المواهب

من المهم أيضًا جذب المواهب الجديدة. وبرغم أن ألمانيا حررت قواعد الهجرة، لا تزال عملية الحصول على تأشيرة بطيئة بشدة، وتجيد ألمانيا الترحيب باللاجئين أفضل من المهنيين. ووفق المجلة، فإن جذب المهاجرين الماهرين قد يغذي الموهبة المحلية، إذا ساعد في التعامل مع النقص المزمن في المعلمين.

وختامًا، أشارت “ذي إيكونوميست” إلى أنه في دولة تتميز بالحكومات الائتلافية والبيروقراطيين الحذرين، لن يكون أي من هذا سهلًا. إلا أن ألمانيا، منذ عقدين، نجحت في إحداث تحول هائل كان له تأثيرًا استثنائيًّا، وربما تحتاج إلى اتباع النهج نفسه.

ربما يعجبك أيضا