“ميلاد” بقعة ضوء وسط عتمة “الصفقة”‎

محمود

كتب – محمد عبدالكريم

القدس المحتلة – توتر شديد خيم على أروقة المستشفى الفرنسي في مدينة الناصرة بالداخل الفلسطيني المحتل، دموع الخوف والترقب اختلطت عقب ولادة ميلاد وسماع صرختها الأولى في الحياة، بدموع الفرحة على ولادتها بدموع الحزن على والدها الأسير في سجون الاحتلال، منذ 34 عاما ولا يزال أسيرا حتى يتم الحكم بسجنه لمدة 40 عاما.

ميلاد هي ابنة الأسير وليد دقة (59 عاماً) وابنة سناء سلامة اللذين عقد قرانهما وهو أسير خلف القضبان في العام 1999، جاءت انتصارا معنويا للفلسطينيين في زمن الهزيمة للأمة في فترة “صفقة القرن”، فالأسرى الفلسطينيون هم آخر القلاع في وجه الاحتلال، ونجاح أحدهم في قهر إرادة السجان يعد انتصارا مهما على الساحة الوطنية الفلسطينية.

ميلاد ليست استثناءً في هذا الأمر فقد سبقها إلى الحياة 88 طفلا (17 منهم توائم)، هم أبناء 61 أسيرا أفلح أباؤهم في تهريب النطف من السجون، ليتم تلقيحها في رحم زوجات الأسرى صناعيا، حيث بدأ الأمر في عام 2012 مع الأسير عمار الزبن من نابلس، الذي قرر خوض المغامرة، حين نجح في تهريب “نطفة” إلى خارج السجن، وانتهت بالنجاح في أغسطس 2012، حين أنجبت زوجته طفلها “مهند”.

الاحتلال الذي يرمي من وراء كل خطوة خبيثة يقدم عليها إلى عدة اهداف لا تخلو من الوضاعة، عزل الأسير الوالد وليد دقة في الزنزانة الانفرادية بعد رفضه التوقيع على ورقة تفيد بأنه لم يهرّب النطفة، ليقضي حتى الآن أكثر من شهرين.

العزل ليس جديدا على وليد ابن بلدة باقة الغربية، فقد نقل في عام 2018 من سجن جلبوع إلى العزل الانفرادي في سجن مجدو، بسبب نجاحه في تهريب ونشر روايته التي كتبها في الأسر وأسماها “حكاية سر الزيت”، والتي تناولت قصة صبي فلسطيني يحاول ابتكار طريقة للتمكن من زيارة والده في السجن، فصاحب دراسة “صهر الوعي” المهربة أو المحررة كما الرواية، والنطفة التي باتت “ميلاد” الطفلة، يخوض رحلة في عقل طفل فلسطيني يريد أن يزور والده الأسير فيختبئ داخل شجرة زيتون سيتم نقلها إلى الداخل، ومن هناك، وعبر الاختفاء بوساطة “زيت الزيتون المقدّس”، يستطيع الطفل دخول السجن للزيارة، وحين يخيَّر السجين بأن يتم إخراجه عبر “الزيت المقدس”، يختار أن ينقل الطلاب الذين لا يستطيعون الوصول إلى جامعاتهم بقوة دفع هذا الزيت العجائبية، مقدِّماً تعليمهم على حريته.

ولم تكن هذه هي الحملة الأولى التي توجه من اليمين الإسرائيلي ضد وليد دقة، فقد سبق أن تم وقف مسرحية تقتبس بعض سيرته الذاتية في مسرح الميدان بحيفا، ما أدى إلى حرمان المسرح من التمويل الحكومي الإسرائيلي، واستقالة مديره، بتحريض من وزيرة الثقافة الإسرائيلية المتطرفة ميري ريغيف.

واختير اسم “ميلاد” للمولودة الجديدة تحقيقا لرسالة مؤثرة كتبها الأسير دقة داخل معتقله لطفل لم يولد بعد، عبّر فيها عن مشاعره الجياشة وحلمه بأن يكون أبا، وأن يخترق جدران سجنه إلى الحرية.

واللافت أن دقة كان أطلق الاسم “ميلاد” على ابنه أو ابنته الحلم في نص جمع بين أكثر من شكل إبداعي، 10 أعوام، ولمناسبة مرور ربع قرن في سجون الاحتلال.

كتب وقتها: عندما مرّ ربع قرن على اعتقاله نصاً بعنوان “أكتب لطفلٍ لم يُولد بعد”، هل تعرفين أيتها الصغيرة؟ لا ينقص عالمَنا الكئيبَ والبائس أطفالٌ جدد. لكن مع ذلك، كان ينقصه أنت بالذات، لأنك النموذج في معنى الحياة، لأنك الأمل. هل تعرفين من كان يبحث عن هذا المعنى؟ إنه والدك الذي احترق كي ينير ظلماتنا نحن، وهي أمّك التي لا مثيل لها في الإخلاص. الآن، أنتِ هُنا.

أضاف: عزيزي/ عزيزتي ميلاد.. اليوم، أنهي عامي الخامس والعشرين في السجن: تسعة آلاف ومئة وواحد وثلاثين يوماً وربع اليوم (9131).. إنه الرقم الذي لا ينتهي عند حد.. إنه عمري الاعتقالي الذي لم ينته بعد.. وها أنا قد بلغت الخمسين، وعمري قد انتصف بين السجن والحياة.. والأيام قد قبضت على عنق الأيام.. كل يوم أمضيته في السجن يقلب “شقيقه” الذي أمضيته في الحياة، ككيس يحاول إفراغ ما تبقى به من ذاكرة.. فالسجن كالنار يتغذى على حطام الذاكرة.. وذاكرتي، يا مهجة القلب، غدت هشيماً وجف عودها.. أهرّبها مدونة على ورق حتى لا تحترق بنار السجن والنسيان.. أما أنت، فأنت أجمل تهريب لذاكرتي.. أنت رسالتي للمستقبل بعد أن امتصت الشهور رحيق إخوتها الشهور.. والسنين تناصفت مع أخواتها السنين.. أتحسبني يا عزيزي قد جننت؟؟ أكتب لمخلوق لم يولد بعد؟

وتساءل حينها: أيهما الجنون، دولة نووية تحارب طفلاً لم يولد بعد فتحسبه خطرًا أمنيًّا، ويغدو حاضرًا في تقاريرها الاستخبارية ومرافعاتها القضائية، أم أن أحلم بطفل؟.. أيهما الجنون، أن أكتب رسالة لحلم أم أن يصبح الحلم ملفاً في المخابرات؟.. أنت يا عزيزي تملك الآن ملفاً أمنياً في أرشيف الشاباك الإسرائيلي، فما رأيك؟.. هل أكف عن حلمي؟.. سأظل أحلم رغم مرارة الواقع، وسأبحث عن معنى للحياة رغم ما فقدته منها.

وختم: هم ينبشون قبور الأجداد بحثاً عن أصالة موهومة، ونحن نبحث عن مستقبل أفضل للأحفاد، لا شك آت.. سلام ميلاد.. سلام عزيزتي/ عزيزي.

ربما يعجبك أيضا