في ذكرى وفاته الـ51 محمد صديق المنشاوي.. “يَزيدُ في الخَلقِ مَا يشاءُ”

مراسلو رؤية
رؤية – محمد عاشور

إذا بلغ “الحُصري” جزء الذاريات في المصحف المرتل لإذاعة القرآن الكريم فاجلس وأنصت، وخاصة سورة الرحمن فهو أشدُّ ما يكون من الإبداع. وإذا بلغ “مصطفى إسماعيل” جزء قد سمع فلا تحرّك ساكنًا فأنت على وشك الإقلاع، وإذا بلغ “عبد الباسط عبد الصمد” سورة يوسف ثم الرعد فإبراهيم فالزم مكانك؛ فالشيخ على وشْك أن يحكي الآيات وكأنك تراها رؤيا العين، أما إذا بلغ “البنا” سورة الأعراف فالزم الصمت؛ فكأنما عاش القصة لحظة بلحظة ويقص عليك ما حدث. أما إذا افتتح المنشاوي مُصحفه المرتل فأنصتْ حتى تنتهي الخَتْمة؛ فالقلب يكاد يخرج من مكانه!!

كانت الكلمات السابقة لأحد السمّيعة معبرًا بها عن القراء العظماء الخمسة – رحمهم الله تعالى – خلال رحلاتهم الإيمانية على أثير إذاعة القرآن الكريم المصرية.
“المدرسة المنشاوية”.. شجرةٌ أصلها ثابت

في أسرة عريقة اشتهرت بتلاوة وتجويد القرآن الكريم، خرج الشيخ “محمد صديق المنشاوى”، ليكون واحدًا من عمالقة القرّاء في مصر والعالم العربي، حيث نشأ في أسرة قرآنية عريقة؛ فوالده الشيخ صديق المنشاوي، وشقيقه الشيخ محمود صديق المنشاوي عَلَمان من أعلام دولة التلاوة المصرية.

وُلِد المنشاوي عام 1920بقرية البواريك، التابعة لمركز (المنشأة)، أحد المراكز التابعة لمحافظة سوهاج. نشأ في أسرة عُرفتأبًا عن جد بحفظ القرآن وتلاوته، فنبت نباتًا حسنًا، فأتم حفظ القرآن الكريم وهو في الثامنة من عمرهعلى يد الشيخ محمد النمكي، ثم اصطحبه والده الشيخ صديق إلى القاهرة ليتعلم علم القراءات وعلوم القرآن، وعند بلوغه الثانية عشرة من عمره درس علم القراءات على يد الشيخ “محمد مسعود” الذي انبهر بصوته ونبوغه المبكر؛فأخذ يقدّمه للناس في الحفلات والليالي القرآنية.
وظل الفتى المنشاوي على ذلك حتى بلغ الخامسة عشرة من عمره فاستقل عن شيخه، كما درس أحكام القرآن الكريم على يد الشيخ (محمد أبي العلا) والشيخ (سعودي محمد)، وما لبث أناشتهر الشَّيخ وذاع صِيته في وقت مبكّر، وهو بعدُ لم يتجاوز العشْرين من عمره.
حصاد الرحلة

للشيخ المنشاوي تسجيل كامل للقرآن الكريم مرتلًا، وله أيضًا العديد من التسجيلات في المسجد الأقصى و الكويت و سوريا و ليبيا وغيرها، كما سجل ختمة قرآنية مجودة بالإذاعة، وله كذلك قراءة مشتركة برواية الدوري مع القارئين كامل يوسفالبهتيمي وفؤاد العروسي.

كما ترك “صاحب الصوت الخاشع والقلب الضارع” أكثر من 150 تسجيلًا خارجيًّا (حفلات قرآنية في الداخل والخارج) ومسجلة بالإذاعة، تميزت جميعها بالمهابة والرَّوعة والتَّأثير، مع اختلاف الأداء بين محفل وآخر، وقد لاحظ بعض الدارسين لقراءات الشيخ عدم وجود تلاوتين متشابهتين في أي وجه، سواء من ناحية الأداء المتميِّز والجمال الصَّوتي أو الانتقال بين مقام وآخر وبين قراءة ومثلها، فتلاوتُه لسورة الزُّخْرف تَختلف عن تلاوتِه لسورة ق، وتلاوته لسورة التَّوبة تختلف عن الإسْراء.. إلخ.
موهبة فطرية استثنائية

وفي رسالة لقُراء عصرنا الحاضر، قال أحفاد أسرة المنشاوي وبعض المتخصصين إنه لم يلتحق بأي معهد لتعلم الموسيقى ولم يدرسها قط،حتى إنه روي أن أحد الموسيقيين الكبار في فترة الستينيات عرض على الشيخ المنشاوي أن يلحّن له القُرآن قائلاً له: “يا شيخ، أنت الصوت الوحيد الذي يقبل الموسيقى في القرآن”، وهنا رد المنشاوي: “يا سيدي لقد أخذت الموسيقى من القُرآن، فكيف تلحِّن أنت القرآن بالموسيقى؟!”.

وقد تميَّزت تلاوات وحفلات المنشاوي بالتَّنويع في القِراءات القرآنيَّة؛ فأنت تَسمعُه يتلو آيةً بقراءة أحد الأئمَّة السَّبعة أو العشرة، مثلاً يقرأ برواية الدّوري ثم يُتْبِعها برواية السّوسي – وكلاهُما راويا الإمام أبي عمرو البصري – أو ورش وقالون عن نافع، أو يتلو آيةً واحدة بكل القِراءات قراءة بعد أخرى؛ حتَّى يتمكَّن المستمع من استيعاب المعنى، وتارةً يَجمع في آية واحدة كلّ القِراءات الواردة في الآية، لا سيما أصول الأئمَّة المختلفة، مثل تلاوة سورة الإسراء المشْهورة في المسجِد الأقصى، وسورة التوبة بالمسجِد الأموي، وكذلك أواخر سورة المؤمنون.

عباقرة الجيل الثاني

في كتابه “عباقرة التلاوة في القرن العشرين” لشكري القاضي، يرى المؤلِّف أن (المنشاوي الابن) يُعدّ أحد عباقرة الجيل الثاني من القراء المرموقين،بجانب”أبو العينين شعيشع”، و”كامل يوسف البهتيمي”، و”محمود خليل الحصري”، إضافة إلى الشيخ “مصطفى إسماعيل” والشيخ “محمود علي البنا”، والشيخ “عبدالباسط عبدالصمد”، والشيخ “محمود عبدالحكم” وغيرهم”، وهم الذين اعتبرهم حملوا راية التلاوة في أعقاب الروّاد الأوائل أمثال:”أحمد ندا”، و”محمد الصيفي”، و”علي محمود”، و”محمد رفعت”، و”محمد سلامة”، و”أحمد سليمان السعدني”، و”عبدالفتاح الشعشاعي”، و(المنشاوي الأب) وغيرهم.

وفي مثل هذا اليوم (20 يونيو) من عام 1969 رحل عن دنيانا الشيخ المنشاوي عن عمر ناهز 49 عامًا؛ تاركًا إرثًا قرآنيًا ومصحفًا مرتلًا كاملًا ومُصحفًا مُعلِّمًا، ورغم هذا العمر الذي يبدو قصيرًا للكثيرين، بيد أنه لا يزال له أثرٌ باقٍ حتى الآن؛ بل إلى أن يقال للشيخ يوم القيامة (اقرأ وارتقِ ورتِّلْ كَمَا كُنتَ تُرتِّلُ في الدنيا..).

ربما يعجبك أيضا